باريس- لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، تسقط حكومة في تصويت على الثقة. نتيجة لم تكن مفاجئة في ظل الظهور الواضح للشروخ الداخلية التي أدت في آخر المطاف إلى انهيارها تحت ثقل التناقضات الحزبية وواقع البلاد المعقد قبل بدء مناقشات ميزانية 2026 المحورية.

فمنذ توليها مهامها، لم تكن حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو ثمرة توازن سياسي ناضج، بل نتيجة ائتلاف اضطراري بين مراكز قوى متعددة، لذا بدت وكأنها تمشي على حبل مشدود فوق مشهد سياسي متقلب ومنقسم ومترقب لازدياد ضغط الشارع.

وكانت 9 أشهر كفيلة لها لتخسر رهانها وتجعل استمرارها في قصر بوربون مهمة مستحيلة. أما عن تبعات التصويت وتفاصيل ما يدور حاليا في الكواليس، فيبقى هناك سؤال مهم مطروح، هل يعكس السقوط أزمة حكومة أم أزمة نظام كامل؟

سقوط متوقع

وقدّم بايرو استقالته، اليوم الثلاثاء، وفق المادة 50 من الدستور، بعد تصويت 364 نائبا لصالح حجب الثقة مقابل 194 صوتا مؤيدا له، ليجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه أمام مهمة صعبة تتمثل في اختيار رئيس الوزراء الرابع في أقل من عامين.

وبعد دقائق من إعلان التصويت في الجمعية الوطنية، أشاد زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري جان لوك ميلانشون عبر حسابه على منصة “إكس” بـ”النصر والارتياح الشعبي”، قائلا “سقط بايرو، والآن ماكرون في الصفوف الأمامية لمواجهة الشعب. يجب أن يرحل هو أيضا”.

من جانبها، أوضحت رئيسة كتلة الجبهة الوطنية في الجمعية مارين لوبان أن “حل الحكومة ليس خيارا، بل واجب”. وكتب رئيس الحزب جوردان بارديلا في تغريدة “صفحة حكومة بايرو قد طُويت. التغيير لم يعد ينتظر: فلنتحدث عن مستقبل البلاد”. أما ماكرون فقد صرح في بيان صحفي بأنه سيُعيّن خليفة لرئيس الحكومة خلال الأيام القليلة المقبلة.

يعتقد المحلل السياسي إيف سنتومير أن نتيجة التصويت كانت متوقعة، لأن المعارضة لم تكن لتسمح للحكومة بكسب الثقة، وأنها كانت أسوأ مما تصوره رئيس الوزراء إذ لم يشارك بعض نواب معسكره في التصويت.

وأضاف للجزيرة نت أن كل الحكومات السابقة كانت تماطل من حيث التوجه، ليس فقط السياسي والأيديولوجي، ولكن أيضا في تنفيذ السياسات العامة، مما يجعل وضع البلاد الحالي صعبا للغاية.

وقد صرحت صوفي بينيه، الأمينة العامة للاتحاد العام للعمال، بأن فرنسا لن تنعم بالاستقرار السياسي دون عدالة اجتماعية، مشيرة إلى أن “النقطة المشتركة بين غابرييل أتال وميشال بارنييه وفرانسوا بايرو هي أنهم جميعا سقطوا بسبب العنف الاجتماعي الذي اتسمت به سياساتهم”.

يُذكر أن بايرو عُيّن رئيسا لحزب الحركة الديمقراطية في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد حجب الثقة عن سلفه بارنييه، صاحب الرقم القياسي لأقصر حكومة في الجمهورية الخامسة.

حسابات صعبة

ومع استقالة بايرو، تدخل باريس منطقة رمادية. فماكرون الذي حاول منح الحكومة غطاء سياسيا دون أن يتورط بشكل مباشر، يجد نفسه اليوم أمام ضرورة إعادة هيكلة السلطة التنفيذية في أيام قليلة، خشية الانزلاق نحو أزمة دستورية.

وبالتالي، يتعين عليه الاختيار بين تكرار لعبة الترقيع بتعيين شخصية وسطية جديدة، أو الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بتشكيل حكومة مواجهة بأغلبية واضحة وقادرة على خوص الصدام بدل تأجيله. لكن من لديه القدرة على تشكيل حكومة تحظى بثقة البرلمان والشارع في آن معا؟ وهل المشهد الحزبي مهيأ لذلك؟

في هذا السياق، أشار المتخصص في الشأن الفرنسي سنتومير إلى الانقسام الحزبي الصارخ، قائلا “من جهة، أعلن حزب فرنسا الأبية أنه لن يدعم حكومة وحدة وطنية بين الاشتراكيين والماكرونيين. ومن جهة أخرى، أعلن اليمين أنه لن يدعم حكومة تضم ممثلين عن حزب ميلانشون اليساري”.

وتابع “كما يبدو من المستحيل تقريبا وجود تحالف بين حزب ماكرون والتجمع الوطني بقيادة مارين لوبان، وهذا يعني أننا في طريق مسدود، والأفضل هو إجراء انتخابات جديدة ثم تشكيل جمعية تأسيسية تغير النظام السياسي وتدير اللعبة في غضون عام أو عام ونصف”.

فبعد أن كان اليمين المتطرف داعما لبايرو بطريقة أو بأخرى، عاد للواجهة لاستغلال الفراغ. أما اليسار المنقسم، فيعتبر سقوط رئيس الوزراء فرصة دون تقديم أي بديل مقنع. وفي الوسط، تبدو الأصوات مرهقة وغير قادرة على استخراج اسم جديد في حقل الألغام السياسي.

أما الكاتب والمحلل السياسي جان بيير بيران فيرى أن نتيجة التصويت لا تعكس نهاية الوسطية، بل بداية نهايتها، أي أن باريس تتجه نحو استقطابٍ يساري يميني بعد أن كان بايرو آخر ممثل بارز للوسطية في البلاد.

ويفسر قوله للجزيرة نت “لقد ابتعدنا عن الوسطية التي كانت موجودة في فرنسا لفترة طويلة جدا وانتقلنا اليوم إلى شيء آخر. وإذا ضعف المركز إلى حد الاختفاء تقريبا، فستكون لدينا حياة سياسية أكثر استقطابا بين اليسار واليمين ولن يكون هناك مركز بينهما”.

قلق خارجي

يثير الوضع في فرنسا مخاوف متزايدة في أوساط الأعمال وبين شركائها الأوروبيين، خاصة بعد بلوغ دينها العام 3.346 تريليونات يورو (نحو 3.6 تريليونات دولار) في نهاية الربع الأول من العام الجاري.

أما من منظور السياسة الخارجية، فأشار الكاتب والمحلل السياسي بيران إلى ملف الاعتراف بدولة فلسطين كمثال، موضحا “في هذه الحالة، سيتم اتخاذ هذا القرار المهم من قبل الرئيس ماكرون وحده وليس من رئيس الجمهورية وحكومته، وهذا سيكون أمرا غريبا بالفعل”.

كما اعتبر أن صورة فرنسا على المحك على المستوى الخارجي، مضيفا “أعتقد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يفرك يديه الآن بالطبع لأنه يترقب ما سيؤول إليه ملف الاعتراف خاصة”.

وأكد أنه “من غير المسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة أن يتخذ الرئيس جميع القرارات المهمة على الساحة الدولية، رغم أن ذلك يصب ضمن دوره ومسؤوليته، لأن في العادة يلعب وزير الخارجية -الغائب حاليا مع سقوط الحكومةـ هذا الدور أيضا”.

من جانبه، يعتقد المتخصص في الشأن الفرنسي سنتومير أن المشكلة الحقيقية تتمثل في أداء النظام السياسي كله وليست حكومة بايرو تحديدا، ولذا تحتاج البلاد إلى إصلاح لا يقتصر على مجرد ترقيع التسريبات المنتشرة في كل مكان؛ بل إلى تغيير جذري في النظام السياسي”، حسب كلامه.

واليوم، لا تعد فرنسا في أزمة حكومية عابرة، بل في منعطف تاريخي سيعيد رسم سياستها الداخلية قبل الخارجية، ولحظة سقوط الحكومة يجب ألا تُقرأ فقط كفشل سياسي، بل كمرآة لتغيّر عميق في المزاج السياسي العام الذي يأمل أن يكون ما بعد بايرو مختلفا عما قبله.

شاركها.
Exit mobile version