4/8/2025–|آخر تحديث: 18:07 (توقيت مكة)
غزة- يقضي الطبيب الشرعي عماد شحادة ساعات طويلة داخل مشرحة مجمع الشفاء الطبي يتفحص جثث الشهداء الواردة تباعا من منفذ زيكيم شمال غرب قطاع غزة، حيث يواصل الجيش الإسرائيلي استهداف الفلسطينيين الذين اضطرهم الجوع لانتظار المساعدات الواردة من هناك.
يتنقل الطبيب من جثة هامدة إلى أخرى لمعاينة أسباب الوفاة المتعددة ما بين طلق ناري وقذيفة دبابة أو قنابل تلقيها الطائرات المُسيَّرة، أو دهس تحت عجلات الشاحنات الكبيرة أو حتى الموت خنقا بسبب تدافع آلاف الجوعى على أمل الحصول على القليل من الدقيق.
ورغم تعدد الوسائل التي يقتل فيها الجنود الإسرائيليون منتظري المساعدات يوميا في قطاع غزة، فإن الجوع ترك آثاره على أجساد جميع الشهداء ويظهر ذلك جليا من الضعف الشديد، وبنيتهم الهزيلة وعلامات الجفاف على جلودهم.
نية مبيتة
يروي الطبيب شحادة ملاحظاته اليومية التي يوثقها في ملف الوفيات الخاص بالمعمل الجنائي والطب الشرعي بغزة، ويصعب عليه نسيان مشاهد عالقة في ذهنه لأطفال ونساء ومسنين جوعى، تحوَّلوا لجثث هامدة في لحظة قرر فيها جندي إسرائيلي إنهاء حياتهم قبل أن يحصلوا على لقمة عيش انتظروها طويلا.
يقول شحادة للجزيرة نت “يرتكب جنود الاحتلال يوميا مجازر مروعة بحق منتظري المساعدات، وفي لحظة واحدة نتفاجأ بوصول عشرات الجثث إلى المشرحة، ويتهافت الأهالي الذين فقدوا أبناءهم للتعرف على الشهداء داخل الثلاجات، وفي بعض الحالات يظل بعضهم مجهول الهوية لأيام”.
وبحسب شحادة، فإن 70% من الشهداء من فئة الشباب، و20% من المسنين، و10% من النساء والأطفال، حيث يتعمد الجيش إطلاق النار على المناطق العلوية من الجسد، في الرأس والصدر، مما يؤدي لقتلهم على الفور.
ويشير إلى أن جنود الاحتلال يُصرِّون على قتل منتظري المساعدات بشتى الطرق، حتى من يستلقي أرضا ويزحف هربا من النيران، مما يدلل على أن لديهم قرارا ونية مبيتة لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين المجوّعين.
وتكشف معاينة الطبيب شحادة للرصاص الذي اخترق أجساد الشهداء استخدام الجيش الإسرائيلي أنواعا مختلفة من الأسلحة بأشكال وأقطار متعددة.
وترفض الأمم المتحدة الخطة الإسرائيلية، وترى أنها تفرض مزيدا من النزوح، وتعرّض آلاف الأشخاص للأذى، وتَقْصر المساعدات على جزء واحد فقط من غزة ولا تلبي الاحتياجات الماسة الأخرى، وتجعل المساعدات مقترنة بأهداف سياسية وعسكرية، كما تجعل التجويع ورقة مساومة.
“الموت جوعا”
عايش شحادة على مدار 17 عاما من عمله في الطب الشرعي والتشريح الكثير من موجات التصعيد والحروب الإسرائيلية على غزة، لكنه لم يشهد ما يمر عليه الآن من تردي الحالة الصحية للكثير من المجوعين، حتى بات يشعر باقتراب اللحظة التي سيضطر فيها للمرة الأولى لتوثيق سبب الوفاة “الموت جوعا”، وهو ما لم يكن يتخيله أن يحدث يوما ما.
وتحدث عن زيادة علامات الجوع والإنهاك الظاهرة على أجساد الشهداء الذين لم يتناولوا الطعام لعدة أيام واضطروا لقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام للوصول لأماكن دخول المساعدات، أملا بالعودة بالقليل منها.
وأبدى الطبيب شحادة استغرابه من تكرر حالات التحلل السريع لجثث الشهداء الذين يصعب انتشالهم بسبب وجود الجيش الإسرائيلي في الأماكن المخصصة لدخول المساعدات، وغالبا ما تصلهم هياكل عظمية مجهولة الهوية ويصعب التعرف عليها.
وقال: إن الدراسات العلمية تؤكد أن بدء نهش الحيوانات للجثث يبدأ بعد مرور 24 ساعة على وفاة الإنسان، ومع ذلك تصل الجثث متحللة بشكل شبه كامل، رغم أن شهادات أقارب الشهداء والمقربين منهم تجمع على أنهم فقدوهم لمدة تقل عن هذا الوقت.
صعوبة في التعرف
ويفسر الطبيب شحادة تلك الحالات بأن الحيوانات والقوارض تعاني الجوع أيضا، وبالتالي تتحول الجثث أمامها كقطعة لحم تلتهمها بسرعة.
ومع صعوبة التعرف على الجثث المتحللة يتخذ الطب الشرعي شحادة من ملابس الشهيد وحذائه وما كان يحمله مدخلا لتعرف ذويه عليه، وهو ما تكرر في حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة.
وتحكم إسرائيل إغلاق معابر غزة التجارية منذ مطلع مارس/آذار الماضي وتمنع مرور أي من المواد الغذائية عن أكثر من مليوني فلسطيني، مما أحدث مجاعة بين السكان الذين اجتمعت عليهم الحرب والجوع.

وسمح الاحتلال مؤخرا بإدخال عدد محدود من المواد الغذائية، لكنه منع وصولها إلى مخازن المؤسسات الدولية لتوزيعها على السكان، مما يضطر الآلاف منهم لانتظارها أمام المنافذ التي تمر عبرها الشاحنات.
وتجاوز عدد شهداء لقمة العيش الذين قضوا أثناء انتظارهم الحصول على المساعدات في غزة 1400 شهيد، وأكثر من 9300 إصابة.