قديما كنت أتردد على المكتبات لأقرأ الكتب الجديدة، وتصادفني في كثير من الأحيان كتب صغيرة بمقاس الجيب عنوان بعضها: كيف تتعلم الإنجليزية في ٥ أيام؟. حاولت كثيرا أن أحفظ الكلمات الموجودة في الكتيب والتعابير لأتحدث اللغة ولكن تمر أسابيع وشهور وأنا أراوح مكاني حتى فقدت الثقة في هذه الكتب. ونظرا للتسارع الذي يشهده العالم في ميدان الاتصال المؤسسي تربطني أحاديث مع بعض الشخصيات حول بناء الإدارات الاتصالية. بعضهم لديه إيجابية عالية في بناء الإدارات بسرعة تكاد تقارب سرعة تعلم اللغات في خمسة أيام، وبعضهم أصابه اليأس ودفعه رأيه للاستعانة بشركات اتصالية تساعده على إدارة الصورة الذهنية لمؤسسته. لكن المشهد الاتصالي يدور حول ٣ ركائز وهي الإنتاج الإعلامي، والتدريب والاستقطاب وذلك لبناء إدارة اتصالية لها قوة وحضور في المشهد الإعلامي اليوم.

ولعل من أبرز المتغيرات الحديثة اليوم هو دخول الثورة الرقمية والاعتماد على الذكاء الاصطناعي ومنصات الإعلام الجديد بالإضافة إلى تغير سلوكيات الجمهور المحيرة. وفي السياق السعودي تأتي رؤية السعودية ٢٠٣٠ بوصفها إطارًا استراتيجيًا لإعادة تشكيل بنية المؤسسات الحكومية والخاصة، وجعل الاتصال رافعة أساسية لتحقيق التحول الوطني. هذه الرؤية جعلت المشهد الاتصالي يتسارع بشكل رهيب ودفع المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والقطاع الخاص للتفاعل مع المجتمع لبناء صورة ذهنية تبرز رشاقة الحكومة، وتظهر دورة المشاريع والمنجزات التي تتعاظم يوما بعد يوم. هذه المتغيرات جعلت من الضرورة بمكان صناعة إدارة اتصالية تكون رافعة لشأن الجهات المختلفة.

وهناك رغبة لدى كثير من القياديين في مختلف الجهات إلى تطوير تلك الإدارات من مجرد نشر تغريدات على منصة إكس أو نشر بيانات ورد على استفسارات إلى كون هذه الإدارات مراكز استراتيجية لإدارة السمعة وبناء الصورة الذهنية وصناعة المحتوى. وكون ذلك مهما، بسبب أن قياس الرأي العام وتحليل اتجاهاته أصبح معتمدا بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي. كما أن إدارة الأزمات الإعلامية وتعزيز الشفافية أصبحت ضرورية وتحتاجها الجهات بشكل مستمر نظرا لمتابعة الجمهور الدقيقة لتلك الجهات، وكونه أصبح واعيا وحاضرا في المنصات الرقمية بشكل مستمر. هذه العوامل وغيرها تدفع الجهات مرغمة إلى تطوير قطاعها الاتصالي للوصول إلى رضا المستفيد.

بيد أن كثير من التحديات تواجه بناء إدارات اتصال رقمية محترفة مثل التحول الرقمي السريع، وهو ما يتطلب تدريبا وتحديثا مستمرا للمهارات. وإدارة الكم الهائل من البيانات والمصحوب بالثقة والمصداقية ومواجهة الأخبار الزائفة والمضللة لأن أي خلل في البيانات يهز المصداقية وبالتالي يؤثر على سمعة المؤسسة وصورتها الذهنية. وكذلك نقص الكفاءات المتخصصة وهذا الأمر يدفع إلى تدريب واستقطاب المتخصصين في مجال الاتصال المؤسسي. وقد استثمرت الكثير من الحكومات في مجال تطوير الاتصال المؤسسي، فمثلا في بريطانيا طورت الحكومة برنامجا أسمته “Government Communication Service” والذي يعزز الكفاءة من خلال تدريب موحد للاتصاليين وربط السياسات الحكومية مباشرة بخطط اتصال متكاملة. أيضا سنغافورة اعتمدت على استراتيجيات الاتصال التفاعلي التي تدمج البيانات الضخمة مع الحملات الوطنية، ما جعلها نموذجًا عالميًا في إدارة الاتصال الحكومي. هذه التجارب الحكومية تدفع الجهات المرتبطة بها إلى مواجهة التحديات وتقديم أفضل الممارسات لتطوير الاتصال المؤسسي.

بقي القول، إنه لا يمكن بناء إدارة اتصالية في خمسة أيام، بل لا بد من بناء إدارات اتصال قوية ومرنة في سياق رؤية ٢٠٣٠. هذه الإدارات ليست مجرد وحدات تنفيذية، بل أذرع فكرية تدير السمعة الوطنية وتبني الثقة مع الداخل والخارج وتترجم المشاريع العملاقة إلى قصص نجاح تصل للعالم. إن السعودية بمختلف قطاعاتها قادرة من خلال الاستثمار في الكفاءات والشراكات الدولية، على أن تصبح نموذجًا عالميًا في الاتصال المؤسسي في العصر الرقمي. وهذا يدفع مختلف الجهات لبناء إدارات اتصالية على المدين المتوسط والبعيد.

شاركها.