دمشق- في ظل الحديث عن استئناف المفاوضات بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، يظل ملف دمج الأخيرة في الجيش السوري نقطة جدل ساخنة في الأوساط السياسية والاجتماعية.
ويتجاوز الجدل الجانب العسكري ليشمل أبعادا سياسية ودستورية واسعة، تتعلق بالمركزية مقابل اللامركزية، وحماية المكتسبات المحلية، وبناء الثقة المتبادلة بين الأطراف.
ويشير محللون وخبراء سياسيون تحدثّوا للجزيرة نت إلى أن الجانب العسكري أكثر وضوحا في التعقيدات بين دمشق وقسد، إذ ترى الحكومة السورية، وفق ما يوضح الباحث في مركز عمران للدراسات، أسامة شيخ علي، أن الصيغة المقبولة لدمج مقاتلي “قسد” هي انضمامهم أفرادا أو كوحدات صغيرة ضمن ألوية تتبع وزارة الدفاع، بحيث توحد سلسلة القيادة، كما يشمل الطرح إدماج “قوات الأسايش” (الأمن الكردي)، ضمن وزارة الداخلية بوصفها قوة أمن محلية بعد تدقيق ملفات عناصرها.
عقدة الدمج
لكن من زاوية أخرى يرى الناشط الحقوقي بسام الأحمد، أن جوهر الخلاف يكمن في اللامركزية، موضحا أن “قسد” تسأل: إذا جرى دمج فصائل أخرى كوحدات متكاملة في الجيش، فلماذا لا يُعاملون بالمثل؟ ويُذكّر بأن تلك الفصائل لم تدمج فعليا، “بل بقيت تلك الكيانات مستقلة يشار إليها عند وقوع الانتهاكات، مما يجعل الإشكالية أعمق من مجرد قرار إداري”.
من جانبه يرى المحلل السياسي المقرب من دوائر القرار في دمشق بسام سليمان أن “العقبة الأساسية ليست في الآليات بقدر ما هي في القرار السياسي داخل قسد نفسها”، مشيرا إلى أن دمشق قد تقبل بانضمام الأفراد والكفاءات للجيش، لكنها لن توافق على بقاء “قسد” ككتلة عسكرية متماسكة في منطقة واحدة.
ويذهب أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية صلاح قيراطة إلى أن الدمج “ليس إعلانا سياسيا عابرا، بل مشروع طويل يتطلب موازنة دقيقة بين المصالح الدولية والمحلية”.
ويقترح قيراطة 3 مسارات:
- إصدار مرسوم رئاسي يحدد وضع “قسد” كقوة محلية ضمن الجيش.
- اعتماد دمج تدريجي للوحدات القتالية.
- إعادة هيكلة القيادة في مناطق الغالبية الكردية لضمان الولاء الكامل للأوامر المركزية.
العقبات الدستورية
ويشير بسام الأحمد إلى أن وضع الإعلان الدستوري كعقبة أمام أي اتفاق سياسي “يمثل خطرا كبيرا”. ويقول “الأصل أن تعكس الاتفاقات إرادة الأطراف لتترجم لاحقا إلى عقد اجتماعي أو دستور أو قوانين، لكن ما حدث في سوريا كان عكس ذلك تماما. السلطة الجديدة استعجلت صياغة الإعلان الدستوري دون مشاورات حقيقية، وفُرضت مخرجاته كأمر واقع، كما حدث في مؤتمر الحوار الوطني”.
ويضيف “مجرد تعديل بعض بنود الإعلان عبر البرلمان لا يكفي، ووجود نص دستوري لا يعني تطبيقه ما لم تتوافر الإرادة السياسية والثقة المتبادلة بين الطرفين”.
ويستشهد بتجارب العراق والبوسنة والهرسك، مؤكدا أن التعددية واللامركزية تحتاج إلى آليات حقيقية، وليس إلى نصوص و”حبر على ورق”.
من جانبه، يضيف أسامة شيخ علي أن تعديل الإعلان الدستوري مطلب تطرحه “قسد”، لكنه ليس شرطا أساسيا لبدء عملية الدمج، ويقترح خطوات تنفيذية عملية مثل:
- اعتماد المرسوم 107 لتأسيس مجالس محلية.
- الاعتراف باللغة الكردية في التعليم والإدارة المحلية.
- تشكيل لجان لتطوير وتنفيذ هذه السياسات.
من جانبه، يشير الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، إلى أن العقبات الدستورية ليست محور النقاش الرئيسي حاليا. ويقول “الإعلان الحالي مؤقت ويُنظر إليه كجسر للمرحلة الانتقالية، إلى أن يُتفق على دستور جديد عبر حوار وطني شامل، مع مراعاة مشاركة جميع الأطراف”.
أبعاد إقليمية ودولية
ولاقى اتفاق 10 مارس/آذار الموقّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي ترحيبا عربيا وإقليميا ودوليا، إذ ينص على وقف إطلاق النار واندماج “قسد” ضمن مؤسسات الدولة، مع ضمان التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وتضمين حقوق الشعب الكردي.
ويرى الأكاديمي صلاح قيراطة، أن الاتفاق بين دمشق و”قسد” ليس مجرد تفاهم داخلي، بل انعكاس لتوازنات إقليمية ودولية معقدة.
فالولايات المتحدة، التي تعاملت منذ 2014 مع “قسد” كشريك إستراتيجي في مواجهة الإرهاب، قدمت دعما محدودا، لكنها، وفق قيراطة، “لم ترغب في مواجهة دمشق مباشرة، مما يجعل أي اتفاق يخضع لسقف توقعاتها الأمنية في مناطق النفط والموارد الحيوية”.
من جانبها، تراهن روسيا على دمج “قسد” ضمن هيكل الدولة لتعزيز سيادة دمشق وتقليل نفوذ واشنطن، مؤكدة أن أي انخراط لقسد يجب أن يكون ضمن القواعد العسكرية والسياسية الرسمية للدولة.
وفيما يخص تركيا، فهي أحد الأطراف الرئيسية المعنية بالاتفاق، ووفق تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، تعمل أنقرة مع دمشق وواشنطن على إيجاد صيغة لتنفيذ دمج “قسد” في الجيش السوري الجديد، بما يضمن وحدة وجهات النظر ويعزز الاستقرار في شمال سوريا.
أما الاتحاد الأوروبي، فيضغط من زاوية حقوق الإنسان والتمثيل السياسي، محاولا التأثير على شكل الإدارة المحلية وتوزيع المناصب، إلا أن تأثيره يبقى محدودا مقارنة باللاعبين الرئيسيين: واشنطن وروسيا وتركيا.
ويوضح وائل علوان أن الرأي داخل “قسد” منقسم بين معارضين للاتفاق، ومن يرونه خطوة مرحلية، ومن يعتقد أنه يمكن أن يُمهِّد لمسار مستدام، بينما دمشق تُصرُّ على مركزية الأمن والدفاع والسياسة، مع السماح باللامركزية الإدارية الضرورية لإدارة المحافظات.
بناء الثقة
ويشدد المحللون على أن أي عملية دمج لقوات “قسد” لا يمكن أن تنجح دون بناء ثقة متبادلة بين الطرفين، ويقترح أسامة شيخ علي البدء بمحافظة دير الزور كنموذج تجريبي، بتوحيد الضفتين الشرقية والغربية، وتشكيل مجلس عسكري موحد يتبع وزارة الدفاع، ودمج قوات الأمن المحلية وعناصر “الأسايش” ضمن قيادة محلية تحت إشراف وزارة الداخلية.
كما يقترح إدراج استثناءات لترقيات الضباط في “قسد”، ومناهج التعليم، وإدارة الخدمات المحلية، لضمان الشعور بالأمان وتسهيل توسيع التجربة لاحقا إلى محافظات الرقة والحسكة.
ويؤكد شيخ علي للجزيرة نت أن تقسيم القضية لخطوات أصغر يسهل إدارتها، خاصة بمناطق ذات خلفية عرقية وعشائرية شبه موحدة، في حين تسهم مراسيم الاعتراف بالقضية الكردية واللغة والهوية المحلية ببناء الثقة وتذليل العقبات.
في حين يرى الحقوقي بسام الأحمد، أن اللامركزية الإدارية والسياسية تحتاج إلى مشاورات شاملة مع المجتمع المحلي من الأحزاب، والعشائر، والفعاليات المدنية والقيادات الاجتماعية، مؤكدا أن الإدارة المركزية وحدها لن تنجح في الحسكة، ويجب أن تتوافر صلاحيات حقيقية للمجالس المحلية والبلديات.
أما وائل علوان، فيخلص إلى أن الدمج يجب أن يكون تدريجيا وعلى مراحل، مع مراعاة الاختلافات بين الوضع السوري وتجربة كردستان العراق، ويقول: “العملية طويلة وتتطلب توافقا داخليا دقيقا، مع ضبط التوازن بين مصالح الطرفين وتهيئة بيئة سياسية وأمنية مستدامة”.