في ظل الحرب الإسرائيلية الدموية المستمرة في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تثير مظاهر التطبيع بين بعض الدول العربية والإسلامية وإسرائيل تساؤلات حول الأسباب ومدى ارتباطها بمفهوم “التطبيع بالقوة”، رغم أن استطلاعات الرأي تفيد بعدم وجود تحول جماهيري نحو التطبيع أو حتى نحو ما يطلق عليه “تطبيع التطبيع”.

وتكشف المعطيات القائمة عن ضغوط سياسية وأمنية كبرى تمارسها إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية لفرض نموذج تطبيع قسري، توظفه كأداة ضمن مساعيها للانتقال بالمنطقة إلى حقبة “ما بعد استعمارية” جديدة، وتخضع فيها المنطقة لهيمنة إسرائيلية بلا منازع، بحسب الورقة المنشورة في مجلة جوريست نيوز بعنوان “تحولات موازين القوى في الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر: سعي إسرائيل للهيمنة الإقليمية”.

فما التطبيع بالقوة؟ وما العوامل السيكولوجية التي تدفع البعض القليل إلى القبول به رغم مظاهر الإبادة والتجويع والانتهاكات المروعة في غزة؟

تدفع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة نحو تطبيع قسري يضمن لها التفوق في المنطقة (الجزيرة)

إستراتيجيات التطبيع الإسرائيلية

عند تحليل النماذج التي اعتمدتها إسرائيل في الهندسة الإقليمية للتطبيع، نجد 3 إستراتيجيات رئيسية تتفاوت بين علاقات خفية تحت الطاولة ومذكرات تفاهم علنية محدودة النطاق، وصولا إلى ما يسمى بالتطبيع الكامل، بصرف النظر عما إذا كان باردا أو حميميا، وذلك بحسب ورقة بحثية لمعهد الدراسات الأمنية الوطنية بعنوان “أوجه التطبيع المتعددة.. نماذج التطبيع العربي الإسرائيلي”.

بيد أن أطروحة التطبيع الراهنة تتلازم، كما تقول الورقة، مع الشعور الإسرائيلي بنشوة الغلبة، والتوحش المنفلت، والفراغ الإقليمي، والغطاء الأميركي، واقتناص الفرصة السانحة، والشره.

وتأتي ضمن مساعي اليمين الإسرائيلي المتطرف لإعادة هندسة الشرق الأوسط عن آخره، فالمعادلة ليست ببساطة التطبيع مقابل الاستقرار أو الرفاه، بل هو تطبيع إذلالي تُنتهك فيه الكرامة الوطنية وتُرتهن سيادته، وتُفرض فيه مُحدثات جيوسياسية وأمنية، تنكشف فيها الحرمات الوطنية، وتمتلك أو تهيمن فيه دولة الاحتلال بالدوام على مفاصل الإضعاف والإخضاع للأنظمة والشعوب على السواء.

مع ذلك، هناك من يتقبل أو يستسيغ، أو يتردد حيال مسألة التطبيع رغم ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي لجرائم فادحة منقطعة النظير، اعتمادا على آليات نفسية.

الآليات النفسية لتسويغ التطبيع

يشير المختصون في علم النفس السياسي، بحسب ورقة بحثية لجامعة كامبريدج، بعنوان “الارتباطات النفسية الفسيولوجية للتنافر المعرفي” إلى مجموعة من الآليات النفسية التي تولد لدى الأفراد حالة من الازدواجية المعرفية؛ تمكنهم من التأقلم مع التناقضات الداخلية، حيث يعمدون إلى عزل الجوانب المعرفية أو الفكرية المتضاربة في حجرات منفصلة في الوعي لتفادي ما يستثيره التناقض من قلق نفسي، وذلك بالتوازي مع تفعيل آليات أخرى مثل التبرير الأخلاقي أو المقارنة المضللة.

من جهته، وضع عالم النفس الكندي ألبرت باندورا نظريتي الوكالة الأخلاقية وفك الارتباط الأخلاقي، اللتين يكشف فيهما مدى قابلية الأفراد لعزل سلوكهم العملي عن ثوابتهم الأخلاقية تحت وطأة الظروف القاهرة أو دواعي الضرورة أو سطوة الخوف.

يعرف باندورا الانفصال الأخلاقي بأنه عملية إقناع الذات بتجاوز ظرفي أو مؤقت للمعايير الأخلاقية، وذلك عبر فصل الضوابط الأخلاقية عن التصرفات غير الأخلاقية وتعطيل آليات محاسبة الذات، فعندما يبرر التطبيع بالاستقرار أو بناء الدولة أو ضمان درء الفوضى، ينساق البعض نحو إهمال أو تناسي المبدأ الأخلاقي الذي يجرم التطبيع مع العدو القاتل، وإن كان مؤقتا، وينظر إلى ما يقوم به كشأن معقد يفوق طاقة الإنسان على المواجهة.

ويبرع الإعلام الموجه في ترسيخ هذا الانفصال عبر تسميات تلطف من وقع على النفس، فبدلا من إطلاق اسم التطبيع مع العدو أو الكيان المحتل، يُطلق وصف اتفاقيات السلام، وتتبدل المصطلحات أيضا عند توصيف ممارسات الاحتلال الإجرامية؛ فيطلق على الاعتداءات إجراءات أمنية أو عمليات عسكرية.

يذهب الخطاب الإعلامي، في هذا الصدد، إلى تأدية دور يعرف بالتأثير الوهمي للحقيقة، كما يصفه مقال لمجلة سايكولوجي توداي، حيث يتم تضخيم إيجابيات التطبيع إلى درجة الإلحاح، فتتولد لدى البعض حالة من اليقين الكاذب بالمعلومات المعاد تدويرها باستمرار.

وتناول الباحثون هذه الظاهرة موضحين أن التكرار المتواصل يعزز من إمكانية تصديق المعلومة، مهما بدت بادئ الأمر متناقضة مع الحقائق الثابتة. وفي إطار تعميق هذا التأثير المضلل، توظف مصطلحات كالشراكة، والتعاون المشترك، والتطوير التقني المتبادل، أو التهديد الأمني المشترك، أو حتى الاتفاقات الإبراهيمية.

ترامب رعى “اتفاقيات إبراهام” بين إسرائيل ودول عربية (رويترز)

تآكل الحساسية الأخلاقية

تتزامن تلك الآليات مع ما يطلق عليه بحث منشور في مجلة “ساينس دايركت” المتخصصة بعلم النفس الاجتماعي التجريبي، بـ”تآكل الحساسية الأخلاقية”، حيث تتراكم المعطيات والمشاهد حول وحشية العدو وخطره، لتغدو لاحقا مجرد إحصائيات جافة في سيل التغطية الإخبارية الروتينية.

يذهب مقال بحثي بعنوان “عدم التعاطف العاطفي تجاه العنف يسهم في السلوك العنيف لدى المراهقين” منشور في مجلة سبرينغر نيتشر، إلى أن التعرض المتكرر للأحداث المفجعة دون استجابات فعلية يولّد حالة من البلادة أو الخدر العاطفي تجاه معاناة الآخرين، بحيث يألف الأفراد هول الأحداث ويشرعون في النظر إليها باعتبارها أمرا اعتياديا.

وتُستثمر هذه الحالة في ترويض الرأي العام وتدجين الضمير الجمعي ليستسيغ خطوات تطبيعية لاحقة، بدعوى استحالة إنهاء دوامة الصراعات دون تنازلات، وبأن المنطق الواقعي يقتضي الوصول إلى تفاهمات أو تسويات مع الاحتلال.

بالإضافة إلى ذلك، يشير بحث منشور في “سكولرلي كوميونيتي إنكلوبيديا” بعنوان “الانفصال الأخلاقي” إلى أن كلا من التبرير الأخلاقي والمقارنة المضللة بوصفهما مفهومين كاشفين لظاهرة قبول التطبيع.

ففي التبرير الأخلاقي، يقنع المرء نفسه بمقولات من قبيل أن الغاية من العلاقات مع إسرائيل ليست إقرارا بشرعية جرائمها بقدر ما تنطوي على منفعة تعود في النهاية على الفلسطينيين أنفسهم، وبالتالي ستفضي إلى كبح جماح سياسات الاحتلال وإجراءاته الغاشمة في الضمّ والتهجير، على أساس أن الحل قد يكمن في صفقة إقليمية تشمل القضية الفلسطينية.

أما المقارنة المضلِّلة، فهي آلية نفسية يُرسم فيها مشهد يجعل التطبيع يبدو خيارا أفضل من لهيب الحروب الدائمة والدمار، وتسوِّقه بوصفه خيارا عمليا أمثل يكفل الأمن والاستقرار، فوفقا لهذه المقارنة المضلِّلة، يقنع الأفراد أنفسهم، بخداع خفي، أن الرضوخ للتطبيع بات ضرورة حتمية لدرء المخاطر المحدقة ولإعادة توجيهها بما يحقق ضررا أقل في معادلة الخسارة.

تشتيت أو إزاحة المسؤولية

وأخيرا، يلجأ “المتفهمون” لمسألة التطبيع إلى آليات نفسية لإزاحة أو لتشتيت المسؤولية، على حد وصف بحث بعنوان “الانفصال الأخلاقي في ارتكاب الأعمال اللاإنسانية” منشور في مجلة سيغ، وهي مجلة متخصصة في علم النفس الاجتماعي وتحليل الشخصية، حيث يلقون باللوم على الأطراف أو الظروف التي تقود إلى قبول التطبيع.

فالتطبيع يصبح وفقا لمنطلقاتهم أمرا حتميا تحت وطأة الظروف القاهرة أو كنتيجة لضغوط قوى كبرى كالولايات المتحدة، أو كنتيجة لتيار إقليمي عارم يجرف نحو التطبيع وتدفع به القوى الإقليمية. فبالنسبة إليهم، تقع المسؤولية على عاتق الدول الكبرى أو على عاتق القوى الإقليمية التي هيأت ظروفا قاهرة ستجعلهم معزولين إذا ما عزموا مقارعتها.

كما يحمل البعض المسؤولية كلها الدول العربية على افتراض إقامتها بالكلية علاقات سرية بشكل أو بآخر مع الاحتلال الإسرائيلي، وهنا يبدأ التنصل من المسؤولية الأخلاقية والمبدئية الرافضة للتطبيع، بينما يقتضي الواجب الأخلاقي المقاومة بملء الإرادة.

مع ذلك، يبدو أن تكرار الأحداث الدموية في غزة وما يصاحبها من صدمات معنوية قد تحدث نوعا من البلادة عند شريحة قليلة، إلا أن قسوة الأحداث ترسخ لدى القطاعات الأوسع ضرورة المضي من أجل الخلاص من براثن الاحتلال الذي يهدد شعوب المنطقة عن آخرها.

مشجعون لمنتخب المغرب يرفعون أعلام فلسطين ولافتات ضد التطبيع (مواقع التواصل)

الشعوب عقبة كأداء ضد التطبيع

تؤكد البيانات الإحصائية الحديثة التوجه الشعبي الرافض بوضوح للتطبيع، حيث يُظهر مسح المركز العربي أن 89% من العرب يعارضون اعتراف بلدانهم بإسرائيل. وبشكل أخص، تكشف الإحصائيات عن ارتفاع نسبة السعوديين الرافضين للتطبيع من 38% إلى 68%.

أما في المغرب، فقد شهد الدعم الشعبي للتطبيع انهيارا كبيرا من 31% عام 2022 إلى 13% فقط بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأول. يكشف هذا هشاشة الأسس التي ترتكز عليها مشاريع التطبيع، كما تشكل مؤشرا على أن المعارضة الشعبية العربية لها تمثل العقبة الكأداء أمام نجاحها أو استدامتها.

ويستند التطبيع بالقوة الحالية إلى ركيزة أساسية هي الدعم الأميركي المطلق، خاصة بعد وصول الرئيس دونالد ترامب مرة أخرى إلى سدة الحكم، ودون الخجل من هول الفعل الإسرائيلي في غزة.

غير أن هذه التغطية المطلقة ليست مضمونة الاستدامة، فبحسب مقال لموقع ميديل إيست آي، نشر في يوليو/تموز 2025، فإن المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، التي وُصفت بأنها “السمة المحددة لجيوسياسية القرن الـ21″، قد تجبر واشنطن على إعادة تقييم التزاماتها الإقليمية وتخصيص مواردها في سياقات ذات أولوية كبرى.

كما تشهد إسرائيل عزلة دولية متنامية تهدد شرعيتها على الأمد البعيد، وهذا التدهور في المكانة الدولية لإسرائيل الذي سيبدو أكثر وضوحا في الأمد المنظور سيدفع الدول تدريجيا لإعادة النظر في علاقاتها.

ومن جهة أخرى، يكشف السجل التاريخي عن نمط ثابت من عدم الالتزام الإسرائيلي بالمعاهدات. هذا النمط من نكث العهود يؤكد أن إسرائيل تستغل أي اتفاقية كمنصة لتحقيق مكاسب إضافية تحت ذرائع أمنية مختلفة، مما يجعل التطبيع معها استثماراً خاسراً ولا يسهم إلا في توسيع الهوة بين الشعوب والأنظمة، كما أنه يفتقر للاستدامة الإستراتيجية.

شاركها.
Exit mobile version