|

الجيش الإسرائيلي ليس كباقي جيوش العالم، لأن إسرائيل نفسها ليست كباقي دول العالم. وعلى الدوام ولأسباب وجودية، احتل الجيش الإسرائيلي مكانة ميزته عن باقي مؤسسات الدولة العبرية وأوكلت إليه منذ التأسيس مهمة الحفاظ على الدولة، وليس مجرد الدفاع عنها. فالجيش في إسرائيل يحتكر ما يعرف بتقدير المخاطر والاستعداد لها، ويكاد يكون مسيطرا على تحديد وجهة ومستقبل الدولة. وسبق للجيش أن فرض على إسرائيل حروبا، ومنع قيادتها من شن حروب وعمليات، على قاعدة أنه الأقدر على “تقدير الموقف”.

وقد اهتزت مكانة الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية برمتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مما أضعف مكانته، بعض الشيء، في نظر قادة اليمين الأيديولوجي المتطرف الحاكم. ورغم نجاح الجيش في استعادة مكانته بالتعاون مع المؤسسة الأمنية، خصوصا في حربه ضد إيران وحزب الله في لبنان، فإنه بقي عاجزا عن توفير البضاعة في الحلبة الأهم لليمين المتطرف، وهي جبهة قطاع غزة. صحيح أن رئيس الأركان الجنرال إيال زامير وصل إلى قيادة الأركان، بعد استقالة رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي، إلا أنه كان مطلوبا منه أن يكون نقيض سلفه. أن يهزم حماس ويطرد الفلسطينيين من غزة، وأن يعيد الأسرى. لكن الفشل في تحقيق هذه الأهداف، خلق أزمة لم يسبق لها مثيل ليس فقط بين المستويين السياسي والعسكري وإنما كذلك بين المستوى العسكري نفسه.

تسريبات أولية

لذلك عندما سمع الإسرائيليون كلا من وزيري المالية، بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي، إيتمار بن غفير يهاجمان بشدة زامير لعجزه عن توفير النصر المطلق المطلوب عرف كثيرون منهم أن دور نتنياهو لن يتأخر. وفي البداية أطلق نتنياهو تسريبات من مكتبه ضد زامير تظهره وكأنه من يمنع تحقيق النصر المطلق، عبر رفضه عرض خطة متكاملة لإعادة احتلال قطاع غزة، وفرض الحكم العسكري هناك. وبدأت التلميحات لزامير بالاستقالة، إذ عليه الخضوع وتنفيذ خطط الحكومة وإذا لم يعجبه ذلك فالباب مفتوح. بل إن بداية التسريبات كانت على لسان مصدر سياسي: “إذا كان هذا لا يناسب رئيس الأركان، فليستقل”.

سموتريتش (يمين) وبن غفير هاجما زامير بشدة (الفرنسية)

واضطر زامير للخروج عبر مقربيه بتسريبات تظهر أن خطةً كالّتي يطالب بها نتنياهو واليمين مستحيلة، لأسباب كثيرة بينها أن الجيش لا يستطيع فرض سيطرته على أكثر من مليوني فلسطيني وإدارة شؤونهم. واعتبر مقربو زامير أن المقترحات المسيحانية لليمين المتطرف، تقود إسرائيل إلى كارثة من كل النواحي وتقتل الأسرى الإسرائيليين. وأن خطة اليمين ليست حسما للحرب، بمقدار ما هي وقوع في “فخ إستراتيجي”. فلم يكن أمام نتنياهو سوى إطلاق يد ابنه، يائير، في شن الهجوم الذي يعارض زامير، كمن فرض فرضا على والده، وكمن يتمرد على “القيادة الشرعية” ويقود انقلابا عسكريا. كما أن سموتريتش اعتبر ردود زامير تأكيدا بأنه قائد “فاشل” لا يستحق منحه الثقة، حيث سارع كثيرون من أقرانه للمطالبة بالبحث عن قائد بديل.

والأمر لم يقف، كما سلف عند حدود الصراع والسجال شبه العلني بين القيادتين السياسية والعسكرية، بل تخطاه إلى كل واحدة منهما. ففي الحلبة السياسية إدراك بأن الصراع مع قيادة الجيش، سيلقي بظلال كئيبة على الكثير من مقتضيات الحياة في إسرائيل. وهناك من يعلم أن إذلال القيادة العسكرية وإهانتها، سوف يترك جرحا بليغا في نفوس الشاب الذي هو في الخدمة العسكرية، أو سيلتحق بها قريبا. إذ أن القائد العسكري لن يعود بالاحترام الذي كان له وهو ما سيفرغ الجيش لاحقا من كثير من الكفاءات اللازمة. أما في المستوى العسكري، فالقصة أعمق وربما أشد حدة. إذ أن نخبة الجيش تنتقل وبسرعة من النخبة اليسارية والليبرالية التي كانت في المجتمع الإسرائيلي، إلى النخبة الفاشية الاستيطانية التي تبرز الآن. وهناك في الجيش من هم على استعداد لمجاراة اليمين المتطرف في رؤاه المسيحانية، كما ثبت مثلا مع الجنرال ديفيد زيني، الذي عينه نتنياهو مؤخرا رئيسا للشاباك. وعلى خلفية هذا الاستعداد وسواه برزت مؤخرا صراعات داخل القيادة العليا في الجيش.

إقالة لواء مخالف

وكانت بداية الحديث عن هذه الصراعات بإقالة قائد لواء من المقربين لسموتريتش كان يصدر أوامر قتل وتدمير تعتبر مخالفة للتعليمات. ولكن الأمر تطور عندما أمر قائد سلاح الجو الحالي الجنرال تومر بار في أبريل/نيسان الماضي، بتحويل طلبات استخدام الطائرات لقصف أهداف في غزة إلى مكتبه للمصادقة عليها، وعدم تنفيذها تلقائيا عند وصولها من قيادة الجبهة الجنوبية. وحدث ذلك بعد أن باتت طلبات القصف الجوي، وفق إحداثيات الجبهة الجنوبية، توقع الكثير جدا من الضحايا من المدنيين من دون مبرر. وطبعا لم يرق هذا لقائد الجبهة الجنوبية الجنرال يانيف عاشور، الذي يؤمن بسياسة توسيع النيران لتقليص المخاطر على جنوده. ويطالب عاشور بأن يكف قائد سلاح الجو عن هذا الأسلوب، وأن يفسح المجال لتغطية جوية أوسع للقوات البرية. وبحسب يديعوت فإنه في آخر اجتماع موسع لهيئة الأركان في مقرها، “هكرياه” وبحضور أكثر من 20 من كبار الضباط من الألوية والعمداء، ارتفعت نبرة النقاش حول هذا الموضوع بين الطرفين إلى “صراخ حقيقي”. ودافع قائد سلاح الجو عن موقفه، بأنه يتدخل عندم يرى “انعدام المهنية” في العديد من طلبات قيادة الجبهة الجنوبية، مما أفقد الجنرال عاشور اتزانه. وصرخ عاشور: “أنتم هناك في تل أبيب منقطعون عن الميدان”. فتدخل رئيس الأركان إيال زامير في السجال الغريب، وطلب من اللواء عاشور ألا يتحدث بهذا الشكل لأنه “غير مقبول”.

SOUTHERN ISRAEL, ISRAEL - JULY 23: Israeli soldiers stand near a tank near the border with the Gaza Strip on July 23, 2025 in Southern Israel, Israel. Earlier today, a group of more than 100 aid organizations, including Save the Children and MÈdecins Sans FrontiËres (Doctors Without Borders), issued an open letter warning of mass starvation in Gaza and imploring Israeli authorities to provide safe access to food aid. The aid groups also called for a ceasefire, opening of border crossings, and the distribution of food aid through a "UN-led mechanism." (Photo by Amir Levy/Getty Images)
جنود الجيش يشكون من الواقع الميداني في غزة (غيتي إيميجز)

وثمة من يرى أن الجنرال عاشور بات شديد التوتر مؤخرا، جراء كثرة الحديث عن فشل حملة “عربات جدعون” التي قادها. وأدى هذا الفشل إلى تعميق خيبة الأمل في صفوف القيادتين السياسية والعسكرية، التي كانت تأمل أن تسهم هذه الحملة في هزيمة حماس من جهة، وفي إعادة الأسرى الإسرائيليين من جهة أخرى. ونشرت مؤخرا رسالة رائد في الجيش يعمل في غزة يشكو الواقع مثل كثير من القيادات الميدانية، قال فيها: “لا توجد مناورة حقيقية والمقاتلون تعبون. العدو يشخص بعضنا – فيهاجم”. كما أن عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة باتت تستجلب انتقادات دولية حادة، أدت إلى تآكل ما كان قد بقي من تأييد عالمي، فضلا عن تنامي رفض حتى منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية لها، ووصفها بالإبادة الجماعية.

انتهاء النزعة الهجومية

عموما بات واضحا للجميع أن “عملية “عربات جدعون” بلغت نهايتها، بانسحاب أغلبية القوات الهجومية، حيث لم يعد يوجد في القطاع أكثر من 9 كتائب. ويرى معلقون عسكريون أن معظم مقاتلي الجيش الإسرائيلي المتبقين حاليًا في قطاع غزة، يدافعون عن أنفسهم في مواقع مؤقتة، وأن النزعة الهجومية انتهت.” ويتحدث جنرالات الجيش بوضوح عن إرهاق القوات، وحاجتها إلى تجديد النشاط والتقاط الأنفاس. وهذا ما حدا برئيس الأركان إلى تسريح الكثير من جنود الاحتياط، ورفض استدعاء المزيد مما خلق نوعا من الأزمة التي تعيق احتمال السرعة في استئناف هجمات واسعة في القطاع. وهذا تقريبا ما يثير غضب القيادة السياسية، التي تعلن صباحا ومساء أن “القرار اتخذ” باحتلال قطاع غزة كاملا، قبل أن يتخذ القرار فعلا في مجلس الوزراء.

وطبعا، لا يعني هذا الكلام أنه في ظل السجالات القائمة، لا يمكن لنتنياهو واليمين أن يجبرا الجيش وقائده على تنفيذ خططهم إن أصروا عليها. ولكن مثل هذا الموقف يزيد في توسيع شقة الخلاف داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصا أن نتنياهو واليمين الذي يطالب بـ”الحرب الدائمة”، هم أنفسهم من يرفضون توزيع الأعباء العسكرية بشكل متساو على الجميع، ويصرون على إعفاء الحريديم من هذه الخدمة. غير أن السجالات تظهر حقيقة المأزق الذي تعيشه إسرائيل حاليا، والذي وصفه الجنرال غيورا آيلاند على النحو التالي في مقالة نشرها في موقع “والا” الإخباري.

نتنياهو يصير على استمرار الحرب بلا إستراتيجية رغم العواقب السياسية والإنسانية الكارثية (جميع الصور من تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي والتي عمها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
نتنياهو لا يمكنه إجبار قادة الجيش على تنفيذ الخطط (تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي)

“لم يعد بوسع إسرائيل تأجيل القرار: إعادة الرهائن وإنهاء الحرب، أو التوغل في عمق غزة في مسار مكلف وخطير وغير مجدٍ. أي تأخير لن يؤدي إلا إلى تقوية حماس، وإضعاف الجيش الإسرائيلي، واستنزاف الجبهة الداخلية. نتنياهو مطالب باتخاذ قرار، وليس هناك من يلجأ إليه”. واعتبر أن “دولة إسرائيل على مفترق طرق كلاسيكي. من المستحيل الاستمرار بشكل مستقيم، علينا الانعطاف يمينًا أو يسارًا”. وفي نظره فإن الانعطاف يسارا “يعني الموافقة على صفقة بسيطة ومؤلمة بإنهاء الحرب، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة مقابل استعادة جميع الرهائن”. ومثل هذه الموافقة مع استمرار سيطرة حماس على غزة “ينطوي على شعور بالفشل الذريع، وهو ما يتناقض تمامًا مع وعود نتنياهو بـ”النصر المطلق”. هذا خيار سيئ بالفعل، ولكنه أقل سوءا من البديل”. أما الانعطاف يمينا فيعني توسيع نطاق الحرب، إذ أن استكمال احتلال قطاع غزة يفتقر للمنطق حسب رأيه. ومثل هذه الخطوة “ستُعرّض حياة الرهائن لخطر كبير، لسبب بسيط هو أنهم لن يبقوا على قيد الحياة لعدة أشهر أخرى حتى تنتهي هذه العملية. وسيتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، تمامًا كما قُتل 40 جنديًا خلال عملية “عربات جدعون”، أي ضعف عدد الرهائن الذين زعم الجيش الإسرائيلي أنه سينقذهم”.

مناهضو” التوسيع”

وهذا أيضا ما يقوله زامير وكل رؤساء الجيش والمؤسسة الأمنية الذين أعلنوا موقفهم هذا الأسبوع الفائت، بأنهم ضد أي توسيع للقتال ومع إبرام صفقة تعيد أسرى وتنهي الحرب. فالجنرالات الذين لا عمل لهم سوى الحرب يصرخون طوال الوقت، بأن الضغط العسكري وحده ليس ما يحقق النصر، ونتنياهو واليمين لا يرون سبيلا سوى الضغط العسكري، حتى بعد أن صارت سمعة إسرائيل الدولية في الحضيض.

أخيرا ثمة في إسرائيل من يعتقدون أن سبب حملة نتنياهو واليمين على رئيس الأركان، يكمن في أن الجمهور اعتبر الجيش صاحب الفضل في النصر على إيران وحزب الله، في حين بقي نتنياهو واليمين عنوانا واضحا للمسؤولية عن الفشل في 7 أكتوبر. ولذلك فإن نتنياهو محبط من عدم نجاحه في تغيير الصورة عن نفسه، ليس في العالم وإنما أيضا في إسرائيل ذاتها. ومع ذلك ستستمر السجالات حول الحرب، طالما بقي نتنياهو في منصبه يرسم الخطط، ويدبر الألاعيب تارة باسم نفسه، وأخرى باسم أميركا والعالم الحر.

شاركها.