باريس- في كل يوم يمر على سكان قطاع غزة، تتكدس التحذيرات الأممية من التجويع القاتل على مكاتب صانعي القرار في كل عواصم العالم، وتتسارع عقارب الزمن التي تنبئ في كل دقيقة باحتمالية مفارقة طفل الحياة بسبب الجوع.

وأمام هذا المشهد المأزوم، تحاول فرنسا الإمساك بخيط المبادرة من خلال الموازنة بين المبادرات الشعبية التي تتهم حكومتها بالتواطؤ مع إسرائيل، وبين التحركات السياسية الساعية لإخماد غضب الشارع الفرنسي.

فمن جهة، يعمل الفاعلون الإنسانيون ضمن مساحة ضيقة وقيود ثقيلة لمد يد المساعدة لغزة، ومن ناحية أخرى، تنتشر أخبار إلقاء الطائرات الفرنسية الغذاء من السماء، لكن يظل السؤال قائما: هل يمكن لهذه المبادرات المتناثرة إيقاف تجويع يتغذى على الحصار؟

تحركات مدنية

وتحت شعار “أوقفوا الإبادة في غزة ولا للمجاعة”، لا تزال المنظمات والجمعيات المدنية الداعمة للقضية الفلسطينية في فرنسا تنظم المسيرات الاحتجاجية للضغط على الحكومة ومطالبتها بإجبار إسرائيل على وقف فوري لإطلاق النار وسحب قواتها من غزة، وإنهاء جميع أشكال التعاون العسكري مع إسرائيل وفرض العقوبات عليها.

كما استجابت المظاهرات الأخيرة لنداء الصحفية الفلسطينية بيسان عودة عبر قرع الأواني للتأكيد على مطالباتهم بوقف الجرائم ضد المدنيين العزل، ورفض الصمت في وقت يموت فيه جميع سكان غزة جوعا بسبب الحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي.

وفي يونيو/حزيران الماضي، وزعت “الإغاثة الإسلامية فرنسا” طرود خضراوات داخل شمال غزة وصلت إلى نحو 27 ألف شخص، قبل أن تمتد إلى جنوب القطاع، وتم شراء هذه الكميات من المزارعين والتجار القلائل الذين ما زال لديهم بعض المؤن.

وبالإضافة إلى خطر الجوع، حذرت منظمة الصحة العالمية من الإصابة بأمراض قاتلة مثل الكوليرا والإسهال، مما استدعى المنظمة الفرنسية إلى تنظيف مخيمات النازحين في منطقتي دير البلح وخان يونس بالكامل بحلول يوليو/تموز 2025، كما أطلقت فرقها مبادرة لنقل مئات آلاف اللترات من المياه المعقمة عبر الشاحنات إلى سكان هذه المخيمات.

وبعد اندلاع الحرب على غزة قبل 22 شهرا، أعربت منظمة “العمل ضد الجوع” الفرنسية عن استجابتها لعدة حالات طارئة وتقديمها خدمات الأمن الغذائي وسبل العيش لحوالي 5 آلاف شخص في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وأكثر من 21 ألف شخص في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، لكن لا يوجد على موقعها أي تحديثات جديدة عن الفترة الحالية.

متظاهرون في باريس دعما للقضية الفلسطينية تعرضوا لمضايقات من داعمين لإسرائيل (غيتي)

مضايقات

من جهتها، أكدت رئيسة جمعية “أصدقاء فلسطين” هاجر بركوس، أن المظاهرات في مدينة نيس، جنوب فرنسا، لم تتوقف منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة.

وقالت للجزيرة نت “كثّفنا إقامة الأكشاك في شوارع نيس طوال موسم الصيف لأنها مدينة سياحية، ووجدنا في ذلك فرصة لإيصال أصوات أهالي غزة ورفع مستوى الوعي بشأن التجويع التي ينهش أجسادهم”.

وأضافت هاجر “لا يمكننا الانتظار مكتوفي الأيدي إلى أن يُقتل المزيد من الناس جوعا، حرفيا. لذا، نبيع الأعلام الفلسطينية وسلاسل على شكل بطيخ والكوفيات للمارة لجمع الأموال وإرسالها إلى القطاع المحاصر”.

ولفتت هاجر إلى تعرضهم لمضايقات عدة، وذكرت أن أحد المارة الداعمين لإسرائيل شتم ناشطا داعما لفلسطين ونعته بـ”العربي والمسلم القذر”، وعندما رد عليه الإهانات تم تصويره، الأمر الذي انتشر كالنار في الهشيم بين السياسيين الفرنسيين، وخاصة زعيم حزب الجمهوريين إريك سيوتي وآخرين من اليمين واليمين المتطرف.

وبناء على ذلك، استدعيت الناشطة هاجر للإدلاء بشهادتها أمام المدعي العام، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أمرت محافظة نيس بحظر رفع العلم الفلسطيني “لأنه أصبح رمزا للتطرف والفاشية”، كما منعت الأكشاك في شارع بروميناد دي أنغليه الشهير وسط المدينة لنقلها إلى منطقة أخرى.

Humanitarian aid is airdropped to Palestinians over Khan Younis, in the Gaza Strip, Friday, Aug. 1, 2025. (AP Photo/Abdel Kareem Hana)
ساهمت فرنسا كغيرها من الدول بإنزال المساعدات من الجو فوق مدن بقطاع غزة (أسوشيتد برس)

المطلوب أكبر

ومنذ بداية الحرب، أكدت باريس إيصالها ما يقرب من 1200 طن من المساعدات الإنسانية، تتضمن الغذاء والمستلزمات الطبية، عبر مصر والأردن، إضافة إلى مساهمتها ضمن جسر جوي أوروبي نقل في إحدى شحناته نحو 52 طنا في فبراير/شباط الماضي.

وفي رسالة نُشرت على منصة “إكس”، يوم الجمعة الماضي، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انضمام بلاده للجسر الجوي الإنساني بعد المملكة المتحدة وإسبانيا، مشيدا بـ”الشركاء الأردنيين والإماراتيين والألمان على دعمهم” وبـ”الجيش على التزامه”.

وقال ماكرون في تغريدته “في مواجهة هذه الحالة الطارئة الملحة، نفذنا للتو عملية إنزال غذائي في غزة”، مُقرا بأن “الإسقاطات الجوية لا تكفي، يجب على إسرائيل توفير وصول إنساني كامل لمواجهة خطر التجويع”.

وفي تصريحات سابقة لوزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الثلاثاء الماضي، أكد فيها أن باريس ستعمل على إسقاط 40 طنا من المساعدات الإنسانية على قطاع غزة، عبر 4 رحلات جوية تحمل كل منها 10 أطنان من المواد الغذائية.

وبين الرمزية السياسية والجدوى الميدانية، استنكرت عدة منظمات غير حكومية هذه الإنزالات لأنها ضئيلة جدا مقارنة بسعة كل رحلة منها، على اعتبار أن كل شحنة تتسع لـ20 طنا من المساعدات.

وفي ظل نظام “من يصل أولا، يحصل عليها أولا”، ستبقى فرنسا ـومعها العالم ـ تُسعف أعراض التجويع، لا أسبابه، لتظل الممرات البرية الآمنة والمفتوحة من أهم الحلول لوقف نزيف هذه الأزمة، وإنهاء الحرب أفضلها.

شاركها.