في صباح رمادي من خريف عام 2015، كانت مقاتلة أميركية من طراز “إف-16” تشقّ سماء مقاطعة باكتيا شرقي أفغانستان، على ارتفاع منخفض، في مهمة جوية اعتيادية لتأمين الغطاء الناري لقوات برية أميركية تتهيأ لرصد تحركات أو الاشتباك مع مقاتلي حركة طالبان.

بدت السماءُ هادئة، لكنّ الأرض لم تكن كذلك، ففي لحظة خاطفة، دوّى وابل من طلقات نارية خفيفة انطلق من سلاح فردي، ليصيب ذيل الطائرة ويقلب موازين اللحظة كلها. اضطُر الطيار إلى التخلص من خزانات الوقود والذخائر لتخفيف الحمولة، وتأمين العودة إلى قاعدته.

لم يكن الهجوم معقدا، ولا استُخدمت فيه تقنيات متقدمة، مجرد رصاصة من بندقية، أُطلقت من الأرض في بيئة بدائية، لكنها نجحت في إخراج واحدة من أكثر المقاتلات تطورا من ساحة المعركة. ورغم تزويد الطائرة بأنظمة إنذار إلكتروني وراداري متقدمة، فإنها فشلت في كشف الخطر البسيط الذي تسلل من بين ظلال التضاريس الصعبة.

حادثة صغيرة، لكن تكلفتها كانت باهظة، ليس من حيث الخسائر المباشرة فحسب، بل من حيث ما كشفته من ثغرة بنيوية في الطريقة التي تتفاعل بها الطائرات مع محيطها القتالي، خصوصا في الحروب غير المتكافئة، حيث لا تأتي الأخطار دوما من صواريخ دقيقة أو منظومات دفاع جوي معقدة، بل أحيانا من سبطانة صدئة تحملها يد مغمورة في ريف ناء أو صحراء مترامية.

ومثلُ هذا الدرس المُر هو ما دفع شركات الدفاع الكبرى إلى مراجعة ما اعتُبر يوما “كفاءة مكتملة”، والبحث عن حلول “ذكية” تتجاوز منطق تحديث إمكانات الطائرات التقليدي الذي غالبا ما يكون باهظ التكلفة المادية، والانتقال بدلا من ذلك نحو نهج جديد، هو تمكين الطائرات من “فهم” ما يحدث في البيئة القتالية حولها، وتطوير نظم الاستجابة الفورية “الواعية” لتلك التهديدات، فكيف حدث ذلك؟

طائرات مقاتلة أوكرانية من طراز إف-16 في 4 أغسطس/آب 2024 (رويترز)

ولادة الحاسة السادسة للطائرات

من بين الحلول التي ابتكرتها شركات الدفاع، برز نظام متقدم طوّرته شركة “رايثيون” الأميركية، يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ويمنح الطائرات القديمة قدرة شبه فورية على إدراك التهديدات المحيطة دون أي تعديل هيكلي أو تكاليف باهظة.

الابتكار الجديد، الذي يحمل اسم “نظام نشر الخوارزميات الإدراكية” (Cognitive Algorithm Deployment System – CADS)، عبارة عن وحدة إلكترونية صغيرة تُركّب داخل جهاز الإنذار الراداري الموجود أصلا في العديد من الطائرات الأميركية من الجيل الرابع، مثل “إف-16″، وطائرات النقل والدعم مثل “سي-130″ و”كيه سي-46”. ولا يتطلب تثبيت الوحدة سوى إدخال “بطاقة إلكترونية” في منفذ مُعدّ مسبقا داخل الجهاز، لتبدأ التقنية عملها فورا دون الحاجة لتعديل أي مكونات أخرى.

وتؤكد رايثيون أن ثمة أكثر من 600 طائرة أميركية مزوّدة بجهاز الإنذار الراداري من طراز (ALR-69A) يمكن ترقيتها مباشرة باستخدام هذا النظام، بما يتيح عملية تحديث واسعة وسريعة للبنية الجوية القائمة. ويمنح النظام الطائرات ما يشبه “حاسة سادسة”، تُعزز وعيها الفوري وتزيد فرص نجاتها في ساحات القتال المعقدة.

وللتذكير، فإن جهاز الإنذار الراداري “ALR-69A” هو نظام رقمي مُصمّم لرصد إشارات الرادارات المعادية، سواء كانت مخصصة للتعقّب أو لتوجيه الصواريخ، ومن ثم يقوم بتحذير الطيار فور التعرّض للمراقبة أو الاستهداف، مما يجعله خط الدفاع الأول في المواجهات الجوية الحديثة.

طائرة مثل “إف-117” قد لا تكاد تُرى على شاشة الرادار رغم أن طولها يتجاوز 20 مترا (غيتي)

سباق التخفي والمراقبة

لفهم أعمق لأهمية هذه التكنولوجيا الجديدة، نرجع إلى الوراء خطوة نحو السؤال الجوهري: لماذا تحرص الطائرات على ألا تُرى؟ والجواب يبدأ من جهاز صغير لكنه بالغ التأثير، هو الرادار.

يعتمد الرادار على آلية بسيطة هي إرسال موجات كهرومغناطيسية في الهواء، ثم التقاط ما يرتد منها عند اصطدامها بالأجسام، فإذا اصطدمت هذه الموجات بجسم معدني مثل هيكل طائرة، فإن جزءا منها يرتد إلى المصدر، كاشفا وجود هذا الجسم وموقعه وسرعته.

لكن الرؤية الرادارية ليست شاملة، بل تعتمد على ما يُعرف بـ”البصمة الرادارية” للطائرة، أي حجم الإشارة التي تعكسها. كلما كانت هذه البصمة أصغر، باتت عملية الرصد أصعب، وزادت قدرة الطائرة على التملص من قبضة الرادار.

من هذا المفهوم، وُلدت فكرة “الشبحية” أو التخفي. لا تُخفي هذه الطائرات نفسها تماما، لكنها تعيد تشكيل حضورها في الفضاء، لتبدو على شاشة الرادار كأنها طائر صغير أو حطام عابر. وتحقّق هذه الحيلة من خلال تصميم هندسي معقد، عبارة عن زوايا حادة تُعيد توجيه الموجات بعيدا عن الرادار، وطلاء خاص يمتص جزءا منها، وإخفاء تام للأسلحة والزوائد داخل البدن. وبفضل هذه الخصائص، فإن طائرة مثل “إف-117” قد لا تكاد تُرى على شاشة الرادار، رغم أن طولها يتجاوز 20 مترا.

لكن الرادار أيضا لم يبق كما كان، فالتكنولوجيا لا تتطور من طرف واحد. فمع تقدم وسائل التخفي، ظهرت مضاداتها، عبارة عن رادارات طويلة الموجة تستطيع رصد الأجسام من مسافات بعيدة، كما انتشرت المستشعرات الحرارية التي تلاحق حرارة المحرّكات، ونُشرت شبكات دمج البيانات متعددة الزوايا، التي تتيح كشف الأهداف المتخفية من خلال تحليل بصمتها من اتجاهات مختلفة.

هذه الأساليب قد تنجح أحيانا في الكشف عن الطائرات الشبحية، خصوصا عند اقترابها من مواقع الرصد أو قيامها بمناورات تكشف زواياها، مثل فتح حجرة القنابل أو عند الانعطاف بزاوية تفضح مقطعها الراداري الجانبي.

ورغم ذلك، لا تزال لهذه الأنظمة المضادة حدودها، فالرادارات بعيدة المدى تفتقر للدقة التكتيكية، والمستشعرات الحرارية تتأثر بالضباب والعواصف والحرارة الخلفية. على الجانب الآخر أيضا، فإن الطائرات الشبحية تدفع ثمنا باهظا، إذ إن تكلفة مقاتلة من طراز “إف-35” تتجاوز 100 مليون دولار، بينما لا تتعدى تكلفة “إف-16” المحدّثة ما بين 25 مليونا و30 مليون دولار. كما أن هندسة التخفي تفرض قيودا على الحمولة والمدى، وتضطر الطائرة للحد من سعتها الداخلية حفاظا على بصمتها المنخفضة أمام الرادارات.

تكلفة مقاتلة من طراز “إف-35” تتجاوز 100 مليون دولار (الأوروبية)

الإدراك بدلا من الاختفاء.. هل يمكن أن تُفكر الطائرات؟

وهكذا، يبدو أنه أمام هذه التعقيدات التي تكتنف بيئة القتال الحديثة، لم يعد التخفي وحده كافيا. ومع التكاليف الباهظة والتعقيدات الهندسية التي تفرضها تقنيات “الشبحية”، بدأت الجيوش الاتجاه نحو حلول بديلة أو هجينة، تتيح تحسين أداء الطائرات التقليدية دون الحاجة إلى إعادة بنائها من الصفر.

في هذا السياق، برز اتجاه متسارع نحو دمج تقنيات رقمية ذكية، تُمكّن الطائرات من إدراك التهديدات المحيطة بشكل لحظي، وتنبيه الطيار في اللحظة الحرجة، بما يعزز قدرتها على البقاء في بيئة قتالية مشبعة بالمخاطر.

ويُعد نظام “نشر الخوارزميات الإدراكية” (CADS)، من أبرز تطبيقات هذا التوجه. فرغم أنه لا يمنح الطائرة قدرة شبحية، فإنه يزوّدها بما يشبه “الوعي الإلكتروني”، بما يمنحها قدرة ذاتية على رصد التهديدات وتحليلها والتفاعل معها فورا، دون الحاجة إلى تغييرات جذرية في التصميم أو استثمارات ضخمة في التحديثات.

وتُظهر نتائج التجارب الميدانية الأولية التي أُجريت على مقاتلات “إف-16″، بالتعاون بين شركة “رايثيون” والحرس الوطني الأميركي، أن النظام قادر على التعامل مع إشارات رادارية غير مألوفة بكفاءة عالية.

فعندما تلتقط الطائرة إشارة لا تتطابق مع أنماط التهديد المعروفة، يقوم النظام بتحليلها ذاتيا، وتقدير مستوى خطورتها، ثم إطلاق تنبيه فوري للطيار، يمنحه وعيا لحظيا بالخطر، حتى لو كان العدو يستخدم تقنية جديدة أو تكتيكا لم يُسجّل من قبل.

الميزة الأهم أن هذا “الإدراك الاصطناعي” لا يُثقل كاهل الطيار، بل يخفف عنه عبء التعامل مع سيل التنبيهات في ميدان مشبع بالإشارات والتشويش. ففي مثل هذه البيئات، قد يتلقى الطيار عشرات التحذيرات دفعة واحدة، مما يؤدي إلى الإرباك وتباطؤ الاستجابة.

لكن النظام الجديد يُعيد ترتيب الإشارات وفق الأولوية، ويُبرز الأخطر أولا، بما يضمن فعالية القرار وسرعة رد الفعل. وبهذا، تقترب قدرات مقاتلات الجيل الرابع المُحدّثة من خصائص “الحاسة السادسة” التي تميّز مقاتلات الجيل الخامس.

ومع تفعيل نظام رايثيون الجديد، تصبح مقاتلات الجيل الرابع مزوّدة بقدرة دفاعية تفاعلية تمنحها بقاء أطول في ساحات القتال. ورغم أنها لا ترقى إلى مستوى التخفي الفعلي، فإنها تستبدل “عدم الظهور” بالقدرة على “الاستجابة الذكية”، مما يعكس فلسفة مختلفة في البقاء، الأولى تراهن على الغياب، والثانية على سرعة الوعي والنجاة.

خيارات بديلة تكسر احتكار التكنولوجيا الأقوى

عند هذه النقطة يبرز السؤال الأكثر أهمية: هل يمكن للدول الاكتفاء بترقية أساطيلها التقليدية بأنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة، والاستغناء عن الاستثمار في طائرات شبحية باهظة التكلفة؟ والسؤال لا يحتمل إجابة واحدة، بل يخضع لمعادلة تُوازن بدقة بين الكفاءة القتالية والجدوى الاقتصادية.

فالمقاتلات الشبحية تمنح ميزة إستراتيجية يصعب تعويضها، هي القدرة على اختراق الدفاعات الجوية الأكثر تطورا دون أن تُكتشف، وهذه ميزة لا يمكن مضاهاتها بأية ميزات أخرى. لكنها في الوقت نفسه تأتي بكُلفة هائلة، ليس فقط في التصنيع، بل في التشغيل والصيانة والتدريب والبنية اللوجستية اللازمة لها.

في المقابل، يمكن لدولة ما توجيه الميزانية ذاتها نحو ترقية عدد أكبر من مقاتلات الجيل الرابع، بما يتيح لها تأمين انتشار عددي واسع دون التضحية الكاملة بالكفاءة. وهذا التوازن هو ما بدأت تُطبقه بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تجمع حاليا بين تطوير مقاتلات “إف-35” الشبحية، وتحديث أساطيلها التقليدية مثل “إف-15 إي إكس” و”إف-16″، في مقاربة تمزج بين “الكمّ” و”النوع”.

ومع ذلك، تبقى الشبحية ضرورة لا غنى عنها في مواجهة التهديدات المعقّدة. فعندما يتعلق الأمر بمنظومات دفاع جوي شديدة التكامل، مثل “أس-400” الروسية، فإن الطائرات الشبحية تُعد رأس الحربة في الهجوم، فهي القادرة على فتح ثغرات في الجدار الراداري، تمهيدا لتقدّم الطائرات الأخرى.

وفي مثل هذه السيناريوهات، لا يكون الذكاء الاصطناعي كافيا بمفرده، مهما بلغت قدراته. فالتقنيات المضادة في سباق دائم مع أدوات التخفي، وتزداد قدرة الرادارات والمستشعرات على كشف أكثر الأجسام مراوغة.

من هنا، يبدو أن سلاح الجو المثالي في العقود المقبلة سيقوم على نهج مزدوج، حيث تتقدّم الطائرات الشبحية لكسر منظومات الدفاع وفتح الطريق، بينما تتبعها أسراب من الطائرات التقليدية المُحدّثة بأنظمة إدراك ذكية، تكمل المهام، وتوسع نطاق الضربات، وتحافظ على وتيرة الاشتباك بكلفة أقل.

غير أن هذا الخيار لا يتاح للجميع، فامتلاك مقاتلات الجيل الخامس لا يزال حكرا على عدد محدود من الدول الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، وبعض حلفاء واشنطن المقرّبين. أما الغالبية العظمى من دول العالم، فتعتمد على أساطيل من طائرات الجيل الرابع، وتسعى إلى ترقيتها بشكل مستمر، نظرا لتكلفة الطائرات الشبحية وقيود التصدير المرتبطة بها.

وهنا تبرز أنظمة الذكاء الاصطناعي بمنزلة فرصة إستراتيجية. فهي تتيح لتلك الدول تحسين الوعي القتالي، وتعزيز الفاعلية الهجومية والدفاعية في وقت وجيز وبتكلفة معقولة، دون الحاجة إلى انتظار صفقات طويلة الأجل ومقيدة سياسيا مع قوى عظمى.

وقد يمتد هذا التوجه مستقبلا ليشمل الدول التي تشغل الطائرات الصينية والروسية الأقدم، مثل “ميغ-29” أو “جيه-10″، عبر تطوير أنظمة إدراك وطنية تُدمج في هذه المنصات، بما يقرّب أداءها من مواصفات الجيل الخامس دون الحاجة إلى امتلاكه فعليا.

وباختصار، لا يحل الإدراك والوعي محل التخفي الكامل، والذكاء الاصطناعي لن يعوّض الشبحية بصورة مطلقة، لكنه قد يكون بديلا واقعيا وفعالا في كثير من السياقات، خصوصا للدول التي لا تستطيع امتلاك مقاتلات شبحية، كما أنه مكمّل ضروري حتى للدول المالكة لها، لتحقيق أفضل مزيج من التخفي والإدراك في سلاح الجو.

شاركها.
Exit mobile version