جوبا- تواجه اتفاقية السلام الموقَّعة بين الحكومة والفصائل المعارضة في دولة جنوب السودان بوساطة سودانية عام 2018 جملة من العقبات التي تعرقل تنفيذ بنودها على أرض الواقع، أبرزها انعدام الإرادة السياسية، وغياب التمويل الكافي، واستمرار إرث الصراع السياسي والعسكري العميق بين الأطراف المعنية.
ومع تكرار الانتهاكات وتباطؤ تنفيذ الالتزامات الرئيسية، يتزايد القلق من تراجع الزخم الدولي الداعم للعملية السلمية، ما يهدد مستقبل الاتفاق ويضع استقرار البلاد على المحك.
وتبرز أخطر الأزمات التي تواجه اتفاقية السلام في جنوب السودان بقيام الحكومة باعتقال رياك مشار، النائب الأول لرئيس الجمهورية وزعيم المعارضة المسلحة، الفصيل الرئيسي، على خلفية اتهامات تتعلق بأحداث منطقة الناصر في ولاية أعالي النيل، حيث اندلعت اشتباكات بين قوات الحكومة وفصائل محلية محسوبة على المعارضة، أدت لمقتل قائد حامية الناصر مطلع هذا العام.
عراقيل تنفيذ الاتفاق
كما شملت الاعتقالات قيادات أخرى من المعارضة، أبرزهم وزير البترول، فوت كانغ، وقيادات رفيعة، وأسهمت الاعتقالات بزيادة التوتر وتعميق الانقسامات بين الأطراف، مما أثَّر سلبًا على فرص تنفيذ اتفاق السلام بصورة فعالة.
وأصدرت المفوضية المعاد تشكيلها لمراقبة تنفيذ اتفاق السلام تقريرها في شهر يونيو/حزيران الماضي، مؤكدة أن “تنفيذ البنود الرئيسية للاتفاق توقف إلى حد كبير”، وسط تدهور الأوضاع السياسية والأمنية و”اختراق وقف إطلاق النار بسبب الاشتباكات المتكررة بين قوات دفاع شعب جنوب السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان – المعارضة”.
وأشارت المفوضية، في تقريرها، إلى أن “فرض الإقامة الجبرية على رياك مشار واحتجاز قيادات المعارضة يُعمِّق انعدام الثقة ويقوِّض الالتزام بتنفيذ الاتفاق”، كما نبَّهت إلى أن “غياب الحوار المباشر يعكس شكوكًا عميقة تعرقل التنفيذ”، داعيةً “لإطلاق سراح المعتقلين واستعادة المشاركة الكاملة لجميع الأطراف لاستعادة الثقة ودفع السلام”.
ورغم تلك المناشدات، لم توجه الحكومة أي تهم بحق مشار ولم تخضعه للمحاكمة، بل مضت قدما في النظر بقضايا تنفيذ الاتفاق دون وجود فعلي للمعارضة المسلحة في المؤسسات، في ظل صمت الجماعات الأخرى الموقعة على الاتفاق، وأسفر هذا الموقف عن تصاعد التوترات الميدانية بمناطق وجود قوات المعارضة المسلحة، مما زاد من هشاشة الوضع الأمني وأعاق تقدم عملية السلام.
وخلال اجتماع مجلس السلم والأمن الأفريقي في شهر يونيو/حزيران الماضي، قال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، نيكولاس هايسوم، إن “الاشتباكات المسلحة المستمرة وانتهاكات وقف إطلاق النار تسببت بنزوح أكثر من 130 ألف شخص، مع تدهور الوضع السياسي والأمني في جنوب السودان”.
وأضاف هايسوم “لا يوجد حل عسكري للقضايا السياسية”، داعيًا إلى “وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح قادة المعارضة، واستئناف الحوار السياسي”، مؤكدا ضرورة “منع العودة للحرب ودعم إجراء الانتخابات الديمقراطية في البلاد”.

ضغوط للإنقاذ
ويتوقع الكاتب الصحفي وادينق البينو تدخلا إقليميا فاعلا لإنقاذ اتفاقية السلام المنشطة، حيث ستكون كل من منظمة إيغاد والاتحاد الأفريقي في صدارة الجهات التي تمارس ضغوطًا على حكومة جنوب السودان.
وأضاف البينو للجزيرة نت “تأتي هذه الضغوط كخطوة لإحياء اتفاق السلام وتنشيط مساراته”، متوقعا “أن تشهد الأيام المقبلة زيارات من وفود الاتحاد الأفريقي إلى جوبا، تشمل لقاءات مع رياك مشار ومشاورات مع حكومة الرئيس سلفاكير ميارديت، بهدف وقف انتهاكات الاتفاقية”.
وجددت سفارات كندا وألمانيا واليابان وهولندا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في بيان لها -الأسبوع الماضي- دعوتها للإفراج غير المشروط عن مشار، معتبرة أن إطلاق سراحه ضروري لاستئناف الحوار السياسي وتحقيق السلام المستدام في جنوب السودان.
وأعربت السفارات عن “قلقها من استمرار الأعمال العدائية وانتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار واتفاق السلام المُنشط، التي تهدد استقرار البلاد وتنمية شعبها”، وأدانت الهجمات المتكررة على المدنيين والعاملين في المجال الإنساني والمنشآت الطبية، مؤكدة أنها تزيد من معاناة السكان.
من جهته، اقترح الكاتب الصحفي والمحلل السياسي، أكول ميان، تأجيل الانتخابات حتى ديسمبر/كانون الأول 2028 وتمديد الفترة الانتقالية إلى فبراير/شباط 2029 كإجراء لمعالجة اختلالات اتفاق السلام، معتبرا أن فشل الأطراف المعنية بتنفيذ البنود الأساسية للاتفاق، إلى جانب الانقسامات السياسية والعنف المستمر والتحديات الاقتصادية والإنسانية، يحول دون إجراء الانتخابات المقررة في شهر ديسمبر/كانون الأول 2026.
وقال ميان للجزيرة نت “ندعو إلى حوار شامل وعاجل بين شركاء السلام والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي، لتمكين تنفيذ بنود الاتفاق مثل:
- تكوين جيش موحد
- إعداد دستور دائم
- الإصلاحات المالية ومحاربة الفساد
- معالجة لجميع تلك الأزمات التي تواجه تنفيذ بنود اتفاق السلام”.

مشاكل المعارضة
ومن ناحيته، يشير المحلل السياسي أندريا ماج مبيور، إلى أن اتفاقية السلام تمر بمعوِّقات كبيرة، مبينا أن المشكلة الأساسية لاتفاقية السلام المنشطة هي ضعف الإرادة السياسية لدى الشركاء الأساسيين في الحكومة والمعارضة، إضافة للانشقاقات المستمرة داخل صفوف المعارضة، خاصة بعد اعتقال رياك مشار، حيث كان متوقعا تماسك المعارضة لتنفيذ ما تبقى من البنود، وهو ما لم يحدث.
ويضيف للجزيرة نت “تراجع دور الضامنين بشكل واضح، خصوصا مع الفتور الذي أصاب الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني وخروج الرئيس السوداني السابق عمر البشير من الحكم”.
ويتابع “أن غياب الإرادة السياسية يعوق إجراء الانتخابات في ظل غياب المعارضة وعدم إتمام التعداد السكاني”، مطالبا الحكومة “بتهيئة المناخ السياسي المناسب لإقامة الانتخابات، عبر تنفيذ الاتفاق، وإعداد دستور دائم، ونزع السلاح من أيدي المواطنين”.