في أعماق جبال الأنديز شمال البيرو، تدور حرب خفية ودامية على الذهب، حيث أصبح المعدن الأصفر لعنةً كما هو نعمة، ففي قرية باتاز الغنية بالمعادن الثمينة، وتبعد نحو 200 كيلومتر عن مدينة تروجيو، ثالثة مدن البيرو، تفجّرت اشتباكات بين عصابات مسلحة، وعمال مناجم غير شرعيين، وشركات تعدين مرخصة، مدفوعةً بارتفاع أسعار الذهب العالمية إلى مستويات قياسية تجاوزت 3000 دولار للأوقية.
لكن هذه المواجهات لا تحدث على سطح الأرض، بل في شبكة أنفاق متشعبة تمتد لأميال داخل جبال باتاز، ففي أواخر مايو الماضي وُجدت جثث 13 عنصر أمن مقتولين بالرصاص، وأيديهم مقيدة وآثار التعذيب بادية عليهم، داخل أحد أنفاق المناجم التابعة لعامل منجم مرتبط بشركة «بوديروسا»، التي تعد أكبر شركة تعدين في تروجيو.
هذا الحادث الوحشي دفع الحكومة البيروفية إلى إعلان حالة الطوارئ، وإرسال مئات الجنود والشرطة إلى مقاطعة باتاز، وفرض حظر مؤقت على التعدين باستثناء شركة «بوديروسا».
وعلى الرغم من الإجراءات الصارمة، قال السكان المحليون إن هذا الحادث ليس سوى غيض من فيض في صراع طويل ودموي خلّف العديد من الضحايا الذين «اختفوا» في شبكة من أكثر من 450 نفقاً تحت الأرض.
لحظات من الرعب
وعلى عمق 500 متر داخل أحد المناجم، خرج ثلاثة رجال مسلحين ببنادق عسكرية من الظلام للتحدث إلى صحافيين من صحيفة «الغارديان» البريطانية، حيث قال قائد هذه المجموعة المسلحة: «نحن نعيش لحظات من الرعب»، وعندما سئل عن عدد المعارك التي خاضها مع اندلاع العنف في السنوات الأخيرة، أجاب: «هناك العديد من المواجهات، والعديد من زملائنا العسكريين قتلوا».
وأضاف قائد المجموعة أن عمل العصابات المسلحة هو سرقة المناجم من صغار عمال المناجم، أو استعادة المناجم التي تمت سرقتها من أصحابها وإعادة السيطرة عليها.
ويبدو أن اشتباكات الأسلحة النارية تحت الأرض أمر لا مفر منه، ويمكن أن تأتي الهجمات من جميع الجهات، حيث يسرق مسلحون يطلق عليهم اسم «باركيروس» الفلزات الصخرية الحاملة للذهب عن طريق حفر أنفاق من نقاط الربط، أو غزو المنجم من مداخل أخرى.
وتقوم العصابات بحرق الإطارات وضخ الدخان في الأنفاق لطرد عمال المناجم، أو مهاجمة حراس الأمن، كما حدث عندما قتل 13 رجلاً.
أجر كبير
وأفاد أحد الحراس الذي كان يغطي وجهه بقناع تعدين أخضر، ويضع يده اليمنى على بندقية نصف آلية من طراز «آر-15»: «نحن عائلة»، مشيراً إلى أن رفاقه الجنود كانوا يرتدون أحذية مطاطية وسترات واقية من الرصاص بينما كان الماء يرشح من السقف الصخري للنفق.
لم يكن يعرف هذا الحارس الكثير عن أسعار الذهب العالمية، لكنه كجندي سابق يعرف أنه يكسب أجراً أكبر مما يحصل عليه عامل المنجم، وأكثر بكثير من العمل في مدينة تروجيو.
واعترف بأنه «يشعر بالخوف»، لكن الأجر الشهري الذي يتقاضاه يعني أنه يستطيع إعالة أطفاله الخمسة، قائلاً: «كل ذلك من أجل الذهب، حيث تحوي باتاز ثروة ضخمة، ما يثير حولها الكثير من العنف، ولهذا فإنهم يطلبوننا للعمل هنا».
امتياز
ولأكثر من أربعة عقود استأجرت شركة «بوديروسا» امتياز تعدين من الحكومة يشمل جزءاً كبيراً من المقاطعة.
ومن الناحية الجيولوجية كانت جبال باتاز مليئة بعروق الكوارتز والبيريت الغنية بالذهب في جبال شديدة الانحدار، تتخللها مئات من آبار المناجم.
وقال رئيس جمعية التعدين الحرفي في باتاز، خوسيه توريفا، خلال إلقائه خطاباً أشعل حماس الجماهير أمام مئات العائلات المتجمعة في ملعب كرة القدم بالمدينة: «إنها نعمة، أينما تحفر الأرض تجد الذهب».
وأضاف توريفا، الذي يحقق معه حالياً بتهمة التعدين غير القانوني، وهو أشد المدافعين عما يسميه التعدين «الحرفي»: «من يحرك الاقتصاد هنا؟ نحن صغار عمال المناجم»، وكان يصرخ وسط هتافات سكان المدينة.
وتابع توريفا، الذي يملك شركات توفر متفجرات للمناجم، وتنقل مئات الأطنان من الفلزات التي تحوي الذهب إلى خارج باتاز كي يتم تنقيته على الشاطئ: «إنهم يجردوننا من حقنا الأساسي في العمل».
سجل «رينفو»
ولا يتم السماح ببيع الذهب لشركة «بوديروسا» إلا للمسجلين في سجل عمال المناجم غير الرسميين الذين يقال إنهم في طور إضفاء الصفة الرسمية لهم على التعدين، والذي يعرف بالأحرف الأولى «رينفو»
وخلال عقد من الزمن كان 2% فقط من نحو 84 ألف عامل منجم مسجلين لإضفاء الصفة الرسمية، والذين تُلزمهم الحكومة بدفع الضرائب واستخدام تقنيات تعدين نظيفة.
وفي وقت سابق من الشهر الماضي، قامت الحكومة بإلغاء 1425 عامل منجم في باتاز من سجل «رينفو»، ما يعني أنه لم يعد بمقدورهم بيع خامهم لشركة «بوديروسا» ولا العمل بصورة شرعية.
أمر شائع
لكن على الرغم من ذلك لايزال التعدين من دون تصريح حكومي أمراً شائعاً، حيث يشعر العديد من عمال المناجم بالاستياء، مثل براندون سالدانا، البالغ من العمر 29 عاماً، نتيجة لعدم اعتبار صاحب العمل قانونياً، على الرغم من أنه يدفع الضرائب.
وقال سالدانا وهو يجلس مع زملائه من عمال المناجم داخل منجم، ويدخنون ويمضغون أوراق الكوكا الممزوجة بالليمون: «الجميع يجرموننا، ويقولون إننا غير قانونيين، لكن الأمر ليس كذلك، إنهم يصنفون الجميع التصنيف نفسه، وأحياناً يفتقر عامل المنجم غير الرسمي إلى وثيقة واحدة فقط ليصبح رسمياً».
ويكسب بعض أصدقاء سالدانا دخلاً أكبر بالعمل غير القانوني مع العصابات الإجرامية العديدة، بدءاً من العصابات المحلية مثل «لا غران فاميليا» و«لوس بولبوس» وصولاً إلى عصابة «ترن دي أراغوا» الفنزويلية التي استولت على مناجم فحم في البيرو. عن «الغارديان»
استغلال
بدأت العصابات المسلحة تستولى على مناجم الذهب في البيرو – سواء المحلية أو التي تأتي من دول الجوار – خلال جائحة «كورونا» عندما تفاقم الفقر، وأصبح العديد من سكان البلاد عاطلين عن العمل، حيث عملت تلك العصابات على تشغيل السكان بطريقة غير شرعية مستغلة ظروفهم الصعبة.
الرعب يسيطر على باتاز
باتاز كانت مثال القرية الأنديزية النموذجية. من المصدر
تأمل البيروفية، ديميشا جايمي (80 عاماً)، أن تتمكن باتاز من الرجوع إلى حالة الهدوء التي كانت عليها سابقاً.
وقالت: «تغيرت الحياة هنا بصورة كلية، ولم يعد هناك أمن ولا ثقة، حيث اختفى العديد من الأشخاص، وكل يوم نشهد الكثير من الوفيات، والرعب».
وتقع باتاز التي كانت في السابق نموذجاً للقرية الأنديزية على سفح جبل، وتضم ساحتها كنيسة بيضاء من العصر الاستعماري.
أما شوارعها الضيقة فقد أصبحت الآن تعج بسيارات الدفع الرباعي الجديدة عليها.
وأكدت شركة «بوديروسا» للتعدين والتي تبلغ قيمتها نحو ثمانية مليارات دولار، أنه ليس لها أي صلة بالرجال الـ13 الذين قُتلوا في أحد المناجم، الشهر الماضي.
لكن الضحايا كانوا يعملون لدى شركة «آر آند آر»، وهي شركة غير مسجلة تابعة لشركة «ليبمار»، والمملوكة لمالك بعض المناجم نيكولاس كويفا، والتي باعت شركته الذهب الخام لشركة «بوديروسا»، التي تشتري من 280 منجماً مسجلاً في المقاطعة، وتعالج الذهب في الموقع وتبيعه إلى كندا واليابان وسويسرا.
وقال كويفا للصحافة المحلية، إن «ليبمار» تنفق ما بين 16 ألفاً و20 ألف جنيه إسترليني شهرياً على الأمن، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن شركته تؤمن الدعم لعائلات الضحايا.
ومنذ حادثة مقتل الرجال الـ13 وظفت «بوديروسا» 1200 حارس أمن، وفق ما ذكره مدير الشؤون المؤسسية في الشركة بابلو دو لا فلور، الذي قال: «هذا يعني أن هناك حارسي أمن على كل عامل منجم، وعلى الرغم من ذلك كان من المستحيل السيطرة على هذا الحجم المروع من العنف».
وأضاف لا فلور، أن شبكات الجريمة المنظمة التي تقف وراء العصابات التي تسرق الخام، تمتلك موارد هائلة، متابعاً: «إنها استثمارات محفوفة بالمخاطر، تتطلب معدات ثقيلة، وجيولوجيين، ومهندسي تعدين، ورجالاً قتلة محترفين، ومعلومات داخلية».
عائلات الضحايا
أعربت شركة «بوديروسا» للتعدين عن «خالص تعازيها لعائلات الضحايا الـ13 الذين قتلوا على يد العصابات المسلحة في أحد المناجم».
وقالت إنها «على تواصل دائم مع شركة ليبمار التي كانوا يعملون فيها لضمان حصول العائلات المتضررة على الدعم اللازم».
لكن باتي كارانزا (23 عاماً)، أرملة أحد الضحايا، ويدعى فرانك مونزون، قالت إنها لم تتلق أي اتصال من «بوديروسا»، بل إنها تتلقى مكالمات هاتفية مجهولة المصدر تحثها على التزام الصمت.
ولاتزال ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات تجهل أن والدها لن يعود إلى المنزل أبداً. وتضيف: «لم يكن لدي الشجاعة لأخبرها بذلك، وهي تواصل السؤال عن والدها». وتعيش كارانزا في الطابق الثاني من منزل نصف مبني من الطوب في حي فقير اسمه «إل بورفينير»، في تروجيو.
وكان مونزون يكسب ما يزيد قليلاً عن 1000 دولار شهرياً، وهو أكثر مما كان يحلم به في المدينة، وكان هذا المال يغطي تكاليف بناء منزله.
وفي مايو الماضي، تم اعتقال شخص في كولومبيا يدعى ميغويل أنطونيو رودريغز، وهو سجين سابق بتهمة قيادة الهجوم الذي أدى إلى مقتل الرجال الـ13 وتم الحكم عليه بالسجن مدة ثلاث سنوات حبساً احتياطياً.
. العديد من ضحايا صراع مناجم الذهب «اختفوا» في شبكة تضم أكثر من 450 نفقاً تحت الأرض.