غزة- “كثير من النازحين من مدينة غزة شمالا يبيعون محتويات منازلهم للاستفادة من ثمنها في رحلة النزوح الطويلة نحو جنوب القطاع”، يقول محمد الجبالي، بائع الحطب، وهو يقف وسط كومة كبيرة من أخشاب كانت قبل أيام أثاثا وغرف نوم لأسر فلسطينية.

ويضيف الجبالي للجزيرة نت “يبيعنا الناس أثاث بيوتهم، وبدورنا نبيعه حطبا بعد تقطيعه.. وهناك من يبيع حتى ملابسه”. ويقول إن الناس في القطاع لا يبيعون مجرد أثاث جامد، بل ذكرياتهم السعيدة، وصورهم التي كانت محفورة على تلك المقاعد والطاولات، من أجل بعض النقود التي تساعدهم على الحياة في ظل الغلاء والتجويع.

ويتنهد الرجل (42 عاما) قليلا قبل أن يروي قصته الشخصية “أنا لم أبع أي شيء من داري، لكن الاحتلال جاء وجرف جميع محتوياتها بالكامل. اختفى الأثاث كله مع الركام. لم يبقَ لي شيء”.

غزيون يُجبرون على بيع أثاثهم لإطعام عائلاتهم (الجزيرة)

واقع مرير

ويتابع الجبالي “الناس يحاولون إنقاذ محتويات منازلهم من دمار الاحتلال، فيبيعونها ليشتروا علبة جبن أو فول. هذا أفضل من أن يخسروها كليا في قصف أو تجريف”. ويشير إلى أن كثيرا من النازحين يخشون أيضا من سرقة أثاثهم خلال النزوح “التي يعلم الله وحده مداه ومنتهاه”.

ويؤكد “كلنا شاهدنا هدم الاحتلال للأبراج السكنية. رأينا بأعيننا نازحين ألقوا أثاث منازلهم من الشرفات كي لا يُدمر مع وحداتهم السكنية، ثم باعوه حطبا بسعر 3 شواكل للكيلوغرام” (أقل من دولار).

ويكثف جيش الاحتلال من تدميره للأبراج السكنية الشاهقة في مدينة غزة بشكل كامل منذ السبت الماضي، إذ قصف أبراج المشتهي، والسوسي، والرؤيا، وسوّى طوابقها كاملة بالأرض، بعد أن أنذر سكانها بالإخلاء.

لم يعد النزوح بالنسبة لسكان مدينة غزة خيارا، بل تحول إلى واقع يومي مرير يلتهم المدخرات ويستنزف ما تبقى من قوة وصبر. فالناس الذين هُجروا مرة بعد أخرى وجدوا أنفسهم مضطرين لبيع ما تبقى من ممتلكاتهم لتأمين تكاليف النزوح الذي لا ينتهي غالبا في مكان واحد، بل يتكرر مع كل قصف أو اجتياح جديد.

وتحولت الأسواق الشعبية بالقطاع إلى أماكن لبيع وشراء الأغراض المستعملة من غرف النوم والأبواب والشبابيك وأدوات المطبخ وحتى الملابس القديمة، في مشهد يوحي بأن غزة تتحول إلى سوق كبير للذكريات المبعثرة بعدما أجبرتها الحرب والحصار والتجويع على البحث عن أساسيات الحياة فقط.

الحصار الخانق دفع الغزيين للتخلي عن ذكرياتهم لتوفير أساسيات الحياة (الجزيرة)

انهيار اقتصادي

وصار بيع الأثاث تعبيرا صادما عن حجم الانهيار الاقتصادي، إذ باتت الأسرة تبيع مقعدا جلس عليه الأب يوما مع أطفاله، أو سريرا نامت عليه الأم سنوات، كي توفر أجرة سيارة تقلها إلى مكان نزوح جديد، أو لتشتري بعض الطحين والعدس لإطعام أولادها.

يقول النازح سامر الديب (39 عاما)، الذي غادر منزله في حي الزيتون شرقي مدينة غزة قبل 3 أشهر، إنه وجد نفسه مجبرا على بيع أثاث منزله بالكامل حتى يستطيع النزوح إلى الجنوب.

ويضيف للجزيرة نت “هذه حياة غير طبيعية. نحن نبيع ذكرياتنا واستقرارنا العائلي كي نتغلب على النزوح والجوع”. ويصف نزوحه الأخير إلى مدينة خان يونس بأنه الأكثر قسوة، إذ اضطر لبيع غرفة نومه وأبواب منزله ليتمكن من استئجار شاحنة صغيرة حملت أسرته وأمتعته القليلة إلى الجنوب.

أسرة أطفال ومجالس للضيوف باعها الغزيون ليوفروا تكاليف النزوح هربا من القصف (الجزيرة)

ويلفت الديب إلى أن كثيرا من الأسر فعلت الشيء ذاته، فالجميع يبحث عن وسيلة لتدبير تكاليف النزوح التي باتت باهظة جدا، والتي تشمل نقل الخيم والأمتعة وإيجارات البيوت أو الأراضي. ويؤكد “الاحتلال يريدنا أن نعيش بلا جذور وذكريات وبيوت. يسرق منا كل شيء، حتى ذكريات طفولتنا”.

ويعيش قطاع غزة واحدة من أقسى موجات التجويع والفقر في تاريخه الحديث. ووفقا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الصادر في 3 سبتمبر/أيلول الجاري، فإن نحو 80% من الأسر في غزة فقدت مصدر دخلها، في حين تجاوزت نسبة البطالة 75%.

وأكد برنامج الأغذية العالمي أن أسعار السلع الأساسية ارتفعت بما يفوق 360% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، وهو ما جعل 1.3 ملايين شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد.

أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فقد حذرت من أن أكثر من 640 ألف طفل في القطاع مهددون بالموت جوعا أو بأمراض مرتبطة بسوء التغذية إذا استمر الحصار دون إغاثة عاجلة.

تفكيك الأثاث وبيعه لاستعماله كحطب في ظل انعدام الوقود (الجزيرة)

بدائل

وجعل الغلاء الفاحش سعر كيس الطحين يتجاوز 300 شيكل (الدولار= 3.3 شواكل)، في حين ارتفع سعر لتر الزيت إلى أكثر من 50 شيكلا، مما يكشف عن مأساة يومية يعيشها السكان حيث لم يعد بإمكان معظمهم شراء الطحين أو الحليب أو الدواء.

في ظل هذا الوضع، يصبح بيع الأثاث وسيلة يائسة لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة. ولا تفكر العائلات في الرفاهية، بل في طريقة تأمين وجبة واحدة تكفي أطفالها. كما أن الحصار الخانق جعل من غزة مكانا أشبه بمعسكر مغلق، حيث لا عمل ولا دخل ولا موارد.

وبينما وقف رائد عبد الهادي (45 عاما) في سوق الرمال الشعبي عارضا بعض أثاثه للبيع، قال للجزيرة نت “أبيع هذا الأثاث لأني أريد سيولة نقدية لتوفير الأكل والشرب لأسرتي. أعاني من البطالة منذ نحو سنتين. لا أحد يهتم بما يحدث معنا. نريد الحياة والستر”.

وعادت عائلته مؤخرا إلى منزلها المدمر جزئيا، وبدأت تنزع الأبواب والشبابيك وتفكك غرف النوم لتبيعها، وقال “نبيعها كي نعيش ونستر حالنا ولنشتري الطحين ونوفر مصاريف أولادنا، فكل مدخراتنا نفدت”.

ويشير عبد الهادي إلى أن أهالي غزة لم تعد لديهم خيارات وأن “بعض الأسر باتت تتسول في الشوارع. نحن قررنا أن نظل في القطاع، لن نخرج وليحدث ما يحدث. لكننا على الأقل نحاول أن نبقى على قيد الحياة”.

ويختم بحسرة “لم أتخيل يوما أنني سأبيع سرير زفافي أو غرفة نوم أطفالي لأشتري رغيف خبز. لكن هذه هي الحقيقة اليوم”.

شاركها.
Exit mobile version