في تطور غير مسبوق، اعتمدت المفوضية الأوروبية مطلع الشهر الجاري “الفعل التفويضي” المتعلق بقانون الخدمات الرقمية “دي إس إيه”، مانحة جهات بحثية مختارة صلاحية الوصول إلى بيانات داخلية في المنصات الرقمية الكبرى، مثل ميتا وغوغل وتيك توك، لتحليل المخاطر المتعلقة بالتضليل وخطاب الكراهية.

ويأتي هذا التطور ليسلط الضوء مجددا على قانون الخدمات الرقمية الأوروبي، من حيث خلفياته وأهدافه وأبرز ما يتضمنه من بنود.

ويستعرض هذا التقرير تأثيرات القانون على حرية التعبير والمحتوى السياسي والإعلام المستقل، خاصة في ظل قضايا حساسة مثل القضية الفلسطينية، وسط جدل متصاعد حول مستقبل الحوكمة الرقمية في أوروبا.

أندرياس شواب بمؤتمر صحفي حول نتائج التصويت على قانون الخدمات الرقمية في البرلمان الأوروبي (شترستوك-أرشيف)

ما قانون الخدمات الرقمية؟

بدأ القانون مساره التشريعي بتقديم المفوضية الأوروبية لمقترحه في ديسمبر/كانون الأول 2020. وبعد سلسلة من المداولات، صوّت البرلمان الأوروبي لصالح القانون في الخامس من يوليو/تموز 2022، ثم أقرّه مجلس الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/تشرين الأول 2022.

ودخل قانون الخدمات الرقمية حيز النفاذ القانوني في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وبدأ تطبيقه الفعلي تدريجيا، حيث طُبّق في 25 أغسطس/آب 2023 على المنصات الرقمية الكبرى التي يتجاوز عدد مستخدميها 45 مليونا، قبل أن يُطبّق بالكامل على معظم المنصات داخل الاتحاد الأوروبي اعتبارا من 17 فبراير/شباط 2024، ومؤخرا على منصات مثل المضيفين “ويب هوستنغ” (web hosting).

يؤكد التقرير الصادر عن مجلس الاتحاد الأوروبي بأن قانون الخدمات الرقمية يمثل حجر الأساس في سعي الاتحاد نحو ضبط شامل للفضاء الرقمي وفقا لقيمه السياسية والاجتماعية، وأنه تم اعتماده بعد أن بات من الواضح أن القواعد القديمة التي تحكم الوساطة الرقمية داخل السوق الموحدة الأوروبية لم تعد كافية لمواجهة التحديات التي فرضها التوسع السريع للمنصات الرقمية الكبرى وتحول الإنترنت إلى مكون محوري في الاقتصاد والمجال العام الأوروبي.

ويهدف القانون أيضا إلى حماية الحقوق الأساسية للمستخدمين، وضمان شفافية العمليات الرقمية، وتوزيع المسؤوليات بين الفاعلين الرقميين بطريقة عادلة ومتوازنة، مع تعزيز قدرة الدول الأعضاء على الإشراف والمراقبة والمساءلة.

ويضيف التقرير أن القانون ينطلق من فرضية أن البيئة الرقمية أصبحت ساحة تُستخدم فيها الأدوات التقنية ليس فقط لنقل المعلومات والتفاعل، بل أيضا للتأثير في المجتمعات وتوجيه السلوك العام، سواء من خلال الخوارزميات أو من خلال استغلال البيانات الشخصية.

وفي هذا السياق، يتبنى قانون الخدمات الرقمية فلسفة تنظيمية تقوم على التمييز بين مستويات التأثير التي تُمارسها الخدمات الرقمية، فيُلزم جميع مقدمي الخدمات الوسيطة بعدد من القواعد العامة، لكنه يفرض التزامات أكثر صرامة على المنصات الكبرى التي يتجاوز عدد مستخدميها كما كبيرا داخل الاتحاد الأوروبي، والتي تُعد ذات أهمية منهجية نظرا لتأثيرها الواسع.

أهداف القانون لا تقتصر على المعالجة الفنية لمشكلات المنصات الرقمية بل تتجاوزها إلى إعادة رسم ملامح السيادة الرقمية الأوروبية (شترستوك)

ومن أبرز التزامات هذه المنصات، حسب التقرير، هو إجراء تقييمات دورية للمخاطر الناتجة عن تشغيل خدماتها، خصوصا تلك المرتبطة بانتشار المحتوى غير القانوني أو التضليل الإعلامي أو المساس بالكرامة الإنسانية. كما يتوجب عليها اتخاذ إجراءات فعالة لتقليص هذه المخاطر، وتقديم تقارير مفصلة للسلطات الرقابية.

ومن بين الالتزامات الرئيسية أيضًا، أن تلتزم المنصات الرقمية بكشف الطريقة التي تعمل بها الخوارزميات التي تعتمدها لترتيب المحتوى أو اقتراحه للمستخدمين، كما يجب عليها أن تتيح للمستخدمين خيار تعطيل أنظمة التوصية التي تعتمد على تتبع بياناتهم الشخصية أو مراقبة سلوكهم أثناء التصفح.

ولتطبيق هذا القانون، يؤكد التقرير أن الاتحاد الأوروبي أنشأ نظاما مؤسسيًا ثنائيا للرقابة، يشمل السلطات الوطنية في الدول الأعضاء من جهة، والمفوضية الأوروبية من جهة أخرى.

وتتمتع المفوضية بصلاحيات استثنائية في مراقبة المنصات الكبرى، بما في ذلك فرض غرامات تصل إلى 6% من رقم المعاملات العالمي السنوي، وإصدار أوامر تصحيح فورية، بل وإيقاف الخدمة مؤقتا في حال الإخلال الخطير بالقواعد.

ولا تقتصر أهداف القانون على المعالجة الفنية لمشكلات المنصات الرقمية، بل تتجاوزها إلى إعادة رسم ملامح السيادة الرقمية الأوروبية، وتعزيز نموذج الحوكمة الديمقراطية في الفضاء الرقمي العالمي.

فالاتحاد الأوروبي يرى في هذا القانون أداة لحماية النموذج المجتمعي الأوروبي من تأثيرات المنصات المهيمنة، ويأمل من خلاله تصدير معاييره التنظيمية إلى الخارج عبر ما يُعرف بـ”تأثير بروكسل”، أي أن يتحوّل الإطار الأوروبي إلى مرجع عالمي بفضل حجم السوق الأوروبية وثقلها التشريعي.

ويرى التقرير، في النهاية، أن قانون الخدمات الرقمية يمثل خطوة إستراتيجية لترسيخ رؤية أوروبية تقوم على التوازن بين حرية التعبير، وشفافية المنصات، وحماية الكرامة الإنسانية، مع توفير آليات رقابية دقيقة تضمن ألا تتحول التكنولوجيا إلى أداة للهيمنة أو الانفلات.

قانون الخدمات الرقمية يهدف إلى حماية الحقوق الأساسية للمستخدمين وضمان شفافية العمليات الرقمية (شترستوك)

كيف يطبق القانون على المحتوى السياسي؟

من خلال تغطيتها لقانون الخدمات الرقمية، تشير صحيفة دير شبيغل الألمانية إلى أن هذا القانون يمثّل تحولًا جذريًا في الطريقة التي تُنظّم بها المنصات الرقمية محتواها، وخاصة المحتوى السياسي.

فبينما كانت شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك ويوتيوب وتيك توك تدير عمليات الإشراف على المحتوى وفق قواعدها الخاصة، غير الخاضعة غالبا لرقابة خارجية، فإن القانون الأوروبي الجديد ينقل هذه المسؤولية إلى مستوى مؤسسي وقانوني، حيث تلتزم هذه الشركات بالامتثال لتشريعات واضحة تُفرض من خارجها، وتراقَب بشكل ممنهج من قِبل هيئات أوروبية مختصة.

وبحسب الصحيفة، فإن القانون لا يُحدّد صراحة ما يجب أن يُحذف أو يُترك من المحتوى السياسي، بل يُلزم المنصات بتقديم تبريرات لكل قرار حذف أو تقييد، سواء تعلق الأمر بمحتوى سياسي أو غيره.

وفي حالة إزالة منشور أو حساب، يجب أن تُبلّغ المنصة المستخدمة بالأسباب، وتوفّر له آلية للطعن في القرار، وهو ما يُعدّ تغييرًا مهمًا في ميزان القوى بين المستخدمين والمنصات.

وهذا الإجراء لا يستهدف فقط المحتوى غير القانوني، بل يمتد أيضًا إلى معالجة ظواهر التضليل والتلاعب السياسي بالمحتوى، حيث تُطالب المنصات الكبرى بإجراء تقييمات دورية للمخاطر المتعلقة بالديمقراطية والخطاب السياسي.

من بين أهم النقاط الحساسة التي تسلّط الصحيفة الضوء عليها هي التداخل بين محاربة التضليل من جهة، وحماية حرية التعبير من جهة أخرى، فبينما يرحب البعض بإجبار الشركات على التفاعل مع المحتوى السياسي المضلل، وتحليل مخاطره المحتملة على الانتخابات أو النقاش العام، يعبّر آخرون عن تخوفهم من أن تُستخدم هذه الإجراءات ذريعة لتقييد المحتوى السياسي غير المرغوب فيه، أو فرض شكل من الرقابة الناعمة على المعارضة أو الحملات النقدية.

ولم تغفل “دير شبيغل” الإشارة إلى المخاوف التي يعبّر عنها الناشطون، إذ يشير بعضهم إلى أن القانون يتيح للمنصات مساحة واسعة لتحديد ما هو “ضار” أو “مضلل”، مما قد يقود إلى تهميش روايات سياسية بديلة أو غير سائدة. ومع أن القانون يفرض شفافية على هذه العمليات، إلا أن تنفيذها العملي سيكون محكًّا حقيقيًا لمدى حيادية المنصات والتزامها بالتعددية السياسية.

القانون لا يحدد صراحة ما يجب أن يحذف أو يُترك من المحتوى السياسي مما يثير المخاوف من استخدام هذه الإجراءات ذريعة لتقييد حرية التعبير (شترستوك)

قانون الخدمات الرقمية والقضية الفلسطينية

بحسب تقرير لمنصة تك بوليسي برس، فإن قانون الخدمات الرقمية الأوروبي، رغم أهدافه المعلنة في تنظيم الفضاء الرقمي ومكافحة التضليل وحماية المستخدمين، يثير مخاوف جدية لدى المدافعين عن الحقوق الرقمية الفلسطينية.

إذ إن هذا القانون، في تطبيقه العملي، قد يفضي إلى تكريس رقابة ممنهجة وغير متكافئة ضد المحتوى المتعلق بفلسطين، ويمنح المنصات الكبرى صلاحيات واسعة في تصنيف وإزالة المحتوى، دون مساءلة حقيقية أو فهم للسياقات السياسية المعقدة.

ويشير التقرير إلى أن القانون يفرض على المنصات الكبرى، مثل ميتا ويوتيوب وإكس، تقييم “مخاطر النظامية” المرتبطة بالمحتوى، خاصة ما يتعلق بالتضليل الإعلامي، وخطاب الكراهية، والتحريض. لكن حين يُطبّق هذا التقييم في ظل سياق سياسي شديد الاستقطاب، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإن ما يُعتبر “تحريضًا” أو “تضليلا” يصبح عرضة لتفسيرات غير محايدة.

وبذلك، قد تستخدم المنصات هذه الصلاحيات -المدعومة بالقانون الأوروبي- لإسكات أصوات فلسطينية، أو تقويض السرديات التي تنتقد سياسات إسرائيل، تحت ذريعة الامتثال للضوابط القانونية الجديدة.

ومن أبرز الملاحظات التي يوردها التقرير أن الخطاب الفلسطيني، الذي يتناول الانتهاكات الإسرائيلية، غالبًا ما يُصنّف من قبل خوارزميات المنصات على أنه “محتوى حساس” أو “يحرّض على العنف”، بينما يتم التغاضي عن محتوى إسرائيلي مشابه أو أشد تطرفًا.

ورغم أن قانون الخدمات الرقمية يطالب المنصات بتوفير شفافية في قرارات الحذف، فإن آليات الاعتراض المتاحة لا تزال معقدة وغير فعالة، خصوصًا للمستخدمين في المناطق المهمّشة مثل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

التقرير يحذر أيضا من أن القانون، بصيغته الحالية، قد يخلق ما يشبه “نظاما رقميا من طبقتين”، حيث تحظى بعض السرديات السياسية بالحماية والانتشار، بينما تُخضع السرديات الفلسطينية لرقابة مضاعفة.

ويزداد هذا الخطر مع غياب معايير واضحة لتحديد ما هو “مضر ديمقراطيا”، أو “مضلل سياسيا”، وترك هذه القرارات لتقدير المنصات نفسها، التي تتأثر بعلاقاتها التجارية والسياسية مع دول ومؤسسات فاعلة داخل الاتحاد الأوروبي.

ويُشير التقرير إلى أن المحتوى الفلسطيني غالبا ما يتعرض للإزالة أو التقييد، حتى عندما لا ينتهك القواعد القانونية بوضوح، بل يكون مجرد توثيق لانتهاكات أو تعبيرًا عن رأي سياسي. وفي ظل القانون الجديد، قد تكتسب مثل هذه الإجراءات بعدًا قانونيًا يضفي عليها شرعية، رغم أنها تمس حرية التعبير وتخلق انحيازًا ضد روايات الشعوب المُهمّشة.

القانون والإعلام المستقل

بحسب ما أوردته صحيفة لوفيغارو الفرنسية، فإن دخول قانون الخدمات الرقمية حيّز التنفيذ يفرض تحوّلات جوهرية على بيئة النشر والإعلام داخل الفضاء الأوروبي. ورغم أن القانون يستهدف، في جوهره، فرض رقابة صارمة على المنصات الكبرى التي تُهيمن على المحتوى الرقمي، فإن انعكاساته تتجاوز حدود هذه الشركات لتطال التوازن الإعلامي نفسه، بما في ذلك مستقبل الصحافة المستقلة والتعددية الرقمية.

وتشير الصحيفة إلى أن القانون يمنح الاتحاد الأوروبي صلاحيات غير مسبوقة في مراقبة المنصات الرقمية الكبرى، المصنفة على أنها “ذات تأثير نظامي”، والتي يتجاوز عدد مستخدميها في أوروبا 45 مليونا شهريا.

ويُلزم القانون هذه المنصات بأن توضح للمستخدمين كيف يتم عرض المحتوى وترتيبه على صفحاتهم، وأن تكشف عن الطريقة التي تعمل بها الخوارزميات التي تحدد من يرى المحتوى، ومدى انتشاره داخل المنصة. ورغم أن هذه المتطلبات تهدف إلى كبح التضليل وخطاب الكراهية، فإنها تُلقي بظلال ثقيلة على وسائل الإعلام الصغيرة التي تعتمد في انتشارها على تلك المنصات.

فمن خلال فرض رقابة مركزية على تدفق المعلومات، وتحديد “المحتوى المضلل” أو “المضر بالمستخدمين”، حسب لوفيغارو، تفتح هذه القواعد الباب أمام خنق الأصوات الإعلامية المستقلة التي قد تُصنّف تقنيًا على أنها “غير موثوقة” لمجرد عدم تمويلها من جهات كبرى أو عدم توافقها مع المعايير الرقمية التي تفرضها المنصات.

وتزداد هذه المخاوف مع الطبيعة غير الشفافة للمعايير التي تستخدمها الخوارزميات في التصفية، وهو ما يجعل الإعلام المستقل في موقع هش، أمام خطر الإقصاء الرقمي دون تبرير معلن.

وتخلص الصحيفة إلى أنه في ظل هذه المعطيات، يصبح مستقبل الإعلام المستقل في أوروبا مرتبطًا مباشرة بمزاج الشركات الرقمية الكبرى، وبتقديراتها حول ما هو “آمن” أو “ملائم”.

ورغم أن القانون يُعلن التزامه بحماية الحقوق الأساسية، فإن آثاره الجانبية على التعددية الصحفية قد تكون عكسية، ما لم تُرفق هذه الإجراءات بضمانات حقيقية تكفل العدالة في الوصول والانتشار لجميع الفاعلين الإعلاميين، دون تمييز أو تهميش.

شاركها.
Exit mobile version