باريس – في قاعة نابليون العريقة بمتحف اللوفر حيث تلتقي أصداء الحضارات وتتمازج خطوط الزمن وقف الزائرون في خشوع صامت أمام ما يشبه عودة المماليك، لا كفرسان مدججين بالسلاح، بل كأرباب فن وحماة حضارة وصناع جمال.
معرض “المماليك 1250-1517.. إمبراطورية من حديد ونور” ليس مجرد استعادة لحكم قوي في قلب الشرق، بل استحضار لحضارة قاومت الموت بالحبر والاندثار بالعمارة، والنسيان بالفن.
وفي العاصمة باريس -التي تعتبر مدينة المتاحف والذاكرة- يفتح اللوفر ذراعيه لحقبة تاريخية ظلت طويلا حبيسة الكتب: زمن المماليك، وفي أروقة المتحف وعلى جدران تعودت أن تروي حكايات الرومان والإغريق يسطع من هناك بريق مختلف، بريق المشرق.
سلطنة الحديد والحرير
يعرض المعرض أكثر من 250 قطعة نادرة جُمعت من متاحف ومؤسسات عالمية، من خوذات وأسلحة منقوشة، مزهريات من الزجاج المزخرف، ومخطوطات قرآنية كتبت بخط النسخ الرشيق، كلها تحكي عن حضارة ازدهرت رغم أنف التاريخ.
قالت مديرة قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر ثريا نجيم إن هذا المعرض مهدى إلى سلالة المماليك القائمة على تسلسل هرمي قوي سد الفجوة بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ويقع في موقع جغرافي مركزي وسط طرق التجارة.
وأضافت نجيم في حديثها للجزيرة نت “استقر المماليك في عاصمتين رئيسيتين هما القاهرة ودمشق، بالإضافة إلى جميع مدن الشرق الأدنى، خاصة تلك الواقعة على ساحل بلاد الشام التي تحمل في طياتها بصمة هذا الفن المملوكي، من القاهرة إلى دمشق، مرورا بغزة وحلب، ثم طرابلس في لبنان، وصولا إلى جنوب شرق تركيا”.
وأشارت القيمة العامة على المعرض إلى أنه الأول المخصص للفنون الإسلامية منذ نحو 15 عاما في متحف اللوفر، وهو أيضا الأول من نوعه في أوروبا وثاني معرض رئيسي مخصص للمماليك منذ أكثر من 50 عاما، وتحديدا منذ عام 1981 بالولايات المتحدة.
كما أوضحت أن مجموعة متحف اللوفر تعد من أهم مجموعات الفن المملوكي في أوروبا، مشيدة في الوقت ذاته بالتعاون الذي تم مع عدد من المؤسسات الشريكة حول العالم، خاصة متحف قطر للفن الإسلامي في الدوحة الذي ساهم بتحف نادرة واستثنائية.

رجال الحرب ورعاة الجمال
يهدف المعرض إلى تجاوز ما هو متعارف عليه في تاريخ المماليك، خاصة الطبقة العسكرية ونظامها السياسي الفريد لاستكشاف مواضيع جديدة، مثل المواهب الفنية وتنوع المجتمع وثرائه الهائل، فضلا عن دور المرأة وأعمال الخطاطين والعلماء والفنانين العظماء.
فكل تفصيل في المعرض ينطق، هنا مشكاة من زجاج مزخرف، وهناك درع نحاسي يحمل اسم أحد السلاطين بخطوط هندسية كأنها بنيت لتقاوم الزمن، وفي الجهة الأخرى صفحة من مصحف كُتب بالمداد الذهبي الشامي.
ويشرح الجزء الأول من المعرض تاريخ السلطنة والنخبة العسكرية، كما يستعرض تاريخ عهود سلاطين المماليك الكبار، ولا سيما عهد الناصر محمد بن قلاوون الذي حكم في النصف الأول من القرن الـ14.
وفي هذا الجزء -الذي يحمل اسم السلطان- توجد قطع نادرة، من أهمها مبخرة رائعة الجمال محفوظة في متحف الفن الإسلامي بالدوحة، مطعمة بالذهب والفضة، وهي مثال بديع على فن تطعيم المعادن الذي بلغ ذروته في العصر المملوكي.
ويتميز عرض القطع بسلاسة فريدة من نوعها بعيدة عن أي تناقض، فنجد السيف إلى جوار الكتب الدينية، والخوذة إلى جانب المزهرية، ولعل سر المماليك يكمن في هذا التجاور، أي أنهم كانوا بالفعل رجال حرب لكنهم في الوقت ذاته رعاة للفن والجمال وصناع هوية.

كنوز الشرق
يوجد قسم مخصص للدين الإسلامي وممارساته خلال العصر المملوكي، مع مجموعة مختارة من المصاحف المزخرفة الرائعة، بما في ذلك مصحف ضخم يشبه تلك المصاحف التي صنعت في أواخر القرن الـ14 للمباني الدينية العظيمة التي أسسها السلاطين، خاصة في القاهرة.
وفي وصفه، قالت مديرة المعرض كارين جوفان “هذا المصحف محفوظ في متحف مانشستر ويتميز بزخارف ذهبية غنية ومشرقة يهيمن عليها الذهب وزرقة اللازورد، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من الألوان ومجموعة زهور تتضمن عناصر صينية مثل زهور اللوتس، والتي غالبا ما نجدها في فن المماليك من تلك الفترة”.
ويعد الجانب الأدبي من بين أهم الجوانب الثقافية في عهد السلطنة المملوكية التي خلفت عددا هائلا من المخطوطات المرسومة والشعرية التي تميزت بضخامتها وشمولها وتنوعها وجودتها العالية.
ومن بين هذه الممارسات الثقافية تذكر جوفان في حديثها للجزيرة نت “مسرح الظل” الذي يعود إلى العصر المملوكي “كانوا يروون من خلاله قصة المماليك الذين تم شراؤهم وهم أطفال، وأُخذوا من عائلاتهم، وتلقوا تعاليم الدين الإسلامي وفنون الحرب وأصبحوا محاربين عظماء”.
كما يناقش المعرض الممارسات العلمية حيث شهدت تلك الفترة بناء مستشفيات مهمة في القاهرة وسوريا، خاصة في حلب.
كما شهد علم الفلك تطورا ملحوظا، وبرز علماء فلك عظماء في دمشق وحلب في القرن الـ14، فضلا عن علوم الفلك والتكهن التي كانت شائعة بين عامة الشعب.

المرأة والمجتمع
وأشارت جوفان إلى أن الجزء الثاني من المعرض يناقش المجتمع المملوكي برمته، بما يتجاوز النخبة العسكرية “نعرض فيه قطعا أثرية مرتبطة بالنخبة المدنية حيث كانت الحياة الحضرية -بلا شك- جوهرية في المجتمع المملوكي من خلال تسليط الضوء على مختلف مكونات المجتمع والجانب الثقافي المتعدد”.
كما يتضمن المعرض قسما كاملا عن المرأة في المجتمع المملوكي من خلال بعض القطع والمخطوطات، وهو جزء من دراسة حول مكانة المرأة ودورها ضمن الأبحاث الحديثة التي يقدمها المعرض.
ومن بين القطع البارزة الإبريق الفاخر المحفوظ في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، والمسجل باسم السلطانة فاطمة زوجة السلطان قايد بك الذي حكم في نهاية القرن الـ15، وهي امرأة من عائلة ثرية وامرأة أعمال بارعة عرفت كيف تنمي ثروتها خلال فترة حكمها، وبشكل استثنائي لدينا 7 قطع تحمل اسمها.
كما يتناول المعرض الثقافات المختلفة التي تعايشت وتشابكت داخل السلطنة، ويشمل ذلك الثقافة العسكرية لنخبة المماليك، والمعروفة باسم الفروسية، من خلال مجموعة مختارة من الأسلحة والدروع، بالإضافة إلى مخطوطات ورسائل حول الفروسية والفنون العسكرية، وفق جوفان.
بدروها، ترى مديرة قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر ثريا نجيم أن فن المماليك يتميز بحيوية وثراء لا يصدق، ويربط بين مختلف الأيقونات والأساليب في قالب يتسم بالنضج والحداثة، مؤكدة “لو خُيّرت لوصف فناني المماليك لوصفتهم بالفعل بفناني الغرافيك الحقيقيين ومصممي ما تسمى العصور الوسطى”.
وتعتبر نجيم أن معمودية القديس لويس من أبرز أعمال قسم الفنون الإسلامية في اللوفر، وهي مصنوعة من النحاس المطروق ومطعمة بالذهب والفضة والنيلو (خليط معدني أسود يستخدم لحشو الزخارف المحفورة أو المنقوشة على المعادن خصوصا الفضة والنحاس والبرونز)، وقد صنعت في المنطقة السورية المصرية في النصف الأول من القرن الـ14 قبل أن تصل إلى أوروبا في القرن الـ15، حيث استُخدمت كمعمودية لأبناء العائلة المالكة الفرنسية، ولا سيما لويس الـ13.

أرض السفر والتبادل
وبفضل موقع سلطنة المماليك الإستراتيجي ركز جزء كبير من المعرض على العلاقات بينها وبين المناطق المحيطة بها، سواء كانت قريبة كالإمبراطورية المغولية شرقا أو العثمانية، أو أبعد جغرافيا كأوروبا والمحيط الهندي على حدود الصين.
وفي هذا السياق، أوضحت كارين جوفان أن السلطنة شكلت حلقة الوصل بين تجارة المحيط الهندي والتوابل والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، كما كانت ملتقى طرق الحجاج، سواء كانوا حجاجا مسلمين يمرون عبر السلطنة في طريقهم إلى مكة، أو حجاجا مسيحيين أو يهودا متجهين إلى الأراضي المقدسة.
وأضافت “لقد كانت بحق أرضا للسفر والتبادل، وانعكس ذلك على الثقافة المادية للسلطنة، لذا نستعرض العديد من القطع التي تجسد هذه التبادلات مثل القطع الخزفية من نوع ألبريل التي صُنعت في سوريا ومستوحاة من زخارف زرقاء وبيضاء من الفن الصيني”.
وتابعت “كما تحمل المزهرية الخزفية شعار النبالة الأوروبي لمدينة فلورنسا، مما يدل على أنها صُنعت بناء على طلب خاص من قبل مؤسسة في هذه المدينة الإيطالية، وبالتالي للسوق الأوروبية”.
ويحكي الجزء الأخير من المعرض للفن المملوكي إنجازات تلك الفترة العظيمة والتقنيات الرئيسية التي بلغت ذروتها خلال تلك الحقبة، مثل الأعمال الخشبية ذات الزخارف المجمعة والمطعمة، بالإضافة إلى الأعمال المعدنية وفن النسيج والزجاج المزين بالمينا.
ولا تحتفي قاعات معرض المماليك بفن شرقي فقط، بل تعيد الاعتبار إلى صفحة كادت تنسى، وتذكّر الزائر الغربي والعربي على حد سواء بأن التاريخ ليس ملك المنتصرين فقط، بل هو أيضا صوت النحاس حين يُطرق بكرامة وحنكة عسكرية، وحبر من الفنون والكنوز التي تسكب لتبقى خالدة.