كشف تحقيق أجرته صحيفة «فايننشال تايمز»، استناداً إلى وثائق حكومية أوكرانية مسربة، وملفات قضائية، وعشرات المقابلات مع مسؤولي مشتريات، وتجار ومصنعي أسلحة، ومحققين، كيف ضاعت مئات الملايين من الدولارات التي دفعتها كييف لوسطاء أسلحة أجانب لتأمين معدات عسكرية حيوية، خلال السنوات الثلاث الماضية من الحرب.
فمع استمرار أوكرانيا في مواجهة تفوق روسيا في إنتاج الذخيرة، أصبحت البلاد عُرضة لتقلبات سوق الأسلحة الدولية القاسية. وفي حالات عدة، دفعت كييف مبالغ طائلة مقدماً لشركات غير معروفة مقابل معدات لم تصلها حتى يومنا هذا. وفي حالات أخرى، يقول مسؤولون إن الأسلحة التي اشترتها أوكرانيا بأسعار مبالغ فيها للغاية مع ارتفاع الطلب العالمي، وصلت في حالة غير صالحة للاستخدام.
حتى الآن، دفعت أوكرانيا 770 مليون دولار مقدماً لوسطاء أسلحة أجانب مقابل أسلحة وذخائر لم يتم تسليمها، وفقاً لأرقام وزارة الدفاع الأوكرانية، إضافة إلى وثائق اطلعت عليها صحيفة «فايننشال تايمز». ويمثل هذا جزءاً كبيراً من ميزانية أوكرانيا السنوية للأسلحة، التي تراوح بين ستة مليارات وثمانية مليارات دولار، والتي تم استقطاعها من أموال الدولة منذ بدء الحرب.
وفي الوقت نفسه، تقول بعض شركات الأسلحة الأجنبية إنها كانت ضحية صراعات داخلية وفساد من قبل مسؤولين أوكرانيين ووسطاء أسلحة حكوميين، وهو ما قد يفسر بعض الملايين المفقودة، وتحاول حكومة كييف تطهير نفسها. فقد طردت إدارة الرئيس فولوديمير زيلينسكي العديد من مسؤولي مشتريات الأسلحة الأوكرانيين السابقين الذين عملوا على هذه الصفقات، ووجهت اتهامات بالفساد إلى بعضهم، وتخضع الآن عشرات عقود الأسلحة للتحقيق من قبل أجهزة إنفاذ القانون في البلاد.
ودافع العديد من كبار المسؤولين الأوكرانيين السابقين الذين أشرفوا على شراء الأسلحة في السنوات الثلاث الأولى من الحرب عن استخدامهم وسطاء أجانب، قائلين إنهم ساعدوا في التوسط في صفقات أسلحة بالغة الأهمية وحساسة في وقت احتاجت فيه البلاد إلى الحصول على كميات هائلة من الذخيرة من دول لم ترغب – لأسباب جيوسياسية – في أن يُنظر إليها على أنها تبيع أسلحة لأوكرانيا مباشرة.
وفي إحدى الحالات، في أبريل 2022، ووفقاً لوثائق محكمة أوكرانية، اشترت شركة الوساطة الحكومية الأوكرانية للأسلحة «أوكرسبيتس إكسبورت» قذائف هاون عيار 120 ملم من بائعين، تبين لاحقاً أن لديهم علاقات وثيقة بجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
ويقول وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، الذي عمل في هذا المنصب حتى عام 2023، إن «تجار الأسلحة تجار موت، إنهم عمليون للغاية ومتشائمون، ليس لديهم مفهوم للعدالة، فهذه مفاهيم غير موجودة في عالمهم، يقول لك كل واحد منهم: لديّ أسلحة في مستودعاتي، إن أردتها فاشترها، وإن لم تردها، فسأبيعها لعدوك».
وفي الأسابيع التي تلت حرب روسيا على أوكرانيا أوائل عام 2022، أدرك المسؤولون في كييف أن مخزون أوكرانيا من الذخيرة لا يكفي إلا لشهرين. وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد تُكافح من أجل البقاء، علّقت الحكومة عمليات شراء الأسلحة الاعتيادية، وكلفت موظفو الخدمة المدنية بالعثور على مخزونات أسلحة غير تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لعتاد الجيش الذي يعود في معظمه إلى الحقبة السوفييتية، أينما أمكنهم ذلك.
وتاريخياً، كان يتم تصدير جزء كبير من إنتاج الأسلحة الأوكرانية المحلي عبر شركات تجارة أسلحة حكومية مختلفة، كانت تحصل على نسبة من أرباح التوسط في هذه الصفقات. أما الآن، فقد انعكس هذا المسار، إذ سارع الوسطاء إلى الاتصال بعملائهم القدامى ووسطائهم في الخارج للحصول على أي معدات يمكنهم الحصول عليها، حيث إن الاندفاع المفاجئ نحو إيجاد أسلحة لحرب الخنادق، التي توقفت الشركات المصنعة الغربية عن تصنيعها كأولوية منذ زمن طويل، جعل الطلب يفوق العرض بكثير.
وبالنسبة لمجموعة من تجار الأسلحة الأجانب، ومعظمهم أميركيون وأوروبيون، كان وضع أوكرانيا الصعب فرصة سانحة لهم. وقد أشار ما لا يقل عن 10 من مصادر على صلة بجهود المشتريات العسكرية الأوكرانية أو تجار الأسلحة، إلى أن أسعار الذخيرة سوفييتية الصنع تضاعفت أربع مرات في النصف الأول من عام 2022.
وأكد نائب وزير الدفاع السابق المسؤول عن العقود الخارجية، دينيس شارابوف، الذي ترك منصبه في سبتمبر 2023، أنه تلقى سيلاً من عروض الأسلحة والذخيرة من جهات فاعلة صغيرة أو جديدة نسبياً، تسعى للاستفادة من الصراع. وأضاف: «كنت أتلقى عشرات العروض التجارية من أشخاص كانوا يحاولون بدء أعمالهم التجارية، وهذا أمر طبيعي، هناك دائماً أشخاص جدد يرغبون في الانضمام إلينا». وأشار إلى أنه تلقى نحو 25 ألف عرض لشراء أسلحة خلال فترة عمله التي استمرت 18 شهراً. وشبّه مهمة مسؤولي الدفاع الأوكرانيين في بداية الحرب بمحاولة إخماد حريق في منزل بكل ما لديهم من إمكانات.
وتُجري أربع وكالات إنفاذ قانون أوكرانية تحقيقات في عشرات العقود المُبرمة مع وسطاء أسلحة أجانب، وفي بعض الحالات، رفعت دعاوى جنائية ضد مسؤولين سابقين في مجال المشتريات الأوكرانية، ولكن لم يُفضِ أيٌّ من هذه القضايا تقريباً إلى توجيه اتهامات من قِبَل الادعاء العام حتى الآن.
ويعتقد نشطاء مكافحة الفساد أن التخلص من هؤلاء الوسطاء الأجانب أمر بالغ الأهمية لخفض الأسعار وتجنب الصفقات الفاشلة، ولكن في الوقت الذي تكافح فيه أوكرانيا لتسليح قواتها على خط المواجهة، هددت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقطع الدعم العسكري للبلاد، ويزعم بعض المسؤولين التنفيذيين في صناعة الأسلحة الأوكرانية أن هذا من شأنه أن يلحق الضرر بالاكتفاء الذاتي لكييف.
عن «فايننشال تايمز»
. 4 وكالات إنفاذ قانون أوكرانية تجري تحقيقات في عشرات العقود المُبرمة مع وسطاء أسلحة أجانب.