الفاشر- في ظل صمت دولي مريب، تحوّل إقليم دارفور وولاية كردفان إلى مرآة حية لكارثة إنسانية معاصرة، بعد مرور 28 شهرا على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث وجد أكثر من نصف مليون مدني أنفسهم محاصرين بين مثلث قاتل الجوع، المرض، والقصف المستمر.

فمنذ العاشر من يونيو/حزيران 2024، تخضع مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، لحصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع، أدى إلى عزل نحو 300 ألف مدني عن الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية.

وتشير بيانات وزارة الصحة بالولاية إلى أن المدينة سجلت منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023 وحتى اليوم نحو 13 ألف قتيل وجريح، في حين أُجريت أكثر من 4 آلاف عملية جراحية لإنقاذ مصابين بشظايا أو بطلقات نارية.

وتؤكد الدكتورة خديجة موسى أحمد، المديرة العامة لوزارة الصحة بشمال دارفور، للجزيرة نت، أن النصف الأول من عام 2025 وحده شهد تسجيل أكثر من 10 آلاف و249 حالة إصابة بسوء التغذية، معظمهم أطفال، مشيرة إلى وفاة 15 طفلا بسبب تدهور الأوضاع الإنسانية.

نزوح طويل

وعلى بعد 86 كيلومترا غرب الفاشر، يعيش قرابة 750 ألف نازح في مخيمات دبة نايرة وطويلة داخل خيام بالية من القش، يتقاسمون مياه شرب ملوثة تُجمع من برك الأمطار.

ويقول آدم رجال، المتحدث باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور، للجزيرة نت، إن حالات الإصابة بالكوليرا في تزايد مستمر، حيث ظهرت بؤر جديدة في سرتوني، وكبكابية، وشرق جبل مرة، وخزان جديد بولاية شرق دارفور.

ومنذ تسجيل أول إصابة بالكوليرا في منطقة طويلة بتاريخ 21 يونيو/حزيران الماضي، أُحصيت بدارفور أكثر من 6.119 إصابة، توفي 260 منها، في ظل انهيار شبه كامل للبنية الصحية ونقص حاد في أدوية الطوارئ يُقدّر بـ70% في مدينة الفاشر.

وفي ولاية جنوب كردفان، دخلت مدينتا كادقلي والدلنج مرحلة جديدة من التدهور الإنساني منذ أغسطس/آب 2025، عقب سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال على بلدة أم أدارا، مما قطع أحد أهم الطرق التجارية القادمة من سوق النعام على الحدود مع جنوب السودان.

بالتوازي، شددت قوات الدعم السريع قبضتها على حركة البضائع والمساعدات من مدينة الأبيض، المركز الرئيس للنقل والإمداد، مما تسبب في شلل شبه كامل لخطوط الإغاثة نحو كادقلي والدلنج، وترك آلاف المدنيين يواجهون الجوع والمرض مباشرة.

ووفق بيان صادر عن منظمة الهجرة الدولية بتاريخ 12 أغسطس/آب، فإن 3070 شخصا نزحوا من مدينة كادقلي ما بين السادس والعاشر من أغسطس/آب نتيجة اشتداد القتال وانهيار الأوضاع المعيشية، وانتقلوا إلى مواقع داخلية بظروف قاسية.

حياة النازحين في منطقة جبل مرة غرب السودان (مواقع التواصل)

تحولات عسكرية

ميدانيا، بدأت مساحات سيطرة قوات الدعم السريع بالتراجع في معظم ولايات السودان، مع اتساع نطاق عمليات الجيش السوداني الذي تقدم في الخرطوم وولاية النيل الأبيض ووصل إلى مناطق في كردفان باتجاه دارفور.

ورغم اتساع رقعة الكارثة الإنسانية، لم ترقَ الاستجابة الدولية إلى مستوى التحدي فحتى 21 يوليو/تموز 2025، لم تحصل وكالات الإغاثة بما فيها الأمم المتحدة سوى على 23% من أصل 4.2 مليارات دولار مطلوبة لمساعدة نحو 21 مليون شخص من الفئات الأكثر ضعفا في السودان.

من جانبه، قال الدكتور عبد الناصر سالم، مدير برنامج شرق أفريقيا في مركز فوكس للأبحاث بالسويد، إن ما يحدث في دارفور وجنوب كردفان ليس مجرد فوضى أمنية أو انفلات محلي، بل “نمط ممنهج من الانتهاكات يتكرر عبر المدن والطرق الرئيسية، ويعكس إستراتيجية عسكرية واضحة”.

وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن قوات الدعم السريع تستخدم أساليب متعددة لفرض السيطرة وبث الرعب في المجتمعات، من بينها:

  • الحصار الطويل وقطع الإمدادات الحيوية.
  • استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين.
  • الاختطاف والاحتجاز التعسفي.
  • الجلد العلني والإذلال الممنهج.
  • القصف العشوائي وعرقلة وصول المساعدات.
  • استهداف المستشفيات ومخازن الغذاء.

وأكد سالم أن هذه الممارسات تتطابق مع أنماط الانتهاكات في الفاشر والدلنج، وتُنفذ ضمن سياسة متكررة، مما يمنحها وصف “جرائم ضد الإنسانية” وفق المادة 7 من نظام روما الأساسي، كما أوضح أنها تمثل خروقات صارخة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك:

  • تجويع المدنيين كأسلوب حرب (مادة 14 من البروتوكول الثاني).
  • الهجمات المتعمدة على المدنيين (المادة 3 المشتركة من اتفاقيات جنيف).
  • القصف غير المتناسب على مناطق مأهولة.
  • الاختفاء القسري والتعذيب (جرائم ضد الإنسانية- المادة 7).
  • الإذلال والاعتداء على الكرامة الإنسانية (المادة 8).
  • عرقلة الإغاثة الإنسانية (المادة 18 من البروتوكول الثاني).

وأضاف أن تكرار الانتهاكات عبر أقاليم متعددة ولأشهر طويلة يثبت وجود قصد جنائي على مستوى القيادة، مما يضع المسؤولية المباشرة على عاتق القيادات العسكرية والسياسية لقوات الدعم السريع بموجب المادة 28 من نظام روما.

وحذر من أن استمرار هذا النهج سيقود إلى كارثة إنسانية طويلة الأمد، تتضمن وفيات يمكن تجنبها، ونزوحا واسعا، وانهيارا تاما للخدمات الأساسية، وهو ما سيهدد استقرار المنطقة بأسرها.

مقاومة الموت

وعلى الرغم من الحصار الخانق للفاشر، لم تنطفئ جذوة الحياة بالكامل، ففي قلب الأزمة برزت مبادرات شبابية تطوعية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، متحدية الخوف والجوع وغياب المؤسسات.

وتُعد “تكية الفاشر” مثالا بارزا، إذ يديرها شبان متطوعون يقدمون وجبات يومية للنازحين الذين فقدوا كل شيء، رغم اعتمادهم على تبرعات شحيحة وأسعار غذاء ملتهبة.

لكن هذه الجهود تواجه عقبة كبرى متمثلة في الانهيار الاقتصادي الحاد، الذي جعل الغذاء والدواء سلعا نادرة. وعن ذلك يقول الناشط الإغاثي أيوب الطاهر للجزيرة نت “الفاشر لا تعيش حصارا جغرافيا فقط، بل حصارا وجوديا، فالناس هنا يبحثون عن جرعة ماء نظيف أو حفنة من علف الحيوانات (الأمباز) التي تحولت إلى غذاء للبشر”.

ويضيف أن أسعار السلع الأساسية ارتفعت بنسبة تفوق 1900%، حتى أصبح الصابون سلعة فاخرة، بينما قفز سعر ملوة الدخن (1.5 كيلوغرام) من 10 آلاف إلى 200 ألف جنيه سوداني (100 دولار)، أي أغلى من راتب موظف حكومي، وأغلى من الذهب.

وبالنظر للمؤشر الرقمي للأزمة نجد أن:

  • قتلى وجرحى الحرب في الفاشر بلغ عددهم 13 ألفا.
  • العمليات الجراحية: 4 آلاف
  • أيام حصار الفاشر: 432 يوما
  • إصابات الكوليرا: 6.119
  • وفيات الكوليرا: 260
  • السكان المحاصرون في الفاشر: 300 ألف
  • النازحون في طويلة: 750 ألفا
  • نسبة التضخم داخل الفاشر: 1900%

وبينما تتراكم أعداد الضحايا وتنهار المدن، يبقى السؤال المرير معلقا: هل أصبحت حياة السودانيين مجرد أرقام في تقارير إنسانية تُقرأ ثم تُنسى؟ فالعالم لم يموّل سوى 23% من النداء الإنساني للأمم المتحدة، ولم تُفتح ممرات آمنة، ولم تُفعّل آليات المساءلة، وكأن المجتمع الدولي اختار أن يكتفي بالمشاهدة بينما تتهاوى حياة الملايين.

شاركها.