في الوقت الذي تشهد فيه الساحة السورية سلسلة من التحولات العميقة داخليا وخارجيا، يخيم الصمت على الموقف الروسي، فموسكو التي كانت حتى وقت قريب اللاعب الأكثر حضورا وتأثيرا في الملف السوري، تكتفي اليوم بالمراقبة من بعيد، دون تعليق يُذكر على الأخبار الواردة عن تطبيع محتمل أو الاتفاقيات الأمنية المطروحة بين سوريا وإسرائيل، أو الحراك السياسي داخل دمشق، أو حتى التوترات الميدانية في مناطق مثل السويداء وشمال شرق البلاد.

هذا الصمت لا يبدو عابرا أو ناتجا عن انشغال مؤقت، بل يعكس -على ما يبدو- تحولا في أولويات الكرملين، وربما إدراكا بأن النفوذ الروسي في سوريا يواجه مرحلة تراجع، أمام تمدد لاعبين جدد، وتغير المزاج الإقليمي والدولي تجاه مستقبل البلاد.

فلماذا تغيب موسكو عن المشهد السوري الآن؟ وهل ما زالت تملك أوراقا تؤهلها للعودة إلى قلب اللعبة؟ أم أن روسيا التي زرعت قواعدها في الساحل السوري باتت تكتفي بالمراقبة بعد خسارتها لأدوات الضغط والتأثير في الواقع السوري الجديد؟

خارطة قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين في سوريا (الجزيرة)

تحوّل في السياسة الخارجية الروسية

يرى مراقبون أن الغياب الروسي عن تفاصيل المشهد السوري لا يمكن فصله عن تحوّلات أوسع في السياسة الخارجية الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فموسكو التي طالما اعتمدت نهج التدخل المباشر والتصريحات الحادة في ملفات الإقليم، باتت تعتمد خطابا أكثر هدوءا، وسلوكا يميل إلى الانكفاء والترقب.

ولعل أبرز المؤشرات على هذا التحول ما يراه محللون في إقالة المبعوث الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، التي اعتُبرت من قبل عدد من الخبراء خطوة تتجاوز البعد الشخصي، وتعكس توجها جديدا في مقاربة روسيا للمنطقة.

ويؤكد الباحث في معهد الدراسات الإستراتيجية، إيغور زاباروجتسوف، في تعليقه للجزيرة نت، أن “إقالة بوغدانوف لم تكن عقوبة له، وإنما تمثل بداية لتحول شامل في السياسة الخارجية الروسية، فرضته التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها تغير النظام في سوريا، والحرب بين إيران وإسرائيل، إضافة إلى اهتزاز منظومة التحالفات القديمة التي بنت موسكو عليها حضورها الإقليمي”.

وبالنسبة لانعكاس هذا التحول في السياسة الخارجية الروسية على الملف السوري، يرى سمير العبدالله مدير وحدة تحليل السياسات في المركز العربي لأبحاث سوريا المعاصرة، أن “الصمت الروسي لا يعكس حيادا بقدر ما يُشير إلى تحول في المقاربة تجاه الملف السوري، فموسكو باتت تفضّل الرصد والمراقبة بدلا من اتخاذ خطوات علنية قد تفتح عليها جبهات جديدة مع القوى الغربية”.

ويضيف العبدالله، في حديثه للجزيرة نت، أن “النهج التقليدي الذي اعتمدته روسيا سابقا في سوريا لم يعد مجديا، لا سيما مع تغيّر الفاعلين المحليين، وتحوّل الديناميكيات الداخلية، والضغوط المتزايدة من البيئة الإقليمية والدولية، مما قد يدفع موسكو لإعادة النظر في إستراتيجيتها تجاه سوريا في المستقبل القريب”.

لقاء عقد في دمشق بين القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع وميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي
أحمد الشرع مستقبلا ميخائيل بوغدانوف المبعوث الروسي الخاص السابق إلى الشرق الأوسط (الصحافة السورية)

انشغال الكرملين بالحرب الأوكرانية

مع احتدام الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوترات مع الغرب، باتت سوريا ملفا ثانويا في أجندة الكرملين، فروسيا التي خاضت سنوات من التدخل العسكري والسياسي العميق في سوريا، تبدو اليوم منشغلة على جبهة أخرى أكثر إلحاحا، وتواجه تحديات متراكبة تستنزف قدراتها وتعيد رسم أولوياتها.

وجاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم 14 يوليو/تموز لتزيد الضغوط على موسكو، بإعلانه عن اتفاق مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، التي تتولى واشنطن تصنيعها بينما يتكفّل الناتو بتمويلها.

وهدّد ترامب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الواردات الروسية، إلى جانب عقوبات ثانوية على الدول التي تواصل شراء النفط من موسكو، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام خلال 50 يوما.

في هذا السياق، يرى الباحث في العلاقات الدولية أمجد جبريل أن “روسيا باتت أكثر انشغالا بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها الأوروبية والأميركية، إلى جانب سعيها لتوثيق تحالفاتها مع الصين وكوريا الشمالية، وهو ما أدى إلى تراجع أهمية الملف السوري في أجندتها”.

ويضيف جبريل في حديثه للجزيرة نت “بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود ترامب مجددا إلى سدة الحكم، بدأت موسكو تتعامل مع سوريا بوصفها ورقة استُنفدت أغراضها الجيوسياسية، وأصبحت تركز على ترسيخ دورها كقوة إقليمية مؤثرة، لا كمنافس مباشر على زعامة النظام الدولي”.

وفي المقابل، تقلل الأوساط المقربة من صناع القرار الروسي من احتمال أن تكون هذه الانشغالات قد أضعفت موسكو، إذ يوضح المستشار في شؤون السياسة الروسية، رامي الشاعر أن الحرب في أوكرانيا، رغم تعقيداتها لم تخرج موسكو عن نطاق سيطرتها الإستراتيجية.

ويؤكد في حديثه للجزيرة نت أن “روسيا لا تعتبر هذه الحرب استنزافا لقدراتها، بل جزءا من إعادة صياغة التوازنات الدولية، فهي دولة نووية كبرى، ذات إمكانيات عسكرية واقتصادية هائلة، ومساحة جغرافية تمثّل نحو ثلث مساحة العالم، ولا يمكن لأي قوة أن تتجاوز موقعها أو تهدد مكانتها”.

مصالح روسيا مؤمنة

وسط التساؤلات المتزايدة عن غياب روسيا عن المشهد السوري بعد سقوط النظام المخلوع، يرى محللون أن الهدوء الروسي ليس انعكاسا للضعف أو الانكفاء، بل ناتج عن قناعة بأن مصالح موسكو الحيوية في سوريا لم تتعرض لأي تهديد حقيقي، وأن إعادة التموضع الجيوسياسي لا تقتضي بالضرورة الحضور العلني في كل منعطف.

فمنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، كان الهدف الأبرز للكرملين هو تأمين موطئ قدم إستراتيجي دائم في شرق المتوسط، وهو ما تحقق فعلا من خلال تطوير قاعدة “حميميم” الجوية، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى جسر جوي عسكري وسياسي نحو أفريقيا، وأداة للنفوذ الروسي العابر للإقليم.

ومع التغيرات الأخيرة في بنية الحكم داخل دمشق، تؤكد موسكو تمسّكها بعلاقاتها مع سوريا، مع الإشارة إلى استمرار التنسيق بين الطرفين، إذ قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين في 14 يوليو/تموز الجاري، في تصريح لوكالة نوفوستي “نواصل اتصالاتنا مع دمشق بشأن جميع القضايا، بما في ذلك مسألة القواعد الروسية في سوريا”، مشددا على أن “العلاقات مع الشعب السوري كانت دائما ودّية وتقليدية”.

من جانبه يرى الباحث سمير العبدالله أن “ما يجري في سوريا بعد سقوط نظام الأسد لا يُشكل تهديدا جوهريا للمصالح الروسية”.

ويوضح العبدالله أنه “رغم التغيرات العميقة التي تشهدها البلاد، لا تزال القوات الروسية متمركزة في مواقع إستراتيجية، أبرزها قاعدة حميميم ومطار القامشلي، كما أن موسكو ما زالت تتابع عن كثب ملفات استثمارية واقتصادية تخصها، بعضها أمام المحاكم المختصة، مما يشير إلى التزام روسي واضح بحماية المصالح لا أكثر”.

وكان الرئيس السوري أحمد الشرع أكد في أول تعليق له على علاقات بلاده مع روسيا في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي أن الأخيرة هي ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة، مضيفا أن دمشق لا تريد أن تخرج روسيا بطريقة لا تليق بعلاقتها الطويلة مع سوريا.

التقى الرئيس السوري أحمد الشرع، السفير الأمريكي لدى أنقرة، مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا توماس باراك، في إسطنبول. ( Dışişleri Bakanlığı - وكالة الأناضول )
الرئيس السوري الشرع مستقبلا المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك في إسطنبول (الأناضول )

سوريا تغير بوصلتها السياسية

من بين الأسباب التي قد تفسر الصمت الروسي تجاه التغيرات الجارية في سوريا، يبرز التحول الإستراتيجي في بوصلة السياسة السورية الجديدة، التي باتت تُراهن بشكل متزايد على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، كبديل عملي وفعّال عن موسكو، التي يرى مراقبون أنها استنزفت حضورها دون أن تقدم حلولا حقيقية بعد عقد من الانخراط العسكري والدبلوماسي.

ففي الأشهر الأخيرة، كثّفت واشنطن حراكها السياسي في الملف السوري، عبر سلسلة من الخطوات اللافتة، من أبرزها التسهيلات المتسارعة في ملف العقوبات، وإعادة تنشيط مسار السلام مع إسرائيل، بالإضافة إلى ربط مستقبل سوريا بمنظور إقليمي أوسع، يجمع بين الاعتبارات الأمنية والسياسية والاقتصادية.

ويرى مراقبون أن هذا المشروع الأميركي يسعى إلى إعادة تعريف سوريا الجديدة كجزء من هندسة إقليمية شاملة، تتطلب إخراج موسكو من دائرة التأثير، لصالح شراكة أوثق مع الغرب.

وفي هذا السياق، يقول الباحث في العلاقات الدولية أمجد جبريل إن الحكومة السورية الجديدة اتخذت توجها مختلفا عن النظام السابق، وانتقلت من الرهان على المحور الشرقي، إلى التقارب مع المعسكر الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة.

ويتابع جبريل أن واشنطن تملك مفاتيح رفع العقوبات، والقدرة على دعم إعادة الإعمار، وشرعنة الحكومة السورية الجديدة في المحافل الدولية، وهي أمور لا تستطيع روسيا تأمينها بسبب تراجع علاقاتها مع المجتمع الدولي.

ولا تقتصر هذه المقاربة الجديدة على الولايات المتحدة فقط، بل تشمل أيضا الحلفاء الإقليميين لواشنطن، مثل تركيا والسعودية، اللتين تبنّتا نهجا داعما للإدارة السورية الجديدة، على المستويين السياسي والاقتصادي، وساهمتا في تسهيل عدد من الاتفاقات الميدانية والإدارية، خصوصا في المناطق الحدودية والشمالية، بحسب جبريل.

من ناحيتها، اعتبرت دراسة لبرنامج الأمن القومي الأميركي في مايو/أيار الماضي أن سقوط الأسد ورفع العقوبات يمثلان تحوّلا إستراتيجيا في سوريا، يعكس ثقة حذرة بدمشق الجديدة، ويوجه في الوقت نفسه ضربة للنفوذ الروسي الذي لم يحقق مكاسب تُذكر، وسط تغير مرتقب في موازين القوى الإقليمي.

وتعكس هذه التحولات -بحسب مراقبين- إعادة تموضع لسوريا الجديدة ضمن تحالفات جديدة، تنظر إلى الغرب لا بوصفه خصما، بل كـ”ضامن ممكن” للشرعية والمساعدات، وهي نظرة تُضعف تلقائيا الحاجة إلى الدور الروسي أو النفوذ الإيراني، وتفسّر بشكل غير مباشر صمت موسكو وميلها إلى المراقبة دون تدخل.

روسيا ليست غائبة بل تتابع باهتمام

في مواجهة توصيفات السياسة الروسية تجاه ما يجري في سوريا، يرى المستشار رامي الشاعر أن الكرملين لا يتخلف عن المشهد، بل يتابع باهتمام تطورات سوريا، مشدّدا على أن صمت روسيا لا يعني اللامبالاة.

وأوضح الشاعر أن روسيا تعتبر محادثات سوريا وإسرائيل شأنا سياديا سوريا لا يجوز التدخل فيه، فروسيا تؤكد دائما على احترام قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتعترف بحدود سوريا الطبيعية وضرورة انسحاب إسرائيل من الجولان.

وأضاف أن التحولات الإدارية والسياسية التي تشهدها دمشق بعد إسقاط الأسد تُعد شأنا داخليا سوريا، ولا تعطي لأي طرف حق التدخل.

وبحسب الشاعر، فإن روسيا تقود انتقال العالم إلى تعددية قطبية، مع تعزيز دور الأمم المتحدة واحترام ميثاقها، إذ ليس هناك صمت بل عمل ونشاط دولي يساهم في عالم متعدد الأقطاب.

وتؤكد روسيا حضورها في مجلس الأمن بتصريحات واضحة حول الأراضي السورية، لا سيما في ملف الجولان، فعلى سبيل المثال عبّر مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، عن دعم موسكو لموقف سوريا في مطالبتها بانسحاب إسرائيل.

ويؤكد الشاعر أن هذا هو التوجه ذاته الذي عكسه الموقف الروسي في مارس/آذار الماضي، حين تعاونت موسكو مع واشنطن لإصدار بيان رئاسي لمجلس الأمن يدين أعمال العنف الطائفية في اللاذقية وطرطوس، مؤكدا على وحدة سوريا وسيادتها.

شاركها.