طهران- بعد أسبوع من تأييده المفاوضات مع واشنطن، خلال مقابلته مع الصحفي الأميركي تاكر كارلسون، التي أثارت انتقادات واسعة في الأوساط المحافظة، وجّه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أول أمس الاثنين، خطابا أشبه بوثيقة سياسية لشرح رؤية حكومته للأحداث الأخيرة وتوجهاتها المستقبلية.

وفي مسعى لتقويم بعض التصريحات التي ترى الأوساط المقربة من الحكومة أنها فُسرت خطأ، جاء خطاب بزشكيان -الموجه للجاليات الإيرانية بالخارج- ليجدد مواقف حكومته من “الدبلوماسية الحازمة”، وفق مراقبين، ورسم صورة عن “نصر إستراتيجي حققته طهران بمفردها في مواجهة أحدث التسليحات الغربية”.

على وقع إصرار واشنطن وتل أبيب على نجاح عملياتهما ضد الأهداف في العمق الإيراني، وحرب السرديات الإعلامية حول نتائج حرب يونيو/حزيران الماضي، قدّم بزشكيان في خطابه رواية مفادها أن “العدو الصهيوني” تلقّى ضربات “مدمرة” خلال الحرب التي استمرت 12 يوما وأن بلاده انتزعت بالفعل زمام المبادرة وأرغمت الطرف المقابل على طلب وقف لإطلاق النار.

بين السطور

وبعد حرب يونيو/حزيران التي كادت تتطور لمواجهة إقليمية واسعة، يستهدف بزشكيان الإيرانيين بالخارج لما يمثلونه من قناة نفوذ ثقافي في المهجر، لتحقيق توازن بين القوتين الخشنة والناعمة، مؤكدا استعداد المؤسسة العسكرية الإيرانية لمواجهة أي تصعيد عسكري إلى جانب الدبلوماسية التي طالما استحوذت على مساحة كبيرة من خطاب حكومته.

فتكررت الكلمات الدالة على معاني “السلام والدبلوماسية والتعامل البناء” أكثر من غيرها في خطاب الرئيس الإيراني، تليها مصطلحات “الحرب والعدو الصهيوني والمعتدي” ليرسم صورة مناهضة للنزاع عن طهران التي يقدمها -في السياق ذاته- بأنها ضحية للاعتداءات الأجنبية.

وبين ثنائية “السلم والحرب” تجنح سفينة بزشكيان للسلم، لكن سرعان ما يؤكد حق بلاده في “الدفاع المشروع” وفق ميثاق الأمم المتحدة، وذلك بهدف إضفاء الشرعية على الإجراءات العسكرية الإيرانية السابقة وعزمها الرد الصارم على أي اعتداءات مستقبلية.

ورغم غياب اسم المرشد الأعلى علي خامنئي في خطابه، إلا أن بزشكيان تعمد أن يرد على الانتقادات التي تعرض لها عقب مقابلته مع الصحفي الأميركي تاكر كارلسون من خلال نسج مواقفه على منوال سردية المرشد، إذ أشاد “بحكمة القيادة وإدارة الأزمة الأخيرة” واصفا رأس هرم السلطة في إيران بأنه “رأسمال وحدوي” عزز الجبهة الداخلية.

رسائل للخارج

من ناحيته، يرى الباحث السياسي حسن هاني زاده أن الخطاب الأخير للرئيس الإيراني يمثل خارطة طريق تستكمل مواقفه السابقة التي أثارت جدلا لدى الأوساط “المتطرفة” بدعوى تأييده المسار الدبلوماسي الذي بدأته حكومته مع الجانب الأميركي لحلحلة القضايا الشائكة بشأن الملف النووي، مؤكدا أن الخطاب الجديد جاء تأكيدا على النهج الدبلوماسي لنزع التوتر وتعزيز الردع الإيراني.

وفي حديثه للجزيرة نت، يلمس الباحث الإيراني في الخطاب “تهديدا مغلفا بالسلمية” من خلال التأكيد على أن الجنوح للسلم لا يعني أن طهران ضعيفة “بل أصابع قواتها المسلحة على الزناد لرد الصاع صاعين”، انطلاقا من التجربة التي اكتسبتها خلال حرب 12 يوما.

ورأى الباحث أنه -خلافا لتفسير بعض الأوساط الداخلية لمواقف بزشكيان السابقة- أوضح أن نافذة الدبلوماسية لن تبقى مفتوحة للأبد وأنه يحمّل الطرف المقابل مسؤولية أي فشل محتمل للخيار الدبلوماسي في حال أصر على مطالب غير مقبولة أو تجاهل الشروط الإيرانية لأي مفاوضات مقبلة أو جدد مطالبه باستسلام طهران، إذ رفض هذه المطالب جملة وتفصيلا.

ووفق هاني زاده، فإن الخطاب الموجهه للإيرانيين بالخارج حوّل الملف النووي إلى معركة وجودية، متهما واشنطن وإسرائيل بالتنسيق لضرب مرتكزات القوة الإيرانية وعلى رأسها المنشآت النووية، فيكرس واقع الحرب الأخيرة لتعبئة وحدوية غير مسبوقة بين الشعب والنظام الإسلامي.

وبينما يؤكد الرئيس الإيراني تبني “سلاح الدبلوماسية” خيارا إستراتيجيا لإبعاد شبح الحرب عن بلاده -حسب هاني زاده- يجدّد موقف الجمهورية الإسلامية المتمسّك بالبرنامج النووي السلمي ويقدمه “حقا غير قابل للتفاوض”.

رسائل للداخل

من جانبه، يعتقد الباحث السياسي سعيد شاوردي أن نص الخطاب يعمل، من خلال تكراره المقصود مصطلحات “الوحدة والتماسك والوفاق الوطني والتآزر بين الإيرانيين في الداخل الخارج”، على تحويل الأزمة الأخيرة إلى فرصة تاريخية لتعزيز التلاحم بين الشعب ونظام الجمهورية الإسلامية وتكريس دوره التوجيهي خلال الأزمة.

وفي تصريح للجزيرة نت، يقرأ الباحث الإيراني في التلميح لفصل جديد من الأمن والازدهار والاعتماد على الشباب والتعهد بضمان استقرار الأسواق وتوفير السلع الأساسية والخدمات، محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المحتمل في ظل الحرب النفسية التي يشنها الإعلام المعادي.

وتابع شاوردي، أن بزشكيان حاول توجيه الرأي العام الإيراني نحو مستقبل واعد من خلال الحديث عن “الأمل وفتح آفاق جديدة وإيران القوية”، مضيفا أن الخطاب يستهدف تعبئة الدعم الداخلي والخارجي عبر وعود طمأنة اقتصادية لجميع شرائح الشعب سواء كانت في الداخل أو بالخارج.

في المقابل، تنتقد صحيفة “جوان” المقربة من الحرس الثوري، تأييد بزشكيان “النافذة الدبلوماسية” وترى في المقولة تناقضا مع “واقع الجرائم الأميركية”، مضيفة أن الإصرار على فتح هذه النافذة دون تسليط الضوء على مخاطرها یُشبه من یفاوض خصمه الذي يحمل سکینا لطعنه، متسائلة “ألیس الأجدر بالقائمين على كتابة هذا الخطاب أن يشرحوا للشعب: ما الذي تغیر في العدو حتی نثق به؟”.

وجاء في تعليق الصحيفة، من دون ذكر اسم الكاتب: “الإيرانيون في الخارج على يقين وإلمام واسع بجرائم الولايات المتحدة والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، إذ إن المناخ خارج إيران تجاه هذه الجرائم ليس أقل احتجاجا منه في الداخل إن لم يكن أشد، لذلك من المتوقع أن يُطلعهم خطاب الرئيس المحترم الموجه للمغتربين، على أقل تقدير، على الشكوك القائمة حول هذه النافذة”.

شاركها.