أقر قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) المجتمعون في لاهاي الأسبوع الماضي التعهد بإنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي لبلدانهم في مجال الدفاع، في استجابة مفاجئة لمطلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصفها مراقبون بأنها استسلام لرئيس متقلب المزاج.
وحققت قمة لاهاي نجاحا معتبرا بفضل “استسلام” الأوروبيين لرغبات الرئيس ترامب وهالة المدح والشكر التي أحاطه بها الأمين العام للحلف مارك روته، لكنه نجاح محفوف بالمخاطر، فلم يعلن ترامب صراحة عن تخليه عن سحب قواته من أوروبا، وغابت عن تصريحاته الإدانة الصريحة لما تفعله روسيا -العدو الأول للناتو- في أوكرانيا.
فك شيفرة ترامب
يرى المتابعون للقمة أن الأمين لحلف شمال الأطلسي مارك روته استطاع فك شيفرة ترامب الذي يحب أن يحمد بما فعل وبما لم يفعل، فكال له المديح ووصفه -حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية نشرته عن القمة الأربعاء الماضي- بالأب قائلا “يضطر أبي أحيانًا إلى استخدام لغة حادة”، وهو ما فرح به ترامب وعلق عليه مبتسما “أبي، نعم أبي”.
وزاد روته من إطرائه لترامب إذ قال “هل كنتم لتتخيلوا يومًا أن هذه ستكون نتيجة هذه القمة لو لم يُعد انتخابه رئيسًا؟”. وكان ترامب قد نشر قبيل القمة سلسلة من الرسائل النصية المُجاملة له من روته، وجاء في إحداها “أنت تُحلق نحو نجاح كبير آخر”.
وحسب صحيفة الغارديان، فقد بدا الرئيس الأميركي ترامب مرتاحًا، وأكد التزامه بالحلف مشيدا بما وصفه “بالنجاح الكبير” المتمثل في موافقة دول الناتو على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي تقرير نشره عن نتائج قمة لاهاي الأربعاء الماضي، نقل مركز المجلس الأطلسي عن سفير الولايات المتحدة السابق في بولندا دانيال فريديس قوله إن الأمين العام لحلف الناتو مارك روته تعرّض للانتقادات بسبب إطرائه لترامب، لكن يبدو أنه اتخذ القرار الصائب، فإن كان ترامب قد حقق هدفه بالحصول على الموارد اللازمة، فإن استمرار الولايات المتحدة ضمن الناتو يمثل نجاحا للحلف.
وقد أفاد الصحفي بول كيربي في تقرير لهيئة بي بي سي بأنه تم تقليص أجندة قمة لاهاي، إذ اقتصرت على حفل عشاء مساء الثلاثاء استضافه الملك وليام ألكسندر، واجتماع للقادة يوم الأربعاء استمر ساعتين ونصف الساعة فقط.
وقد أبلغ روته قادة الناتو أنهم يجتمعون في “لحظة حرجة”، وأن ضمان استمرار التحالف (في حد ذاته) يبعث برسالة قوية. وحسب تقرير الغارديان، فقد أشاد الرئيس الأميركي بالأمين العام مارك روته، وبليلة “مريحة” أمضاها في قصر الملك الهولندي.
وقال ترامب في ختام القمة “عندما جئت إلى هنا، جئت لأن هذا كان شيئًا يفترض بي القيام به، لكنني غادرت مختلفًا بعض الشيء.. فقد شاهدت رؤساء هذه الدول ينهضون، حيث أظهروا حبا لا يصدق لبلدانهم”.
ووصف ترامب القمة بأنها “حدث تاريخي للغاية.. وأمر لم يخطر ببال أحد قط. قالوا: لقد فعلتها يا سيدي، لقد فعلتها. حسنًا، لا أعرف إن كنتُ أنا من فعلها.. لكنني أعتقد أنني فعلتها”.
ولم يكتف روته بإطراء ترامب، بل طمأنه بأن الزيادة الكبيرة في الإنفاق الدفاعي لا تعني أن يدفع دافعو الضرائب الأميركيون المزيد من الأموال، في ظل اقتراب الولايات المتحدة من هدف الإنفاق العسكري البالغ 3.5%، بل يتعلق الأمر بدفع الأوروبيين والكنديين المزيد من الأموال لزيادة ميزانيات بلدانهم الدفاعية.
بيان على مقاس ترامب
لاحظ مراقبون أن بيان قمة لاهاي أخذ وقتا كبيرا من الإعداد حتى يناسب ترامب، فكان قصيرا جدا، ومنقحا بعناية، وخاليا من مواضيع كثيرة كانت تتضمنها بيانات القمم السابقة.
فقد جاء بيان لاهاي في 5 فقرات فقط و427 كلمة، بينما كان بيان العام الماضي في واشنطن 5341 كلمة و88 فقرة، مع بنود مفصلة وواسعة تغطي جهود تحديث الدفاع، ودعم أوكرانيا، والتحدي الإستراتيجي الأوسع الذي تُمثله الصين وإيران وكوريا الشمالية، وقبل ذلك صدر عن قمة فيلنيوس في ليتوانيا عام 2023 بيان عملاق مُكوّن من 90 فقرة.
أما هذا العام، فلا ذكر للصين ولا إيران ولا كوريا الشمالية، وهو ما يعكس الرأي السائد في البنتاغون بعدم ربط مسارح العمليات هذه، حسب تقرير المركز الأطلسي.
ونقل المركز عن الدبلوماسي البريطاني السابق فيليب ديكنسون قوله إن إعلان لاهاي يعكس حقيقة أن الحلف بات يرقص على أنغام ترامب ويسايره فقط في أولويته المتعلقة بزيادة الإنفاق.
لكن بالنسبة للأمين العام لحلف الناتو، روته، فإن إعادة البيان تأكيد الالتزام “الصارم” بالمادة الخامسة وتصنيف روسيا كأبرز تهديد أمني يعتبر نجاحا.
وإن كانت الغارديان أوردت في تقريرها أن ترامب راوغ عندما سئل عن التزام الولايات المتحدة بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو التي تنص على أن أي هجوم على أي عضو في الحلف يُعد هجومًا على جميع الدول الأعضاء، وقال ترامب وهو يستقل طائرة الرئاسة الأميركية إلى القمة “هناك تعريفات عديدة للمادة الخامسة، أنتم تعرفونها، أليس كذلك؟”.
“ادفعوا كي أدافع عنكم”
حسب تقرير لصحيفة “لاتريبيون” الفرنسية بعنوان “قمة الناتو: لا يزال من الممكن أن تسوء الأمور”، فإن أعضاء الناتو وافقوا على زيادة الإنفاق الدفاعي “مكرهين لا أبطالا” في ظل الضغوط الناجمة عن الخطر الروسي المتنامي وتهديدات ترامب بكشف الغطاء الأميركي عن أي دولة عضو في الناتو لم تستجب لطلباته بزيادة الإنفاق الدفاعي والتلويح أكثر من مرة بسحب القوات الأميركية من أوروبا.
فمنذ عودته إلى البيت الأبيض في نهاية يناير/كانون الثاني، كرر ترامب دعواته للدول الأوروبية في الحلف وكندا لتخصيص ما لا يقل عن 5% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، وقد أكد ذلك بقوة وصراحة في شهر مارس/آذار الماضي إذ قال “إذا لم يدفعوا فلن أدافع عنهم!”.
وتعتبر الصحيفة أنه يحسب لمارك روته أنه لما أحس معارضة قوية لنسبة 5% جاء بفكرة تقسيم الهدف إلى قسمين: 3.5% تتعلق بالسلاح والجنود و1.5% تتعلق بالبنى التحتية المساعدة، وهو ما جعل الأمور أكثر قبولًا لدى الأوروبيين، لأنه من خلال فئة الـ1.5% يمكنهم إدراج كثير مما أنفقوا من أموالهم.
وحسب صحيفة الغارديان البريطانية، لم يُكرّر بيان القمة الالتزامات السابقة “بالمسار الحتمي” لأوكرانيا نحو عضوية الناتو، مما يعكس مراعاة لموقف البيت الأبيض.
قمة ما يقال ولا يُفعل
ينقل تقرير المجلس الأطلسي عن نائب وزير الدفاع الأميركي السابق لأوروبا وسياسة الناتو، إيان بريجنسكي، قوله إن قمة الناتو في لاهاي ستُذكر في المستقبل بما يقال ولا يُفعل، مضيفا أنه رغم الزيادة التاريخية في الإنفاق العسكري، ورغم أن روسيا لا تزال مصنفة كعدو أول للناتو، ورغم تصعيد روسيا هجماتها على أوكرانيا تزامنا مع اجتماع قادة الناتو، لم تسفر القمة عن أي إجراء جوهري جديد ضد روسيا.
ويورد بريجنسكي أنه على العكس من ذلك، منعت الولايات المتحدة جهدًا مخططًا له منذ مدة طويلة لإصدار إستراتيجية للتحالف ضد روسيا في القمة، وكرر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو معارضة الولايات المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، وتردد ترامب علنًا في تقديم دفعة جديدة من المساعدات الأمنية لأوكرانيا.
ويؤكد بريجنسكي أنه لم يتضح بعد مستقبل التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي، حيث لم يوضح ترامب مستقبل وضع القوات الأميركية في أوروبا بعد أن أشارت إدارته مرارا سابقا إلى احتمال سحبها.
ويخلص الباحث إلى أن غياب الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات ضد روسيا في قمة لاهاي أمر بالغ الأهمية، فليس هناك مؤشر أوضح على مدى الالتزام بالأمن عبر الأطلسي مما يفعله أو لا يفعله حليف في الناتو لدعم أوكرانيا ضد الغزو الروسي المستمر.
ورغم الإجماع الظاهر، فإن عددا من أعضاء الناتو كانوا حتى قبيل انعقاد القمة يصفون دعوة دونالد ترامب بتخصيص 5% من الناتج المحلي للإنفاق على الدفاع بأنها “جنون محض”، أو “عبث” و”سخافة”، كما أن 8 من أعضاء الحلف لم يحققوا حتى الآن هدف 2% الذي تم تحديده منذ عام 2014.
وفي طليعة الدول التي أعربت عن معارضتها أو تحفظها على قرار الـ5% -وإن وقعت عليه في النهاية- إسبانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وإيطاليا وسلوفينيا.
أي تداعيات اقتصادية واجتماعية؟!
في مقال نشره معهد جاك ديلور الفرنسي، اعتبرت الباحثة المتخصصة في نفقات الدفاع سيلفي ماتيلي أنه إذا افترضنا أن النمو الاقتصادي في أوروبا سيكون صفرا في السنوات المقبلة، فإن الوصول إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي يتطلب من الأوروبيين أن ينفقوا مجتمعين أكثر من 850 مليار يورو سنويا، أي ما يساوي زيادة بنسبة 250% على ما ينفقونه اليوم.
واعتبرت الباحثة ماتيلي أن مثل هذا الهدف (5%) سوف يتطلب خيارات سياسية قوية وعمليات تحكم صعبة للغاية في وقت تتضخم فيه مصادر الهشاشة وعدم المساواة ويشيخ السكان وتتخلف أوروبا عن الركب من حيث القدرة التنافسية والابتكار.
وتقول ماتيلي إنه ينبغي التفكير مليا في كل يورو يتم إنفاقه، فالموارد محدودة، ويتعين على الأوروبيين أن يحددوا أولا مصالحهم، وأن تكون مصالح أوروبا مفهومة وواضحة، بدلا من اتباع شعارات وضعها زعيم أصبحت مصالحه وأولوياته بعيدة كل البعد عن مصالحهم وأولوياتهم.
أما راشيل ريزو، من مركز أوروبا التابع للمجلس الأطلسي، فترى أن السؤال الآن هو عما إذا كان القادة الأوروبيون مستعدين لبذل رأس المال السياسي اللازم لإقناع شعوبهم بجدوى الإنفاق على الدفاع، لا سيما إذا كان ذلك من ميزانيات الإنفاق الاجتماعي الأخرى.
إستراتيجية مالية
يورد الباحث في مبادرة الأمن عبر الأطلسي روب موراي أن الوصول إلى نسبة 5% يتطلب أكثر من مجرد خطاب، “فلا بد من إستراتيجية مالية واضحة ومنسقة تعكس حقيقة أن دول الغرب لم يعودوا في زمن السلم. يجب تفعيل وكالات ائتمان الصادرات الوطنية، وتحفيز البنوك التجارية، وتعبئة رأس المال الخاص ورأس المال الاستثماري، وإشراك المستثمرين المؤسسيين الطويلي الأجل”.
ويؤكد الصحفي بول زوي من موقع “كليم” الأسترالي أن قرار حلف الناتو يمثل تحولًا كبيرًا في الأولويات المالية العالمية، مع عواقب واسعة النطاق على الاقتصاد والقطاعات الخدمية والاجتماعية، حيث يُفسح هذا التحول السياسي المجال أمام حقبة جديدة من تخصيص رأس المال لإعادة التسلح.
ويشير الباحث إلى أن آلية تمويل هذا التوسع الهائل لا تزال غير مؤكدة، فإما أن تكون بزيادات ضريبية كبيرة أو بتخفيضات حادة في النفقات الأخرى، أو بزيادة الاقتراض العام، وهو المسار الأكثر ترجيحًا، ويعني استمرار الضغط التصاعدي خصوصا على مستوى الاقتصادات التي تعاني أصلا من ضائقات مالية مثل إيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة.
وفي كل الأحوال ستواجه القطاعات المعتمدة على الدعم العام -مثل الطاقة المتجددة والتعليم والخدمات الاجتماعية- تداعيات سلبية للقرار مما قد يتسبب في تذمر شعبي.