بروكسل- بجسده المنهك وصوته الواهن الذي لم يفارقه الثبات والعزيمة، يتنقل الأديب والأكاديمي الإسباني غريان كوتاندا كل يوم بين مؤسسات أوروبا الرسمية في بروكسل، يعترض بصمت طريق البرلمانيين الأوروبيين وموظفي المفوضية الذين صاروا يعرفونه ويذكّرهم وجهه ربما بذنب يتجنبون تذكره في جلساتهم البرلمانية.
يقف أمام مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) ويتوجه أحيانا إلى ساحة المتحف، حيث يعتصم ناشطون يوميا من أجل غزة. لم يكن العثور عليه سهلا. أمضيت عدة أيام أبحث عنه، أستفسر من أصدقاء وناشطين عن مكانه، حتى وصلتني أخيرا رسالة مقتضبة منه “سأكون اليوم أمام البرلمان الأوروبي، نلتقِ هناك”.
وحين وصلت، وجدته بالفعل أمام بوابة البرلمان. رجل نحيل ولحية منسدلة مع شعر أبيض كثيف، تكاد عيناه تغيبان تحت ظلال التعب، لكنه لا يزال واقفا. اقتربت منه، همست له أن نتحرك قليلا بعيدا عن الضجيج لنبدأ حديثنا، لكنه أمسك بذراع أحد رفاقه بيده المرتجفة وقال لي بابتسامة واهنة “دعنا نلتقط صورة جماعية أولا مع هؤلاء الرفاق، نحن هنا معا من أجل غزة”.
التقطت له صورة مع نشطاء قالوا إنهم قدموا من مدن أوروبية متعددة من أجل إيصال صوت أطفال غزة. فمن هو غريان كوتاندا؟
غريان كوتاندا
هو كاتب وأكاديمي إسباني حاصل على دكتوراه دولية في العلوم التربوية من جامعة غرناطة، ومتخصص في علم النفس السريري والاجتماعي، كما يصف نفسه أولا بأنه باحث في الضمير البشري. أصدر أكثر من 20 كتابا، من بينها رواية “البستاني” التي نُشرت في 28 طبعة وتُرجمت إلى 13 لغة.
كما شارك في تأسيس فرع حركة “إكستنكشن ريبليون” البيئية في إسبانيا، وخاض عام 2021 إضرابا عن الطعام استمر 33 يوما للمطالبة بتحرك عالمي تجاه أزمة المناخ.
حين سألناه “لماذا هذا الإضراب الآن؟”، أجاب دون تردد “الدافع؟ هذا العالم قاسٍ. أحيانا لا تفكر، فقط تشعر. كما لو أنك تحرق يدك فتسحبها فورا. رأيت ذلك الفيديو من غزة، طفل عمره عامان يظهر جسمه من تحت الأنقاض بلا رأس. حينها أدركت أن الصمت جريمة. يجب أن أفعل شيئا”.
ويضيف للجزيرة نت: “صديق وفنان فرنسي تواصل معي واقترح عليّ الانضمام إلى صيام متقطع، قلت له سأفكر، وبعد يومين أخبرته أنني سأقوم بإضراب عن الطعام، وليس فقط صياما”.
بدأ كوتاندا إضرابا مفتوحا في منزله منذ العاشر من يونيو/حزيران 2025، دون إعلان رسمي، ثم انتقل إلى لاهاي، ليُعلن من قصر السلام، مقر محكمة العدل الدولية، دخوله رسميا في إضراب عن الطعام، بالتزامن مع فعالية دُعي إليها هناك.
وبعد أيام جاء إلى بروكسل، ويقول “في لاهاي، كنت في الذكرى 25 لميثاق الهواء، وقيل لي إنه سيتم تكريمي. فقلت: هذه لحظة مناسبة لأعلن الإضراب. لكن المكان لا يكفي. يجب أن أكون هنا، في الشارع، أمام المفوضية الأوروبية، أمام البرلمان. إذا لم يسمعوا صراخ الفلسطينيين، فربما يشعرون بجوع جسدي”.
دعم ومطالب
أطلق كوتاندا ورفاقه حملة “الصيام العالمي من أجل الحياة في غزة”، التي بات يشارك فيها 133 شخصا من 24 دولة، يصومون 12 أو 24 أو 48 ساعة أسبوعيا. لكنه الوحيد الذي يخوض إضرابا تاما عن الطعام. ويوضح “بدأناها في 5 أيام فقط. كانت محاولة بسيطة لكنها نمت بسرعة. هناك كثيرون يشاركون، لكن أنا فقط، منذ أكثر من 38 يوما، لا أتناول شيئا”.
يشرب قهوة بدون كافيين مع حليب اللوز أو البندق ويتناول الفيتامينات، المغنيسيوم، والبوتاسيوم، والإلكتروليتات. طاقته تنخفض يوما بعد آخر. ويحتاج إلى النوم مرتين في اليوم، “لكنني أواصل لأن غزة لا تنام”.
كان حادا في كلماته حين سألته الجزيرة نت عن رسالته من هذا الإضراب أمام البرلمان إلى القادة الأوروبيين، وأجاب بأن رسالته لهم: “أنتم تمارسون النفاق. تتحدثون عن حقوق الإنسان ثم تبيعون السلاح لإسرائيل، إنكم لا تمثلون شعوب أوروبا”. ويستشهد باستطلاع في إسبانيا قال فيه 82% من الإسبان -من اليسار واليمين- إن ما يجري في غزة إبادة جماعية.
وعدّد كوتاندا مطالبه:
- تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل.
- فرض عقوبات على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، والقادة العسكريين، والشركات المتواطئة.
- وقف بيع وشراء الأسلحة مع إسرائيل.
- استدعاء السفير الإسباني لدى تل أبيب فورا.
ويؤكد كوتاندا “لا أطلب المستحيل. حتى محكمة العدل الدولية أوصت بالعقوبات. فلماذا هذا الصمت؟ لماذا لا أحد يتحرك! الناس تحجّرت وحتى الإعلام اليساري صامت”، وأكثر ما يؤلمه ليس تجاهل السياسيين فقط، بل “تبلد الناس”، كما يقول.
ذهب إلى البورصة وسط بروكسل حاملا لافتة تقول إنه في اليوم 35 من الإضراب، ولكن لم يتحدث إليه أحد، فقط رجل واحد قال له “نعم، نعم” وسار في طريقه، “كأن الشر في غزة أصبح مثل أسطورة ميدوسا، من ينظر إليه يتجمد. الناس تحولت إلى حجر. لا أحد يتحرك”.
ويضيف بمرارة “حتى الإعلام اليساري لم يسألنا: ماذا تفعلون؟ ما رسالتكم؟ فقط 3 نواب في البرلمان هم من زارونا: تينيكه ستريك، وكاتارينا فييرا، ورودي كينيس. وأنتم الجزيرة نت وهذا يعني لي الكثير”.
صديق النضال
لم يكن خافيير مجرد رفيق ميداني لغريان كوتاندا. فالرجل الذي جلس بصمت أغلب اللقاء، يراقب ويصغي، كشف للجزيرة نت لاحقا عن خلفية مهنية عميقة في العمل الأوروبي الرسمي، قبل أن يكرّس وقته اليوم لما يسميه “الدفاع عن الكرامة في زمن الصمت”.
وقال “أنا حاليا رئيس مؤسسة ’الحق في الحياة للكائنات الحية‘، كما أنني درّست في جامعة كارلوس الثالث بمدريد. وآخر مهامي في المفوضية الأوروبية كانت نائبا لرئيس وحدة العلاقات مع المنظمات الدولية والدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، داخل المديرية العامة للتنمية”.
ثم أضاف بابتسامة مترددة: “عملت في هذه البنى الرسمية لسنوات، وسافرت كثيرا، لكني اليوم أشعر أن هذه اللحظة بجانب غريان هي الأكثر صدقا في مسيرتي. نحن نميل قليلا إلى الروحانية ونتحدث من القلب. حين علمت أنه قادم إلى بروكسل، قلت لنفسي: هذه هدية من السماء. لم أكن قادرا على الإضراب بنفسي، لكن يمكنني أن أكون إلى جانبه”.
ويتابع خافيير “غريان ومانويل (زميل آخر لهما) هما ملاكان في هذا الاعتصام. لولاهما لما صمدت. أنا مجرد ملاك صغير جدا، لكنه يفعل ما يستطيع. إذا صمت العالم الآن، فإن ضمير البشرية سيتشظى”.
ويعود كوتاندا ليختم حديثه للجزيرة نت: “ننظر إلى ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، 80 عاما من شعور الألمان بالذنب، رغم أنهم لم يكونوا يعرفون ما يجري داخل معسكرات الإبادة. لكن الآن؟ العالم كله يعرف ما يجري في غزة. نراه بالصوت والصورة. فما حجم الذنب الذي سيحمله ضمير البشرية بعد 10 أو 20 عاما؟ سيكون عميقا جدا وربما لا يُشفى أبدا”.
ويُقاطعه خافيير بصوت متماسك: “الأمر لا يخص غزة فقط، بل مصير الحضارة، العدالة الدولية، والمنظمات، وحقوق الإنسان. إذا لم تتحرك الآن، فإنها تنهار. نحن نتجه نحو عالم مظلم ومتشظ”.
أكملت اللقاء وأنا أنظر حولي وأفكر بأن اختم اللقاء بأنه في زاوية باردة من بروكسل، يقف غريان كوتاندا جسدا هزيلا، لكن صوته أقوى من برلمانات وحكومات عربية وعالمية. هو لا يطلب شيئا لنفسه فقط ألا تباد غزة ولا تجوع، وأضعف الإيمان ألا تجوع وحدها.