تتعرض الحالة السورية الجديدة الناشئة بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 لحملات تضليل، ترتبط بشبكة رقمية معقدة عابرة للحدود، نشطت بعد تضرر مموليها من انهيار النظام الذي كان يسيطر على السلطة والثروة في البلاد باتجاه نشر الفوضى، وإشاعة حالة من عدم اليقين، لعرقلة بناء الدولة الجديدة.
وتزامن الهجوم الرقمي مع بروز نزعة استقلالية لدى هويات إثنية وطائفية شمال شرق البلاد وغربها وجنوبها، تسعى للانفصال عن الدولة تحت مسميات مختلفة، مما أشعل صراعا محتدما ومواقف متباينة لم يهدأ ضجيجها إلى الآن.
أشد فتكا من الحروب العسكرية
وأكدت الباحثة الاجتماعية رنا رنجبال أن مصدر الحملات الرئيسي هو العراق ولبنان وإسرائيل، مثلما تذهب إلى ذلك تحقيقات نشرت في وسائل إعلام مختلفة، حيث توجه الحملات إلى مكونات مجتمعية داخل سوريا بأفكار توافق تطلعاتها، وصولا إلى استقطابها وتحريضها.
ويركز المحتوى البصري، بحسب الباحثة، على مصطلحات تدعم النزعة الطائفية والمناطقية، في حين تدعو النصوص إلى افتعال أحداث أمنية تؤجج الحس الطائفي، وتزعزع مبدأ التعايش المشترك بين مختلف فئات الشعب السوري.
وحذرت رنجبال في حديثها لصحيفة الحرية الحكومية (تشرين سابقا) من أن الحرب الرقمية التي تتعرض لها سوريا لا تقل خطورة عن الحروب العسكرية “بل هي أشد فتكا، نظرا لانتشارها السريع، وقلة تكاليفها، وتأثير محتواها المتكرر على الجمهور المستهدف، سواء بالتغريدات أو المنشورات أو التعليقات، التي غالبا ما تخدم في مجملها الجهات المُشغّلة”.
وتشير بيانات موقع “داتا ريبورتال” العالمي المتخصص بالاتصالات الرقمية واستخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أن عدد خطوط الهاتف المحمول النشطة في سوريا بلغ نحو 19,5 مليون خط، أي ما يعادل نسبة 77.6% من إجمالي عدد السكان، في حين بلغ عدد مستخدمي الإنترنت 9 ملايين مستخدم، في يناير/كانون الثاني هذا العام.
واستفادت البيئة الرقمية السورية من تحسن شبكة الإنترنت بعد سقوط نظام الأسد، وبدء المرحلة الأولى من الإطلاق التجاري لتقنية الجيل الخامس في توسعها أفقيا، واعتماد منصات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للمعلومات، وفق الخبير المختص بتكنولوجيا المعلومات رشيد البني.
وتوقع البني في حديثه للجزيرة نت أن يزداد تأثير المحتوى الذي تستثمره جهات معادية للنظام الجديد على السلوك الجمعي، خاصة إذا ما تم توظيفه سياسيا، في سياق ما يعرف بالحرب النفسية، التي تمارس عادة على شكل حملات، تهدف إلى زعزعة ثقة الشارع بمؤسسات الدولة، أو التشكيك بقدرة الحكومة على أداء مهامها، أو التحريض على العنف والعصيان والتمرد.
سوريا الثالثة عربيا
وتحتل سوريا المرتبة الثالثة على لائحة الدول العربية الأكثر استهدافا بحملات التضليل الإعلامي، وفق تصنيف “مجتمع التحقق العربي”، وهو منظمة بحثية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، في حين سبقتها فلسطين واليمن.
واتسمت الحملات بطابع منظّم، كشف عن أذرع دعائية لدول ومجموعات مذهبية، أطلقت وسوما بمحتوى موحد، متضمنة معلومات مضللة تدعو إلى الكراهية والتحريض والاستقواء بالأجنبي، بحسب المصدر نفسه.
وأشارت المنظمة في تقرير أصدرته بهذا الخصوص إلى أن القوى الشيعية المرتبطة بإيران -مثلا- أطلقت حملة إلكترونية مطلع ديسمبر/كانون الأول طالبت فيها بصد تقدم فصائل المعارضة المسلحة نحو العاصمة دمشق، بالبراميل المتفجرة، التي سبق أن استخدمها النظام في السنوات الأولى من الحرب.
وذكر التقرير أن وسم “الجولاني” على منصة إكس، الذي ارتبطت به حملة رقمية مضادة لمرحلة ما بعد الأسد خلال الفترة بين السادس والتاسع من مارس/آذار الماضي، لم يكن حدثا عاديا، أو مصادفة عفوية، حيث تجاوزت الحملة الداخل السوري، إلى دول عدة، أبرزها العراق واليمن ولبنان والولايات المتحدة والسعودية ومصر وألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى دول أوروبية أخرى.
كما كان من اللافت -بحسب التقرير- الدور الذي لعبه أثناء الحملة حساب (@alkindy2073) من خلال منشورات شبهت أحداث الساحل السوري بواقعة مقتل الحسين في كربلاء، في محاولة لاستدعاء الرموز الدينية وإثارة المشاعر الطائفية.
وفي السياق، شهد الوسم المضاد “السويداء تحارب الإرهاب”، الذي تم تداوله خلال الاشتباكات الطائفية جنوب البلاد، نمطا زمنيا متوازيا تقريبا، إذ بدأ بـ7565 منشورا في 15 يوليو/ تموز، وارتفع إلى 11 ألفا و363 منشورا في اليوم التالي، قبل أن يشهد طفرة لافتة في 17 من الشهر ذاته، مسجلا 17 ألفا و826 منشورا.
وحملت بعض المنشورات على الوسم خطابا يدعي أن “الأكراد والعلويين والدروز لا يستطيعون العيش مع السنة”، في حين لقبت المسلم السني بـ “الجولاني”، وهو الاسم الذي عرف به سابقا الرئيس السوري أحمد الشرع.
الإخوة الأعداء
يصف حسان الذي أمضى العقد الأخير في مدينته دمشق، ولم يغادرها خلال الحرب، الحياة في ظل قمع الأسد بمعتقل كبير، ونتيجة لسياساته، أقر حسان بوجود تصدع داخل المجتمع السوري. وذكر في حديثه للجزيرة نت أن أول ما افتقده السوريون على هذا الصعيد هو الثقة المتبادلة بين مكونات المجتمع، وبفقدانها انهار الشعور بالأمان.
وأضاف “حينما وظف النظام المخلوع الطائفية من أجل بقائه في السلطة، دق إسفينا بقاعدة العيش المشترك، وحوّل الإخوة إلى أعداء”. ويستدل على ذلك بما تشهده سوريا الآن من “استقطاب إثني وطائفي وعصبيات مذهبية وأيديولوجية حادة”.
بعد مرحلة تاريخية اتسمت في مجملها بالخوف والقلق، تبرز الحاجة إلى الأمن والهدوء والاستقرار، كأولوية قصوى لدى السوريين.
ولكن على النقيض من هذه التطلعات، تعمل حملات التضليل، بحسب الخبير الحقوقي فراس الأسعد، على نشر الخوف والذعر بين السكان من جديد وفق خطة متسقة، تعرض أوضاعا متخيلة لا تمت إلى الواقع بصلة، من شأنها أن تضعف الثقة بين أطياف المجتمع، وتحول دون مشاركة بعضها في التأسيس للمستقبل.
ونوه إلى أن عقودا من الدكتاتورية كافية لإدراك حجم المأساة التي عانت منها سوريا، وإعادة قراءة الواقع بوعي عابر للطوائف، يتجاوز التنافر والتفكك المجتمعي، والخلافات بين الأفراد والجماعات على القيم والتفاهمات والرؤى المستقبلية.
ولفت إلى أن التحريض على الكراهية، الذي يزداد انتشاره بشكل ملموس في الفضاء الرقمي، لم يعد يقتصر على الوسط الاجتماعي، بل بات يستقطب نخبا فكرية ودينية تبحث عن دور سلطوي، أكثر من اصطفافها إلى جانب مكون ضد آخر، واصفا انضمام بعض النخب إلى حملة التضليل، بأنه انزلاق أخلاقي ليس له ما يبرره غير مصالح ضيقة وتوجهات مقلقة.
لم يعد الحوار حقيقيا
وكانت المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي قد شهدت في الأشهر الثلاثة الأخيرة، موجة من المنشورات والبيانات، لنخب ثقافية وشخصيات اجتماعية، أدلت بدلوها في الحراك الدائر حول حقوق الطوائف وطبيعة النظام السياسي، بأسلوب وصفه الأسعد بالصادم.
وفي المقابل، انتقد الباحث والسياسي السوري وائل ميرزا استخدام بعض المثقفين لعين واحدة وممارسة الانتقائية أثناء متابعتهم للأحداث التي تشهدها سوريا والتعليق عليها.
وقال في منشور على صفحته الرسمية “لم يعد الحوار مع هذه الشريحة حاليا وللأسف حوارا حقيقيا، وإنما صار طقسا مشروطا بالولاء الكامل لسرديتهم، فإما أن تردد نشيدهم كاملا أو تُقصى. وهذا يؤكد شعورا متزايدا بأننا أمام تردٍ ثقافي خطير يُستعمل كسياسة”.
ورأى أن واقع المكونات السورية التي تسمى للأسف أقليات، أصبح لدى المثقفين والنشطاء المعيار الوحيد لكل مساطرهم المتعلقة بمفاهيم الحقوق والواجبات والعدالة في المجتمع، وتحديدا بممارسات الدولة وقراراتها وسياساتها.