في مقاطعة “خالكيذيكي” بشمال اليونان، وعلى تخوم جبل “آثوس”، يطلّ فندق ريفي من ثلاثة طوابق على حديقة غنّاء وحوض سباحة تحيطه مساحات شاسعة من الحقول، في مشهد يبدو وكأنه مقتطع من كتيب سياحي.

لا يبدو المكان أكثر من مشروع تقاعدي يديره زوجان مهاجران قررا العيش في اليونان، لكنّ وراء هذه الواجهة السياحية الأنيقة تكمن حقيقة مختلفة تماما، فوفقا لتقارير استخبارية؛ كان هذا الفندق الريفي البريء المظهر محطة لوجستية متقدمة لأعضاء وحدة النخبة 29155، التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، وهي وحدة متخصصة في عمليات الاغتيال والتخريب خارج الحدود!

وعلى مدار ثلاثة عقود؛ كان الزوجان، إيلينا ونيكولاي سابوزنيكوف، العضوان الفاعلان في هذه الوحدة، يقدّمان غطاءً استخباريًّا ولوجستيًّا لعمليات سرّية امتدت إلى عواصم أوروبية عديدة، كما ساهما في عمليات تجنيد وتمويه، ضمن إحدى أطول مهمات “الغطاء الهادئ” في تاريخ وحدات الظل الروسية.

تُنسب إلى هذه الوحدة سلسلة من العمليات النوعية التي استهدفت مصالح غربية وخصومًا سياسيين لموسكو في أكثر من دولة، إذ يُشتبه في ضلوعها في هجوم بأسلحة طاقة موجهة على دبلوماسيين أميركيين في “هافانا” خلال عام 2016، كما يُعتقد أن عناصرها أدّوا دورًا في محاولة انقلاب فاشلة في الجبل الأسود لمنع انضمامه إلى الناتو في العام ذاته، فضلًا عن رصد بعضهم خلال احتجاجات استقلال كتالونيا في 2017.

وقد بلغت الوحدة ذروة ظهورها العلني بمحاولة اغتيال العميل الروسي المنشق، سيرغي سكريبال، وابنته في بريطانيا عام 2018، في إحدى أكثر عمليات الظل الروسية جرأة وإثارة للجدل.

صورة مؤرخة في 9 أغسطس/آب 2006 تُظهر سيرغي سكريبال خلال جلسة استماع في المحكمة العسكرية الجزئية في موسكو، روسيا (الأوروبية)

بَيد أن وحدة 29155 لا تمثل استثناءً في عالم يتزايد فيه نشاط “فرق الظل” التي أصبحت تُمثل نمطا جديدا من أدوات الصراع، يتشكّل في هيئة وحدات صغيرة تجمع بين المهارات العسكرية والعمل الاستخباري، وتُكلَّف بمهام يمكن للدولة أن تنكر علاقتها بها دون أن يتمكن أحدٌ من إثبات العكس. فهي كيانات لا تخوض معارك نظامية، لكن بإمكانها تغيير ملامح الصراعات السياسية والعسكرية في صمت، عبر اغتيالات دقيقة أو تخريب مدروس أو عمليات نفسية موجهة.

في هذا التقرير؛ نسلّط الضوء على 4 من أبرز وحدات الظل في العالم، تنتمي إلى دول كبرى تختلف أنظمتُها السياسية وعقائدُها العسكرية، لكنّها تشترك جميعًا في الاعتماد على هذه الوحدات بوصفها أدوات للردع والتسلل وفرض النفوذ.

حكاية وحدة ديفغرو الأميركية

في فجر 2 مايو/أيار 2011، كانت مروحيات “بلاك هوك” الأميركية تشقّ سماء مدينة أبوت آباد الباكستانية في مشهد مريب، وخلال دقائق من تحليقها المنخفض نفذت عملية إنزال جوي لاقتحام مجمّع سكني محصّن، حيث كان أسامة بن لادن يختبئ منذ سنوات. لم تستغرق العملية سوى 40 دقيقة، جرى خلالها التسلل، ثم اشتباك قصير، ثم انسحاب منظم تاركًا خلفه جثمان أكثر المطلوبين أمنيًّا في العالم.

لم يكن هذا الإنجاز العملياتي صدفة أو مجرد مخاطرة عسكرية، بل نتاج تدريب طويل ونمط تفكير مختلف جسّدته وحدة غامضة تُدعى “ديفغرو” (DEVGRU)، أو ما يعرفه العامة باسم “فريق سيل السادس”. تلك اللحظة لم تكن سوى فصل من سجلّ حافل بالعمليات السرية، نفذته وحدة وُلدت من رحم الفشل الأميركي في طهران مطلع الثمانينيات، لتتحول مع مرور الوقت إلى رأس الحربة في “الحرب على الإرهاب”، وإلى رمز للقوة الخفية التي تتحرك خارج الأضواء.

تأسست الوحدة مطلع الثمانينيات على يد الضابط ريتشارد مارسينكو، عقب فشل عملية “مخلب النسر” لتحرير الرهائن الأميركيين في طهران عام 1980، وكان الهدف منها إنشاء قوة تدخل سريع متخصصة في مكافحة الإرهاب البحري وإنقاذ الرهائن، قادرة على العمل في بيئات معقدة ومغلقة. ورغم إعادة هيكلتها لاحقًا تحت اسم “ديفغرو”، بقيت تُعرف في الثقافة العامة باسم “فريق سيل السادس”، وهو اسم مُضلل اختير عمدًا في زمن الحرب الباردة لإيهام السوفيات بوجود خمس وحدات مماثلة، في إطار حرب نفسية ضمن سباق التسلح.

يُختار عناصر “ديفغرو” من بين نخبة قوات البحرية الخاصة الأميركية (Navy SEALs)، ممن يمتلكون خبرة ميدانية تتجاوز 5 سنوات. يخضع هؤلاء المرشحون لبرنامج انتقائي صارم يُعرف بـ”الفريق الأخضر”، لا يُكمله سوى نصفهم تقريبًا.

يتضمن البرنامج تدريبات قاسية على القتال القريب، والقنص، وتفكيك المتفجرات، وجمع المعلومات الاستخبارية، إضافة إلى تعلم لغات أجنبية والانغماس الثقافي، بما يمكّن العناصر من العمل وسط بيئات معادية ومعقدة.

وتنقسم الوحدة إلى عدة أسراب متخصصة، يُعرَف كل منها بلون يرمز لطبيعة مهامه: السرب الأحمر للهجوم المباشر، والأزرق للعمليات البحرية وتحت الماء، والذهبي للاستطلاع والمراقبة، والفضي لمهام متنوعة تتغير بحسب طبيعة العمليات.

أما السرب الأسود فيُكلّف بأكثر المهام الاستخبارية سرية وحساسية، في حين تشير بعض المصادر إلى وجود سرب رمادي غير مؤكد رسميًّا، يُعتقد أنه مسؤول عن النقل البحري وتقديم الدعم الميداني. يضم كل سرب نحو 50 عنصرًا، يتوزعون على فرق صغيرة متخصصة في الاقتحام أو القنص، مجهزة بأسلحة خفيفة عالية المناورة، مثل أجهزة رؤية ليلية متقدمة وطائرات استطلاع مسيّرة صغيرة وعتاد تكتيكي مصمم للعمل السري والاختراق.

نجحت “ديفغرو” في تنفيذ عمليات نوعية عديدة، كان أبرزها عملية “رمح نبتون” عام 2011 التي انتهت بتصفية بن لادن، وهي المهمة التي رسخت سمعتها بوصفها أداة سرّية فعالة في يد السياسة العسكرية الأميركية. لكن صعودها بدأ بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، حين توسّع نطاق عملياتها بشكل غير مسبوق، ووجدت نفسها في قلب “الحرب على الإرهاب” الممتدة من أفغانستان إلى العراق ومناطق أخرى.

ومع ذلك التوسع، تضاعفت خسائرها البشرية. فوفق تقرير نشرته نيويورك تايمز، قُتل من عناصر “ديفغرو” خلال 14 عامًا بعد هجمات سبتمبر عددٌ يفوق مجموع من فقدتهم طوال تاريخها السابق، نتيجة للمهام الشديدة الخطورة التي شملت القفز بالمظلات، وتسلُّق المرتفعات الوعرة، والتعرض للمتفجرات. كما خلّفت هذه الوتيرة آثارًا جسدية ونفسية عميقة لدى العديد من الناجين من عناصرها.

ويرى عناصر سابقون أن تسارع وتيرة عمليات الوحدة والتوسع غير المسبوق في مهامها، كان قد قوّض ثقافة النخبة التي طالما ميزتها، فبينما أُنشئت لتصفيات دقيقة وعمليات عالية الحساسية، تحولت تدريجيًّا إلى قوة ميدانية تخوض معارك شبه يومية ضد مقاتلي طالبان ومجموعات مسلحة أخرى، حتى أصبح أفرادها يعملون كما لو كانوا جنودا ميدانيين، أكثر من كونهم وحدة خاصة لمهام انتقائية.

ولاحقا؛ ازداد الجدل حول الوحدة مع اتهامات وُجهت لها بارتكاب تجاوزات في أفغانستان، شملت قتل مدنيين دون تمييز وغارات مثيرة للجدل. ومع ذلك، بقيت الرقابة عليها محدودة، إذ اكتفت قيادتها بإجراء تحقيقات داخلية، في آلية وصفها أحد ضباطها السابقين بأنها لم تكن سوى “تحقيق للجهاز مع نفسه”!

تنين البحر: ذراع بكين في صراعات ما وراء السواحل

في ذروة الحرب اليمنية عام 2015، ظهرت فرقاطة صينية على مشارف ميناء عدن، تحمل على متنها وحدة مجهولة نسبيًّا خارج الأوساط العسكرية، هي وحدة “جياولونغ”، أو “تنين البحر”. خلال ساعات قليلة، نظّمت الوحدة عملية إجلاء خاطفة لـ571 مواطنًا صينيًّا وأكثر من 200 أجنبيا من عشر جنسيات مختلفة.

كان ذلك الحدث بمنزلة أول اختبار ميداني لوحدة صُممت لتكون ذراع بكين البحرية في الخارج، ورسالة واضحة بأن الصين أصبحت قادرة على حماية مواطنيها واستثماراتها عبر البحار.

لم تُفوّت بكين فرصة استثمار الحدث سياسيًّا وإعلاميًّا، لتقديم جيشها بوصفه قوة إنسانية مسؤولة، وقادرة على التدخل لحماية المدنيين دون التورط في احتلال أو فرض قواعد عسكرية، قبل أن تحوّله إلى ملحمة سينمائية في فيلم “عملية البحر الأحمر” (2018)، الذي قدم “جياولونغ” بصورة البطل الصامت في سردية الصعود الصيني، وبوصفه رمزًا لتحوّل الدور الأمني للصين من الداخل إلى البحار المفتوحة.

بدأت فكرة “جياولونغ” مطلع الألفية الجديدة، ضمن خطة تحديث قوات مشاة البحرية، مع تزايد حضور الصين عبر مبادرة “الحزام والطريق”، ومع انتشار استثماراتها ومواطنيها في أفريقيا وآسيا، حيث برزت الحاجة إلى قوة مرنة لا تتطلب قواعد دائمة أو جيوشًا ضخمة، بل تتحرك سريعًا إلى حيث تدعو الحاجة.

وتُعد هذه الوحدة بين الأكثر نخبوية وسرية داخل جيش التحرير الشعبي، إذ يخضع أفرادها لتدريب يمتد عامًا كاملًا، لا يستطيع تجاوزه أكثر من 50% ممن يخوضونه. ويشمل هذا التدريب اختبارات قتال قريب، ورماية في ظروف متقلبة، واقتحامًا، وقفزًا مظليًّا، وغوصًا، وعمليات ليلية.

ويتدرّبون في بيئات قاسية مثل الرمال المتحركة والحرارة المرتفعة، لتكوين ذاكرة عضلية تُتيح الاستجابة الفورية تحت الضغط. إلى جانب ذلك، يُغرس فيهم ما يُعرف بـ”روح التنين”، وهي ثقافة عسكرية تُعلي من قيمة الجرأة والتضحية والعمل الجماعي، وتُورّث عبر الأجيال داخل الوحدة.

يُغرس في وحدة “تنين البحر” ما يُعرف بـ”روح التنين”، وهي ثقافة عسكرية تُعلي من قيمة الجرأة والتضحية والعمل الجماعي، وتُورّث عبر الأجيال داخل الوحدة (غيتي)

لكن على الرغم من نجاحاتها، يظل نطاق عمل “جياولونغ” محدودًا مقارنة بنظيراتها الأميركية أو البريطانية. فمهامها الأساسية تتركز على العمليات المباشرة، ومكافحة الإرهاب، والاستطلاع، من دون الانخراط في حروب غير تقليدية مثل توجيه المليشيات أو دعم الحركات المسلحة المحلية، وهي ميادين تمثل عماد العقيدة الأميركية في توظيف قواتها الخاصة.

ويشير الباحث اليوناني ستافروس أوغلو إلى أن قصور الوحدة يكمن في افتقارها إلى منصات الإدراج البحري والجوي المتقدمة، مما يقيّد قدرتها على تنفيذ عمليات بعيدة المدى أو متعددة الجبهات. غير أن الصين تعمل على سد هذه الفجوة عبر تطوير وحدات دعم بحري وجوي خاصة، بما يتيح تنسيقًا أفضل مع قوات مشاة البحرية، خصوصًا في العمليات الساحلية.

هذا التحليل يتقاطع مع ما طرحه الباحث الأميركي كونور كينيدي من معهد الدراسات البحرية الصينية في كلية الحرب البحرية، الذي يرى أن دور “جياولونغ” قد يتعاظم في سيناريوهات حساسة مثل غزو تايوان.

فمع تراكم خبراتها في التكتيكات البحرية والجوية الحديثة، واتساع الاعتماد على “قوات ظل متنقلة”، تمضي بكين نحو تطوير ذراع هجومية مرنة، قادرة على خوض صراعات “المنطقة الرمادية” دون الانجرار إلى مواجهة شاملة.

“ساس” البريطانية.. حلم مغامر أسكتلندي

في صحراء شمال أفريقيا المترامية، ووسط أجواء الحرب العالمية الثانية، راود الملازم الأسكتلندي ديفيد ستيرلينغ حلمٌ بدا ضربًا من الجنون. فقد أدرك أن قوات المحور حصّنت شواطئ المتوسط ضد أي إنزال بريطاني، لكن “بحر الرمال العظيم” الممتد في الخاصرة الجنوبية بقي مكشوفًا، ومُهيّئا ليكون ثغرة خلف خطوط العدو.

هكذا وُلدت فكرة تشكيل قوة صغيرة من المغامرين قوامها 55 رجلًا، تُنفذ غارات خاطفة في عمق الصحراء حيث لا يتوقع الألمان أي هجوم.

لكن المغامرة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 1941 انتهت بكارثة. إذ قفزت الوحدة بالمظلات وسط عاصفة ليلية، فتبعثرت المعدات، وأُسر أو قُتل معظم الرجال قبل أن يطلقوا رصاصة واحدة، ولم ينجُ سوى 21 جنديًّا.

مع ذلك، لم يُكتب للفكرة أن تموت. وبمرور الوقت، راكمت الوحدة خبرة ميدانية فريدة، وشرعت في تنفيذ هجمات ناجحة على مطارات ومراكز لوجستية لقوات المحور، دمّرت خلالها مئات الطائرات على الأرض.

دفعت نجاحات “ساس” (The British Special Air Service) هتلر إلى إصدار أوامر صارمة بإعدام أي عنصر من القوات الخاصة يقع في الأسر. وبالفعل، أُعدم عدد منهم، واعتُقل ستيرلينغ نفسه في تونس، ليقضي بقية الحرب متنقلًا بين معسكرات الاعتقال.

لكن الضربة الأشد لم تأتِ من الألمان، بل من لندن، حين قررت القيادة البريطانية حل الوحدة مع نهاية الحرب، متجاهلة ما راكمته من خبرات. غير أن هذا القرار لم يدم طويلًا، فمع تصاعد صراعات ما بعد الاستعمار، أُعيد تفعيل “ساس” عام 1947، لتتحول تدريجيًّا إلى ذراع ضاربة في عمليات بريطانيا السرية.

ومن أدغال إندونيسيا إلى أزقة بلفاست، وسّعت “ساس” سجلّها العملياتي. ففي ستينيات القرن الماضي، تسللت عناصرها سرًّا إلى أراضي كاليمنتان الإندونيسية، حيث نفذت غارات تخريبية لإحباط أي اجتياح للحدود الماليزية، في حرب غير معلنة.

أما في أيرلندا الشمالية، فقد خاضت الوحدة أطول مهمة سرية في تاريخها، عبر مطاردة خلايا الجيش الجمهوري الأيرلندي بين 1969 و2007. وعلى مدى أربعة عقود، نفذت كمائن دقيقة وعمليات مراقبة متواصلة بملابس مدنية وتنكّر محكم، لإحباط هجمات وتفجيرات واغتيالات، في مهمة تحولت إلى مختبر لتكتيكات التخفي والعمل في بيئات حضرية متوترة، ورسخت مكانة “ساس” باعتبارها ذراعا استخبارية إلى جانب دورها القتالي.

ولكي يصبح الجندي جزءًا من هذه الأسطورة، عليه اجتياز واحد من أصعب برامج الانتقاء في العالم، حيث تقل نسبة النجاح عن 10%. تبدأ الرحلة بـ”اختبار التلال” في براري ويلز، حيث يقطع المرشحون مسافات طويلة بحمولات ثقيلة في عزلة تامة، لاختبار قدرتهم على التحمل والثبات تحت الضغط. ثم يتدرجون إلى مستويات أكثر قسوة، تشمل القفز المظلي والغوص القتالي والقنص والاقتحام وجمع المعلومات والتخفي في بيئات عدائية!

كما يتدرب أفرادها على اتخاذ قرارات حاسمة في ظروف معقدة وبصورة فردية، بما يتماشى مع عقيدة الوحدة القائمة على “اقتصاد القوة”، أي استخدام أقل عدد من العناصر لتحقيق أقصى تأثير وتجنّب الاشتباكات المفتوحة غير الضرورية.

“فيمبل” الروسية.. يدٌ بلا بصمات

في أواخر الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى قوة تتجاوز حدود الوحدات التقليدية. ومن هنا وُلدت وحدة “فيمبيل” عام 1981، وهي ذراع سرية انبثقت من دمج وحدتي “زينيث” و”كاسكاد”، اللتين خبرتا العمليات المعقدة في أفغانستان.

صُممت الوحدة الجديدة لتكون قبضة ضاربة خلف خطوط العدو، قادرة على تنفيذ اغتيالات دقيقة، واستطلاع عميق، وحماية المنشآت الإستراتيجية، ومكافحة الإرهاب خارج الحدود.

لكن انهيار الاتحاد السوفياتي قلب المعادلة. تشتتت “فيمبيل” بين التبعية لجهات مدنية ومحاولات لإعادة توظيفها، قبل أن يعيدها مرسوم رئاسي عام 1995 إلى بيتها الطبيعي، تحت جناح جهاز الأمن الفدرالي الروسي (FSB). ومنذ ذلك الحين، تحولت من أداة هجومية خارجية إلى وحدة نخبوية متعددة الأدوار، تُستدعى عند المهمات التي تعجز الأدوات التقليدية عن تنفيذها.

تُجسد “فيمبيل” ذروة المهارة القتالية للقوات الخاصة الروسية. يخضع عناصرها لتدريب يستمر مدة 5 سنوات، يشمل القتال القريب، والغوص، والتسلل الجوي، ومهارات الطب الميداني، وتسلق الجبال، وتفكيك المتفجرات، والاختراق تحت الأرض أو عبر المياه.

أما تسليحها فيكشف طابعها الاستثنائي، إذ تتسلّح ببنادق القنص الصامتة “فينتوريز”، ودروع “فانت-في إم” القادرة على إعماء الخصوم بالوميض، وطائرات مسيّرة صغيرة تخترق البيوت وتستطلع الأهداف، مما يتيح لها اقتحام مواقع محصنة وتحييدها بدقة وبأقل خسائر.

ورغم تصنيفها قوةً أمنية داخلية، يكشف سجل “فيمبيل” عن امتدادات خارج الحدود الروسية. فقد نفذت عمليات نوعية مثل القبض على القائد الشيشاني سلمان رادوييف، ويُشتبه في ضلوعها باغتيال المعارض زليمخان خانغوشفيلي في برلين، وهو ما يعكس دورها في مهام استخبارية رمادية، لا تتجاوز مفهوم مكافحة الإرهاب فحسب، بل تخدم أجندة الكرملين في الخارج.

وبهذا المعنى، تمثل “فيمبيل” أحد أذرع السياسة الروسية غير المُعلنة، ضمن هندسة معقدة تمنح موسكو قدرة على الضرب تحت مستوى الحرب. فهي تنفذ عمليات لا يمكن إثبات صلة الدولة بها رسميًّا، مما يترك للكرملين هامشًا واسعًا للمناورة والنفي المعقول.

وبينما تحظى وحدة “ألفا” بشهرة إعلامية أكبر في مكافحة الإرهاب، تجسد “فيمبيل” الوجه الخفي للأمن الروسي، اليد التي تتحرك بلا بصمات، سواء في حماية منشآت نووية، أو اختراق هادئ للحدود الغربية، أو قمع تمرّد داخلي في قلب موسكو.

فلسفات الظل: كيف تعكس الوحدات السرية عقائد الدول؟

ورغم ما يبدو من تشابه بين هذه الوحدات الأربع، من حيث التسليح العالي والتدريب الصارم والمهام الحساسة، فإن الفوارق الحقيقية تكمن في الفلسفات السياسية والبيئات القانونية التي أفرزتها، والرمزية التي تؤديها في سرديات القوة الوطنية.

تسعى بعض الدول إلى شرعنة وحدات الظل ضمن منظومة قانونية مرنة، وتفضّل أخرى إبقاءها في مناطق رمادية تعفيها من الحرج وتفتح الباب أمام المناورة والإنكار (بيكسلز)

فالوحدات الأميركية، مثل “ديفغرو”، وُلدت من رحم عقيدة تدخلية تعتبر حماية المصالح والهيبة الأميركية مبررًا كافيًا للتدخل في أي مكان، حتى من دون تفويض دولي. وهي تعمل في منظومة عسكرية تشجع على المبادرة وتوفر غطاءً قانونيًّا فضفاضًا، تغذّيه بيروقراطية الاستخبارات وتُبرّره سرديات الحرب على الإرهاب.

غير أن هذا النموذج، وإن بدا فعّالًا، يثير باستمرار أسئلة أخلاقية حول الرقابة الديمقراطية، حين تتحول هذه الوحدات إلى أذرع تنفيذية تعمل خارج نطاق النقاش العام.

في المقابل؛ تجسد “ساس” البريطانية، إرث الإمبراطورية الطويل القائم على المرونة والتخفي وتكتيك “اقتصاد القوة”، أي أن القليل الفعّال خير من الكثير الفوضوي. وقد منحتها هذه الفلسفة هالة من الغموض صنعت منها قوة ناعمة في الداخل والخارج. لكنها تعمل داخل منظومة أكثر تقيُّدًا من نظيرتها الأميركية، بفعل ضغط الصحافة والرأي العام، مما يفرض عليها مستوى أعلى من الانضباط والشرعية.

أمّا “جياولونغ” الصينية، فتعكس عقل الدولة المركزية التي تتدرّب على التوسّع من دون إعلان صريح. فهي أداة سيادية لإبراز القوة تحت شعار “التدخل المسؤول”، الذي يبدو في ظاهره إنسانيا، لكنه في جوهره جزء من مشروع إستراتيجي أشمل لتكريس وجود الصين في البحار المفتوحة.

تعمل هذه الوحدة داخل بيروقراطية صارمة تخضع لرقابة الدولة وليس المجتمع، وتُستخدم أيضًا رمزا دعائيا لصورة جيش حديث لكنه منضبط، يُسوّق لنفسه باعتباره بديلًا عن النموذج الغربي المفرط في استخدام القوة.

وأمّا “فيمبيل” الروسية، فهي الوجه المجازي للعقيدة الأمنية الروسية، غموض لا يُعنى بالاعتراف أو التوثيق، بقدر ما يركز على إحداث أثر عملياتي ونفسي طويل المدى. كما يعكس تكوينها نموذجًا سلطويًّا يرى أن الأمن القومي لا يُدار بالشفافية بل بالإبهام المتقن، حيث تُترك دائمًا مساحة للإنكار، وتُصنع القوة من القدرة على أن تظل اليد بلا بصمات.

وهكذا؛ فإن الفروق بين هذه الوحدات لا تعكس مجرد أولويات أمنية أو عسكرية، بل تُجسّد فلسفة كل دولة اتجاه مفهوم “القوة غير المعلنة”. تسعى بعض الدول إلى شرعنة وحداتها ضمن منظومة قانونية مرنة، وتفضّل أخرى إبقاءها في مناطق رمادية تعفيها من الحرج وتفتح الباب أمام المناورة والإنكار. وبين هذين النّهجين، يتجلى تنوّع الأساليب التي تُدار بها حروب الظل في عالم اليوم.

شاركها.
Exit mobile version