دمشق – أثار قرار اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية تأجيل الاقتراع في محافظات الرقة والحسكة شمال سوريا والسويداء جنوبا جدلا واسعا في الأوساط السياسية والاجتماعية.

وتباينت الآراء حول خلفيات القرار ودوافعه؛ فبينما اعتبره البعض خطوة ضرورية لضمان نزاهة العملية الانتخابية، رأى فيه آخرون أداة للإقصاء السياسي.

وتُعد هذه الانتخابات الأولى منذ تولي الرئيس أحمد الشرع الحكم بعد سقوط نظام بشار الأسد. وقد حددت اللجنة العليا للانتخابات موعدها ما بين 15 و20 سبتمبر/أيلول 2025 استنادا إلى قانون انتخابي مؤقت رفع مقاعد البرلمان من 150 إلى 210 مقاعد، يعيَّن الرئيس ثلثها (70 مقعدا)، في حين تُنتخب المقاعد المتبقية عبر لجان فرعية محلية.

وقررت اللجنة العليا للانتخابات تأجيل الاقتراع في محافظات الرقة والحسكة والسويداء، التي تمثل مقاعدها نحو 10% من إجمالي مقاعد مجلس الشعب، مرجعة القرار إلى “دواع أمنية”.

في الوقت ذاته طرحت اللجنة ثلاثة بدائل للتعامل مع هذه المحافظات، وهي:

  • السماح بالتصويت خارج المحافظات السورية الثلاث.
  • تخصيص المقاعد المعطلة للتعيين من حصة الرئيس.
  • الإبقاء على المقاعد شاغرة إلى حين زوال الظروف المانعة.

ووصفت “الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا” القرار بأنه إقصاء سياسي مكشوف، مطالبة المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بالانتخابات.

في حين ردت اللجنة العليا للانتخابات عبر لجنتها القانونية بأن “الإدارة الذاتية لا تملك تقرير شرعية الانتخابات”، مؤكدة أن اللجنة العليا وحدها المخولة بتحديد الجدول الزمني بما يضمن النزاهة والشفافية.

 

شأن سيادي

من جهته، أوضح عضو اللجنة العليا للانتخابات الدكتور نوار نجمة أن قرار التأجيل جاء نتيجة اعتبارات أمنية وسياسية ولوجستية، مؤكدا في حديثه للجزيرة نت أن الانتخابات بوصفها “استحقاقا سياديا” لا يمكن إجراؤها إلا في بيئة تضمن النزاهة والعدالة، ومع تحقق بسط سلطة الدولة على المحافظات الثلاث (الرقة والحسكة والسويداء).

وأوضح نجمة، في تصريحات للصحافة، أن الانتخابات لا يمكن أن تُجرى في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات عسكرية غير نظامية وغير خاضعة لسلطة الدولة، لذلك تم تأجيلها مع الإبقاء على المقاعد شاغرة إلى حين توفر الظروف المناسبة لإجرائها.

ولفت إلى أن الرئيس أحمد الشرع يملك صلاحية تعيين ثُلث أعضاء مجلس الشعب، مما يتيح تعويض غياب هذه المحافظات عبر شخصيات محلية تُختار مباشرة.

وشدد نجمة على أن المعايير والشروط المعتمدة للهيئات الناخبة ستطبق بشكل دقيق، مع التأكيد على استبعاد أي شخص يروّج للتقسيم أو الانفصال.

المحافظات الثلاث

لمحافظتي الرقة والحسكة أهمية سياسية وإستراتيجية، ويبلغ عدد سكان الأولى نحو 816 ألف نسمة وفق تقديرات غير رسمية، في حين يصل عدد سكان مدينة الحسكة لنحو 422 ألف نسمة، مع منطقة حضرية أوسع تشمل ضواحي المحافظة بعدد سكان إجمالي يقارب 1.3 مليون نسمة، وتخضع المحافظتان لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

ويبلغ عدد سكان محافظة السويداء نحو 322 ألف نسمة وفق أحدث البيانات الإدارية لعام 2025، وهي منطقة يغلب عليها السكان من الدروز، وشهدت المحافظة اضطرابات مسلحة بين الدروز والقوات الحكومية، رافقها تدخل إسرائيلي بقصف العاصمة دمشق.

من جانبه، يرى رياض درار القيادي بمجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لقوات سورية الديمقراطية، أن السلطة السورية لا تزال تدير البلاد بعقلية الإقصاء والتفرد بالقرار، مستنسخة نهج الرئيس السابق في التعامل مع شمال وشرق سوريا.

وقال درار للجزيرة نت إن استبعاد الحسكة من الانتخابات “يهدف إلى الحفاظ على تركيز القرار في دمشق”، مشيرا إلى أن هذه المناطق تتمتع برؤية مختلفة قائمة على الديمقراطية والعلمانية.

وأضاف القيادي السوري أن أية مشاركة فعلية لهذه المناطق قد تُسهم في فرض قراراتها على المستويين الإداري والسياسي، وهو ما لا ترغب دمشق في حدوثه.

وبرأيه، فإن استمرار هذا النهج “يفقد العملية السياسية جوهرها، ويجعل أي حديث عن إصلاح أو تفاوض بلا جدوى”.

لجنة الانتخابات قررت تأجيل الاقتراع في محافظات الرقة والحسكة والسويداء لأسباب أمنية (الجزيرة)

تباين الآراء

وتفاعل السوريون على منصات التواصل الاجتماعي مع المرسوم بشكل حاد ولافت، حيث اعتبر بعضهم أن إجراء الانتخابات في الحسكة والرقة والسويداء يعني اعترافا بسلطات الأمر الواقع المسيطرة عسكريا على تلك المناطق.

في حين رأى آخرون أن المشهد يعيد إنتاج عقلية النظام السابق، حيث “الرئيس هو من يقرر ويختار”، في مفارقة وصفها البعض بأنها “مضحكة مبكية”.

وفي المقابل، أيّد آخرون خطوة التأجيل، واعتبروها قرارا صائبا يمهد الطريق لمشاركة سياسية لاحقة حتى لو اقتصرت على شكل رمزي.

وقد ذهبت بعض الأصوات أبعد من ذلك، معتبرة أن مجلس الشعب القادم سيظهر وجود ديمقراطية ولو جزئية، مع تحميل المعارضة مسؤولية أي امتناع عن المشاركة.

واعتبر آخرون أن الحل الأمثل يكمن في فتح باب الترشح على أساس “تزكية شعبية” لممثلين وطنيين من أبناء تلك المناطق، مستفيدين من البعد العشائري، مع التأكيد على ضرورة دعم الأصوات الكردية الوطنية وإشراكها في البرلمان الجديد.

حقوق الأقليات

من جهته، يرى الصحفي والباحث السياسي ماجد العرابي أن قرار التأجيل جاء نتيجة توازنات أمنية وسياسية ولوجستية معقدة، لكنه يعكس في جوهره محدودية المشاركة السياسية في تلك المناطق مقابل تمسك الحكومة بمركزية القرار.

وحذّر العرابي، في حديثه للجزيرة نت، من أن القرار قد يُفهم كرسالة سلبية بشأن التزام دمشق بالتمثيل العادل، خصوصا أن المحافظات المستبعدة تضم أقليات عرقية ودينية، مضيفا أن “تعطيل الانتخابات من دون بدائل واضحة لن يؤدي إلا إلى تعزيز شعور التهميش لدى سكان هذه المناطق”.

ولم يستبعد أن يؤدي هذا النهج إلى تقويض شرعية البرلمان محليا ودوليا، وإلى ترسيخ القناعة بأن الحكومة غير جادة في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية.

واقترح العرابي تشكيل لجنة مشتركة تضم ممثلين عن الحكومة و”قسد” وممثلي السويداء ومنظمات حقوقية محلية من أجل وضع خارطة طريق لإجراء الانتخابات بجدول زمني محدد، بما يضمن مشاركة جميع السوريين ويعيد بعض الثقة للعملية السياسية.

شاركها.