في المشهد الثقافي المصري والعربي يظلّ اسم الشاعر والصحفي سيد محمود حاضراً بخصوصيته المزدوجة، فهو الصحفي والشاعر؛ الشاعر الذي توقّف عن النشر ولم يتوقّف عن الكتابة، والصحفي الذي ما زال يطارد (صاحبة الجلالة) رغم خوفه وقلقه عليها!

في هذا الحوار حاولنا الاقتراب أكثر من طفولته وبداياته في الصحافة ورؤيته للأدب والثقافة وأحلامه.. فإلى نصّ الحوار:

• حدثنا عن طفولتك ابتداءً.

•• كانت طفولتي عادية جداً، تليق بأبسط فئات الطبقة الوسطى، والدي نزح من الصعيد في أوائل الستينيات واستقر في ضاحية على أطراف القاهرة مع آخرين من عائلته تُسمى حلوان وتبعد عن وسط المدينة 25 كيلومتراً، كانت تبدو بعيدة جداً بمعايير الطفولة، لا يربطها بالعاصمة سوى قطار شهير ظهر في فيلم (ضربة شمس) لنور الشريف وطريق بامتداد كورنيش النيل، وطريق آخر يمثل سواراً حول القاهرة.

كان أبي من بين هؤلاء الذين زودتهم (الناصرية) بهوية جديدة، التحق بالعمل في أحد هذه المصانع وكان من الملايين الذين استفادوا من ثمارها، وبالتالي أتيح لي ولإخوتي أن نسكن في مساكن العمال، وأن نتلقى التعليم في مدارس بلا مصروفات، وتلقيت تعليمي طفلاً في أحد الكتاتيب الملحقة بأحد المساجد ثم دخلت المدارس الحكومية.

• علاقتك بالقراءة، كيف بدأت؟

•• بدأت معي من (الإعدادية) مع اكتشاف المكتبة المدرسية، كنا مولعين بأنيس منصور ومصطفى محمود، وبفضل أمينة المكتبة حصلت على أول جائزة في حياتي ارتبطت بالقراءة؛ (مقلمة صاج) عليها خريطة الوطن العربي وقلم حبر وشهادة استثمار للبنك الأهلي قيمتها 10 جنيهات وكانت مبلغاً له قيمة أمام مصروف طفل، وفي المرحلة الثانويّة، إثر اللقاء برفاق جدد في فصلي كانوا ذوي صلة عميقة بالقراءة لديهم ثقافة دينية بالأساس لكنها تتسع لتشمل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وما أزال أذكر المتعة التي وجدتها مع كتاب (تحت شمس الفكر) لتوفيق الحكيم الذي قرأته في ليلة واحدة بترشيح من صديقي محمد عبدالعاطي ثم استيقظت لشراء نسخة لا تزال معي، وأصبحت فاعلاً في جماعة قراءة كانت تنتظم في جلسات داخل مكتبة، قرأت توفيق الحكيم قراءة كاملة ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس وكل موجات القراءة التي كانت منتشرة في السنوات الأخيرة من الثمانينيات. قرأت في تلك المكتبة روايات لنجيب محفوظ في شهر ظهورها مثل (أفراح القبة) ما يعني أن الدولة كانت واعية بمسؤولياتها قبل أن يأتي عهد الخصخصة.

• ماذا عن وشائج القربى مع الصحافة؟

•• بداياتي الصحفية تشكلت بشكل غامض جداً، أنا درست (تاريخ)، وكنت أكتب شعراً غنائياً، وأشارك في كتابة بعض الأغنيات المرافقة لمسرحيات، وأقوم بإعداد بعض المسرحيات لصالح فرقة أسسها صديق في الجامعة وهي فرقة (الشظية والاقتراب) للمخرج محمد أبو السعود الذي رحل قبل خمس سنوات ونال جوائز عدة وشارك في مهرجانات دولية.

وخُصص لي باب في مجلة المسرح التي كان يرأس تحريرها الدكتور محمد عناني، وكنا نعد نشرة اتجاهات الرأي في الصحافة العربية، وبالتالي كنت أقرأ كل الصحف، وبما أنني أكتب وقتها في المسرح وشاعر، كُلِفتُ بتحرير القسم الثقافي، وقراءة كل ما ينشر عن الثقافة في الصحف العربية، والتركيز على قضيّة بعينها، وقرأت مقالاً في صحيفة (الحياة) وقرّرت أن أعقّب عليه، ذهبت وسلّمت هذا التعقيب لمكتب الصحيفة، ونُشر التعقيب. ثم عدت مرة أخرى، وفي العودة التقيت وقتها بالروائي إبراهيم أصلان، فدعاني للكتابة، وفي مرّة أخرى توفيت الصديقة سناء المصري ورأيت من الضروري أن أكتب تقريراً صحفياً عن مسيرتها، وذهبت به إلى مجلة (الوسط) التي كانت تصدر عن صحيفة (الحياة) والتقاني هناك صحفي جميل هو محمد الشاذلي ورحّب بي وعاملني بدلال، ونشر التقرير، ومن خلال النشر في مجلة الوسط جئت مرة بموضوع آخر. وتعاونت مع صحيفة (الحياة)، ومع الصديق عبده وازن الذي أسهم مساهمة كبيرة في تكريس اسمي وتقديمي، وعملت في صحيفة (الدستور) التي يرأس تحريرها إبراهيم عيسى وكان هذا هو إصدارها الأول، وكانت (الأهرام) تؤسس مجلة (الأهرام العربي) فتلقيت عرضاً من الصديق إبراهيم داوود للعمل في (الأهرام) وكانت هذه نقلة مهمة داخل مصر.

• من كان له التأثير الأكبر على توجهك المهني؟

•• أعتقد أن أكثر شخص كان له تأثير أكبر على توجهاتي المهنية هم ثلاثة أسماء أو أربعة، أولهم رئيس تحرير مجلة «الهلال» كامل زهيري صحفي، وأحمد بهاء الدين، وصلاح عيسى، و الصحفي الكبير محمود عوض.

• ما التحديات التي واجهتها في العمل الثقافي الصحفي مقارنة بالأنواع الأخرى من الصحافة؟

•• التحدي الرئيسي الذي واجهني في العمل في الصحافة الثقافية، تمثل في أن القسم الثقافي ليس مهماً ويمكن التضحية بصفحاته إذا جاء الإعلان، لأنّ الإعلان هو من ينفق على الصحيفة وهو من يسهم في تدبير الرواتب، وهناك أشخاص يقدمون الدعم للصفحات الثقافية، منهم إبراهيم عيسى، وكان أستاذاً في صياغة العناوين؛ وتعلمت الدرس في طريقة الكتابة، وصياغة العناوين، الجاذبية، وكلها دروس مع تراكم التجربة والخبرة أفادتني كثيراً.

• كيف ترى التحولات التي شهدتها الصحافة الثقافية في مصر والعالم العربي خلال العقدين الأخيرين؟

•• هناك تحديات عامة يمر بها الجميع، طبيعة المنافسات الرقمية التي تتيح شبكة هائلة من المعارف، أنا غير قلق على الصحافة إلاّ الصحافة العربية، لأن الصحافة العربية تستهلك الوسائط كما تستهلك موضات الملابس والماركات.

• كيف يمكن الاحتفاظ بالقارئ؟

•• هناك بعض التجارب التي تؤكد أن القارئ موجود لكنه بحاجة إلى من يذهب إليه بطريقة ذكية، منها تجربة عزت القمحاوي في مجلة (الدوحة) لفترة وجيزة، والصديق أحمد زين في مجلة (الفيصل) تنفتح على قرّاء جدد، وتجربة رجاء النقاش الملهمة للجميع سواء في مجلة (الهلال) أو في مجلة (الدوحة) خلال الثمانينيات.

• لماذا اختفى الشاعر سيد محمود وحضر الكاتب والصحفي؟

•• بالنسبة لاختفاء الشعر، أنا أعتقد أنّ اختفاء الشاعر مرتبط باختفاء الشعر، الشعر اختفى من الحياة الأدبية بشكل كبير جداً. لم أقدم نفسي للحياة الأدبية شاعراً إلاّ في الفترة الجامعيّة وما جاء بعدها بقليل. منذ أن مارست العمل الصحفي أردت الفصل بين دور اللاعب وبين دور الحكم.

الشاعر يستطيع أن يكتب كلّ يوم لكنه لا يستطيع أن يكتب ما يرغب في كتاباته كل يوم. أنا أكتب ولا أنشر، أحبّ الشّعر ولا أريد أن يتحوّل إلى مهنة. الشعر ليس مهنة ولا ينبغي أن يصبح كذلك، وفي كل الأحوال لا أعتبر نفسي شاعراً محترفاً.

• هل ما زالت الثقافة في مصر بخير؟

•• الثقافة في مصر بخير بطبيعة الحال، أنا أعتقد ذلك لأنّ لدينا مؤشرات. إذا كانت الجوائز الأدبية العربية مؤشراً فالترشيحات المصرية في الصدارة وتحظى بنصيب الأسد في كل الجوائز. رغم كل المشاكل الاقتصادية هناك توسع في عدد القراء. الزيادة واضحة في عدد الطبقة الوسطى التي تستهلك الكتب وتتعامل مع الوسائط في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وتعتني عناية كبرى بالمحتوى الثقافي. هذا بالنسبة للأجيال الجديدة، هناك رصيد كبير في الثقافة المصرية أعتقد أنّه غير مهدّد بأيّ حال من الأحوال. ما حدث أنّ هناك صعوداً لمراكز ثقافية عربية أخرى، الخليج يسهم بفعاليّة الآن في المشهد الثقافي العربي، وهذا أمر طبيعي بعد سنوات التحديث. المغرب العربي بدوله المختلفة يساهم ويقدم دفعات كبيرة للعمل الثقافي، سواء من خلال مساهمات الأفراد أو من خلال المهرجانات ذات تأثير وفاعلية مثل (قرطاج) و(أصيلة) أو بعض لأنشطة التي تظهر في تونس أحياناً. كل ذلك يقول إن المشهد الثقافي متغيّر.. لم تعد العواصم التقليدية بيروت أو القاهرة أو بغداد أو دمشق تؤدي الأدوار نفسها لتغييرات مختلفة، بعضها سياسي سلبي وبعضها إيجابي. لكنّ الجانب الإيجابي أنّ هناك اتساعاً أكثر في المساحة الثقافية ومراكز متعددة، تعدد أفاد كثيراً الحياة الثقافية. الجوائز الأدبية أيضاً ساهمت مساهمة كبيرة في أن تثير الجدل والنقاش على مواقع التواصل الاجتماعي وتسمح باشتباك دائم ومستمر مع الإنتاج الثقافي، وهذه ميزة، لأنّ الإنتاج الثقافي لم يعد حكراً على فئة المثقفين.

• حوار أجريته مع مثقف عربي ولا تنساه، ولماذا؟

•• بالنسبة للحوار العربي الذي لا يمكن أن أنساه، هذا سؤال صعب، لأنني أجريت حوارات هائلة مع أسماء كثيرة ومهمة، لكن أعتقد أنّ حواري بالتزامن مع أحداث غزة مع الكاتبة الفلسطينية سوزان أبو الهوى وهي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية كان الأصعب. لم أُجْرِ حواراً وأنا أريد أن أبكي إلاّ بعد هذا الحوار. أنا تأثرت كثيراً بما قالته سوزان أبو الهوى التي جاءت من أمريكا مع فريق من المتطوعين من جنسيات مختلفة لتوثيق ما يحدث في غزة. أنا تألمت بالفعل وفي لحظة من الحوار لم أعد قادراً على أداء المهمة لأنّ الطبقة التي كانت في صوت سوزان أبو الهوى صاحبة كتاب (عندما ينام العالم) من الصعب تجاوزها أو تخطيها. هذه مسألة مؤلمة جداً بالنسبة لي وكانت الحقيقة شديدة الألم. أنا بكيت بالفعل، وأتذكر أنني بعد أن أنهيت الحوار وكنا في أحد فنادق الزمالك مشيت لفترات طويلة بلا رغبة في الحديث مع أحد أو الجلوس لكيلا أستعيد هذه اللحظة. كنت أرغب بالسير في طريق لا ينتهي، فعلا كان يوماً قاسياً جداً.

في المقابل أحبُّ حوار أجريته مع الطيب صالح، لأنه كشف لي معدنه الطيب، وبساطته الآسرة، ولن أتحدث عن محمود درويش لأن الحديث عنه صار مستهلكاً.

• الجوائز الأدبية العربية، هل ترى أنها خدمت الإبداع؟ أم جنت عليه؟

•• الجوائز انتقلت بالأدب من فضاء محدود ومتعلق باستهلاك فئة محدودة بعينها إلى ربطه بدوائر أوسع وتأثير أكثر اتصالاً مع الجمهور رغم شبهة التسليع والمنافسة، إلاّ أنني أعتقد أن القارئ الذي يتورط مع كتاب ويحبه هو بالضرورة يتورط مع القراءة ويستطيع مع الانخراط في هذه المسألة أن ينمّي ذائقته ويجعلها دائماً في وضع أفضل، وبالتالي يصبح قادراً على النجاة من فخ الاستهلاك.

أي عمل أدبي هو عرضة للقبول أو الرفض. لا يوجد إجماع في الأدب كما لا يوجد إجماع في الأديان والفلسفات. هناك دائماً انقسام واستقطاب. يمكن أن أختار رواية ولا تعجب صديقاً يتعامل معي بشكل يومي. يمكننا أن نتوافق على المعايير، لكنّ الذائقة تبقى صاحبة الدور الأكبر.

• سلطة الجمهور اليوم، هل تشكّل خطراً على الكاتب والصحفي؟

•• دائماً الجمهور فيه فكرة فاشية إلى حدّ ما، يمكن أن تقود الكاتب أو الفنان إلى أزمات، الآن (السوشل ميديا) وبالذات مواقع التواصل الاجتماعي كـ(الفيسبوك) أو (تويتر) أحياناً تستدعي الكتّاب إلى معارك هم في غنى عنها أصلاً. يمكن لقارئ أن يكتب رأياً في كتاب فيقوم المؤلف بالردّ عليه ولدينا عشرات الأمثلة على هذا النوع من الاشتباكات. أعتقد أنّ هناك ميزة في تواصل القارئ المباشر مع الكاتب، دون حواجز من أي نوع لكن الإشكال أنّ بعض الكتّاب تحولوا إلى أطراف في المسألة وهنا يكون المأزق، وبالتالي فسلطة الجمهور موجودة في مناصرة كاتب أو دعمه ومقاطعته. لكن، مع التواصل الاجتماعي وامتلاك ديموقراطية الوسيط أصبح الأشخاص لديهم دائما قدرة في إبداء الرأي وأحياناً يكون هذا الرأي مؤسساً على معرفة وأحياناً لا يكون. الأمر الذي يمكن أن يسبب مشكلة كبيرة جداً.

• كتابك (المتن المجهول) هل كنت تريد من خلاله أن تلفت الانتباه إلى دور مصر في تشكّل محمود درويش الثقافي والسياسي؟

•• فكرة الكتاب جمع ما نشره في مصر في فترة قضاها في مصر وغير ملتفت إليها بالشكل الذي يلازمه. محمود أقرّ لي بأنه غادر مصر بسرعة ولم تكن متاحة أمامه فرصة جمع ما نشره في صحيفة (الأهرام) مثلاً ليلتحق بكتب باستثناء مقال واحد! كان سيكتب لي المقدمة ولكن بعد موته أصبحت هناك أسئلة: في أي سياق جاء؟ ولماذا جاء؟ ومتى جاء؟ هذه الأسئلة كانت بحاجة إلي إجابة، واشتغلت عليها بروح المؤرّخ وأدواته لتفسير الفترة وربطها بالسياق المتعلّق بتجربة محمود درويش.

• ماذا عن أحلام سيد محمود العامة والخاصة؟

•• لا أريد أن أقول ما قاله بريخت: «كيف يمكن أن أتحدث عن الوردة والدم في الشوارع؟». أعتقد أنّ هناك تحدياً إنسانياً فظيعاً. من المؤلم أن نشهد جميعاً حالة السيولة في العالم. العالم اليوم يفتقد إلى عقل راشد وعقل جديد يستطيع أن يدير أيّ صراع. ربما تكون أمنيتي العامة أن تتوقّف كل حالات الانتهاك الإنساني. الإنسانية منتهكة، وأظلّ بالشهور غير قادر على مشاهدة التلفزيون. التلفزيون لديّ جثة هامدة لايتم استدعاؤه إلاّ في رمضان، لأنني ورغم عملي الصحفي أخاف من نشرات الأخبار!

أخبار ذات صلة

 

شاركها.