19/5/2025–|آخر تحديث: 10:05 (توقيت مكة)
بيروت – في الذكرى الـ77 لنكبة فلسطين، تتجدد الأسئلة، وتُفتح الجراح من جديد، في وقت لا يزال فيه الشعب الفلسطيني، في الداخل والشتات، يواصل صموده في وجه احتلال لم يتوقف منذ عام 1948. أكثر من 7 عقود من التشريد والمجازر والعدوان المتواصل لم تُفل من عزيمة مجتمعٍ حمل قضيته بكل مكوناته، وواجه المشروع الاستعماري من مواقع متعددة، من الفلاح المتمسك بأرضه إلى المعلم والمقاتل والفنان والمثقف.
وسط محاولات إسرائيل المستمرة لطمس الرواية الفلسطينية وتزييف التاريخ، تبرز الثقافة والفنون كإحدى خطوط الدفاع الأخيرة في معركة الوعي والهوية. فهي لم تكن يوما ترفا فكريا أو نشاطا هامشيا، بل شكلت عنصرا جوهريا في تثبيت الرواية الفلسطينية ونقلها إلى الأجيال. فالفن بات بمثابة شهادة موثقة، والمسرح صار بمثابة محكمة، أما الرواية فهي سجل تاريخي.
وقد أثبتت التجربة الفلسطينية الممتدة منذ عام 1948 أن الإبداع لم يكن يوما خارج إطار المواجهة بل في صميمها. فالفن والمثقف المنحاز إلى شعبه لعبا دورا محوريا في تشكيل ذاكرة مقاومة، لا تزال حية رغم محاولات الإبادة والصمت الدولي. النكبة ليست مجرد حدث مضى، بل واقع يتجدد كل يوم، يروى بالحكاية والصورة والنغمة، ويصان في الذاكرة الجمعية كجزء من الفعل النضالي.
ومن هنا، لا تبدو الذكرى الـ77 للنكبة مجرد وقفة تأمل في مأساة متواصلة، بل لحظة تأكيد جديدة على أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة والفنون في معركة التحرر الوطني، فالثقافة ليست رديفا للنكبة بل نقيضها، وهي في جوهرها فعل بقاء، وإعلان حياة ومقاومة لمحاولات الإلغاء والطمس.
ذاكرة اللجوء
في هذا السياق، تكتسب جهود التوثيق أهمية متزايدة، لا سيما في ظل استمرار التهجير وتبدل الجغرافيا، ويؤكد الكاتب والصحفي الفلسطيني محمد دهشة أهمية توثيق القضية الفلسطينية، بما في ذلك واقع المخيمات في لبنان وحكايات اللجوء، لما يحمله هذا التوثيق من بعد إنساني وتاريخي وسياسي. وقد كرّس كتابه الأول “عين الحلوة” لرصد حقبة زمنية حديثة تمتد من عام 1991 حتى 2018، تناول فيها التحولات السياسية والأمنية، واعتبرها من أكثر الفترات تأثيرًا في مسيرة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
أما في كتابه الثاني “حكايتي مع اللجوء”، فقد اختار السرد الأدبي لتوثيق حكايات اللاجئين، بأسلوب يمكن وصفه بـ”الأدب الشعبي الفلسطيني المستلهم من الواقع”، حيث تتجلى فيه حقيقة مجردة مفادها أن “حياتنا كلها معلقة بفلسطين، من صرخة الولادة حتى غمض العينين عند الرحيل”.
ويقول دهشة في حديثه للجزيرة نت: “جاءت فكرة التوثيق من تجربتي الصحفية حيث واكبت عن قرب معاناة اللاجئين في المخيمات، وكنت صوت حلمهم بالعودة. أنا واحد منهم، ولدت بعيدا عن وطني، وعشت لاجئا في مخيم، تحت خيام أو داخل منازل صغيرة مغطاة بألواح الزينكو، وسط الفقر والحرمان، والترحال والمعاناة”.
ويشدد على أن أهمية التوثيق لا تقتصر على اللحظة الراهنة، بل ترتبط بسياق تاريخي طويل من الحروب من أجل فلسطين، بدءا من النكبة عام 1948، مرورا بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وهزيمة حزيران 1967، وصولا إلى اجتياح لبنان عام 1982، وما تبعه من اعتداءات إسرائيلية متكررة على لبنان ومخيماته في أعوام 1993، 1996، و2006، ويقول في هذا السياق: “كل تلك المحطات الفلسطيني تمسكا بحقه في العودة.”
ويضيف: “التوثيق هو جزء من دعم السردية الفلسطينية التي تبدأ بتفاصيل صغيرة، لكنها تصل إلى العمق والاتساع، إنها رسالة موجهة إلى كل الأجيال القادمة، بألا تفتر عزيمتها، وألا تستسلم لليأس، وأن تواصل الدفاع عن حقها في الحياة الكريمة والحرية واستعادة الأرض.”
من الجذور إلى الأجيال
في المسار نفسه، يشكل مشروع “هوية” نموذجا متقدما في حفظ الرواية الفلسطينية، ويقول مدير مؤسسة “هوية” ياسر قدورة للجزيرة نت: “شكل مشروع “هوية” مبادرة وطنية تهدف إلى حفظ الرواية الفلسطينية وتوثيق تفاصيلها، في مواجهة محاولات الطمس والإلغاء التي تفرضها الرواية الصهيونية. ينطلق المشروع من قناعة راسخة بأن لكل عائلة فلسطينية حكاية تستحق أن تُروى، وأن الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني تشكل سلاحا أساسيا في معركة الوجود والهوية”.
ويشرح قدورة أن المشروع يستند إلى مجموعة من الركائز الأساسية، بدأت أولها بتوثيق شجرة العائلة الفلسطينية، حيث يقول: “نجحنا حتى اليوم في تسجيل أكثر من 6300 شجرة لعائلات فلسطينية في الداخل والشتات، تعود أصولها إلى مختلف المدن والقرى الفلسطينية، وهي محاولة لإعادة وصل ما انقطع من صلات القربى التي مزقتها الجغرافيا وشتات اللجوء”.
ويتابع: “أولى المشروع اهتماما خاصا بالذاكرة الشفوية، فتمكنا من توثيق أكثر من 1200 شهادة حية من شهود النكبة، استعرضوا من خلالها تفاصيل الحياة في القرى والمدن الفلسطينية قبل التهجير، وما أعقبه من معاناة، وقد جُمعت هذه الشهادات بالصوت والصورة، لتكون مرجعا حيا للأجيال القادمة”.
أما الصورة، فيراها قدورة مكونا محوريا في المشروع، ويقول: “ليست الصورة في مشروع “هوية” مجرد ذكرى بصرية، بل وثيقة ناطقة، وقد جمعت المؤسسة حتى الآن أكثر من 38 ألف صورة، من بينها 5 آلاف صورة لشهود النكبة، و6 آلاف توثق معالم القرى والمدن المهجرة، بينما تعود بقية الصور للعائلات وأفرادها”.
ويشير أيضا إلى إنجاز أحرزه المشروع، موضحا: “أتحنا عبر الموقع الإلكتروني أكثر من 26 ألف وثيقة تاريخية، جرى تصنيفها وفق العائلات والمناطق والموضوعات، لتكون مرجعا مفتوحا أمام الباحثين والمهتمين بتاريخ فلسطين”.
ويختم قدورة بالقول: “مشروع “هوية” لا يقتصر على توثيق الماضي، بل هو فعل مقاومة ثقافية مستمر، يرسم الطريق نحو مستقبل لا ينسى فيه الوطن، ولا تُمحى جذوره”.

الفن مقاومة
من جهتها، ترى حورية الفار، مؤسسة فرقة “الكوفية”، أن الحفاظ على التراث الفلسطيني هو “وسيلة لحماية الهوية من الغزو الثقافي ومحاولات الطمس”. وتقول للجزيرة نت: “أسسنا الفرقة بهدف نقل موروث الأجداد من جيل إلى جيل، عبر الدبكة والأغنية والفلكلور، تعبيراً حياً عن الهوية الوطنية”.
وتضيف الفار: “نؤمن بأن للفن والثقافة دورا أساسيا في إيصال رسائل بالغة الأهمية، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ قضيتنا، لذا نسعى عبر فرقتنا إلى ترسيخ مفاهيم الفن والهوية في نفوس الأجيال الجديدة، بما يخدم القضية الفلسطينية ويدعم حق العودة”.
وتوضح أن فرقة “الكوفية”، التي أبصرت النور قبل 26 عاما، تعتمد في تكوينها على شباب وشابات من مخيم عين الحلوة، وقد نجحت خلال جولاتها في عدد من الدول في التعريف بفن الدبكة الفلسطينية ونشر الفلكلور الشعبي، رغم التحديات والصعوبات التي تواجهها.
وتتابع: “التراث بالنسبة إلينا لا يختزل في كونه موروثا شعبيا بل هو رسالة وطنية وثقافية، ووسيلة لحماية أبنائنا من الغزو الثقافي الذي يستهدف عقول الشباب ويسعى إلى فصلهم عن هويتهم الفلسطينية”.
وتؤكد الفار: “ننتمي إلى شعب مثقف، وبالفن والتراث نكسر الحواجز ونتحدى الظروف، نشارك في جميع المناسبات الوطنية، سواء الفلسطينية أو اللبنانية، من الجنوب إلى الشمال، بكل فخر واعتزاز”.
وتختم حديثها بالقول: “نحمل هوية ثقافية عريقة وراسخة، ونولي أهمية خاصة للزيّ الفلسطيني التقليدي، الذي لا يزال حاضرا في أعراسنا ومناسباتنا، كتأكيد على جذورنا وامتدادنا التاريخي، فالثوب الذي كانت الجدات يحتفظن به في خزائنهن، أصبح اليوم رمزًا متداولا، ودليلا حيا على استمرارية التراث وصونه من الاندثار”.