الفاشر- في حي الدرجة الأولى بمدينة الفاشر، غرب السودان، وبين جدران منزل متواضع، يقف سليمان عبد الله سليمان (30 عاما) يحدق في حقل صغير زرعه بيديه داخل فناء منزله، يمد يده ليقطف ثمرة بامية نضجت تحت شمس الخريف، ثم ينحني ليتفقد جذور الذرة التي بدأت تتمايل مع الرياح الخفيفة.

يقول سليمان للجزيرة نت بصوت متعب “كنا نزرع لنعيش، واليوم نحصد لنقاوم، هذه الأرض الصغيرة أصبحت سلاحنا في وجه الجوع والحصار”، ويضيف وهو يشير إلى صفوف النباتات الخضراء “لم نكن نعرف كثيرا عن الزراعة، لكن الحاجة علمتنا، والحصار أجبرنا على أن نزرع الأمل قبل أن نزرع البذور”.

“زراعة البقاء”

منذ 10 يونيو/حزيران 2024، تعيش مدينة الفاشر تحت حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع، مما أدى إلى عزل مئات الآلاف من المدنيين عن العالم الخارجي، فالطرق المؤدية إلى المدينة أُغلقت بالكامل، وتوقفت الإمدادات الغذائية، ومنعت المساعدات الإنسانية، فيما بات التجويع يُستخدم كأداة ضغط لإجبار السكان على النزوح غربا.

وفي ظل هذا الواقع، لم يجد الأهالي خيارا سوى الاعتماد على أنفسهم، وتحولت الزراعة المنزلية إلى وسيلة للبقاء، حيث بدأ السكان بزراعة ما توافر من بذور في أفنية المنازل، مستخدمين مياه الأمطار وسمادا عضويا من بقايا الحيوانات.

يقول المتحدث باسم المقاومة الشعبية أبو بكر أحمد إمام، للجزيرة نت، إن عشرات المنازل في الفاشر تحولت مع بداية خريف هذا العام إلى حقول صغيرة زرع فيها السكان البامية والطماطم والذرة.

وأضاف “لم تكن الزراعة هواية، بل وسيلة مقاومة في وجه الحصار، وشبكة غذائية بديلة وسط غياب كامل للمساعدات” وتابع قائلا “الفناء الخلفي صار سوقا، والمطر موردا، والتكافل هو ما يبقينا على قيد الحياة”.

وبحسب ناشطين محليين، تُقدّر نسبة الاعتماد على الزراعة المنزلية بين السكان المحاصرين في مدينة الفاشر بنحو 60%، وهي نسبة استُخلصت من مسح ميداني أجرته فرق الإغاثة في عدد من الأحياء الغربية للمدينة، مثل الدرجة الأولى وامتداد حي أبو شوك.

ويشير الناشطون إلى أن أكثر من ألف منزل في تلك الأحياء قد تحوّل إلى مساحات زراعية، حيث يستغل السكان الأفنية الداخلية، أو البيوت المهجورة التي غادرها أصحابها خلال موجات النزوح الأخيرة.

وتُزرع في المساحات محاصيل بسيطة مثل البامية، والذرة، والملوخية، والفول، والعجور، ويعتمد فيها على مياه الأمطار والسماد العضوي المحلي، لتتحول هذه الزراعة من نشاط ثانوي إلى مصدر غذاء رئيسي، رغم محدودية إنتاجها.

ويقول محمد آدم إبراهيم، أحد أعضاء فرق الإغاثة المحلية، للجزيرة نت “رغم غياب تقديرات دقيقة لكمية الإنتاج، فإنها بالكاد تكفي لتغطية الاستهلاك اليومي للأسر، دون وجود فائض للتخزين” وأضاف “ما يُزرع اليوم يُؤكل في الغد، إنها زراعة البقاء، لا زراعة الإنتاج”.

السكان استغلوا الأفنية الداخلية والبيوت المهجورة كمساحات للزراعة (وسائل التواصل)

منازل مهجورة

ومع تعذر الوصول إلى الأراضي الزراعية خارج المدينة بسبب الحصار وانعدام الأمن، اضطر السكان إلى استغلال كل ما توافر من مساحات داخل الأحياء السكنية، بما في ذلك المنازل المهجورة التي تركها أصحابها خلال موجات النزوح الأخيرة.

هذه البيوت، التي كانت شاهدة على الفقد والرحيل، تحولت اليوم إلى حقول صغيرة تُزرع فيها الخضراوات والذرة، في محاولة يائسة لتأمين الحد الأدنى من الغذاء.

وفي حديثها للجزيرة نت، قالت فاطمة عبد الله منصور، وهي نازحة من مخيم زمزم وتقيم بحي الصحافة، إنها زرعت 3 منازل مهجورة خلال العام الجاري، بهدف توفير احتياجات أسرتها من المواد الغذائية.

وأضافت “زرعت البامية والملوخية والفول في منزل، والعدسية والدخن في آخر، نحن نزرع حيثما نجد أرضا صالحة، حتى لو كانت مهجورة أو مهددة بالانهيار”.

بدائل محدودة

في ظل الحصار، وإلى جانب الزراعة المنزلية، يعتمد سكان المدينة على مجموعة محدودة من البدائل الغذائية، بعدما توقفت الإمدادات وانقطعت المساعدات الإنسانية، وتحولت الحياة اليومية إلى معركة من أجل البقاء، ومن أبرز هذه البدائل:

  • التكايا المحلية: تُنظمها فرق الإغاثة المحلية داخل الأحياء، وتقدم وجبات جماعية مجانية، ورغم محدودية الموارد، فإن هذه التكايا أصبحت ملاذا يوميا لكثير من الأسر التي فقدت مصادر دخلها.
  • الثروة الحيوانية المحدودة: وتقتصر على الضأن والماعز التي جُلبت من مخيم زمزم، وبعض القرى خلال الاجتياح الأخير، وتُربى داخل المنازل، لكن أسعارها مرتفعة جدا، إذ يتراوح سعر الخروف الواحد بين مليون إلى 3 ملايين جنيه سوداني، بينما يُلاحظ غياب كامل للإبل والبقر، وكذلك الدجاج والحمام.
  • طحي (نبتة التملكية): وهي من النباتات البرية الواسعة الانتشار في دارفور وتنمو في فصل الخريف، وتُعرف بمذاقها الطيب وفوائدها الغذائية، تُورق الأوراق وتُغسل جيدا، ثم توضع داخل (قدرة) ويُضاف إليها قليل من الماء والملح، تُترك على النار لفترة قصيرة حتى تطهى وتحتفظ بنكهتها الطبيعية.
  • العلف “الأمباز”: في مشهد يعكس عمق الأزمة، تحول علف الحيوانات المعروف محليا باسم “الأمباز” إلى بديل غذائي يُستهلك كوجبة من قبل السكان، حيث يُغلى ويُخلط مع الذرة لتوفير وجبة مشبعة، رغم افتقاره إلى العناصر الغذائية الأساسية.
صفحة محى الدين شوقار فيسبوك مجموعة صور يظهر متطوعين من "تكية الفاشر" وهم يجهزون وجبة مكونة من الملوخية والبامية، (زراعة محلية) في إطار جهودهم اليومية لتوفير الطعام للمحتاجين
كمية الإنتاج لا تكاد تكفي لتغطية الاستهلاك اليومي للأسر دون وجود فائض للتخزين (وسائل التواصل)

“نعيش يوما بيوم”

يقول نور الدين أحمد أبكر، أحد سكان مخيم أبو شوك للنازحين شمال المدينة، للجزيرة نت “كنا نستخدم الأمباز كعلف، واليوم نأكله نحن، نغليه ونخلطه مع الذرة، لأنه لا يوجد شيء آخر”، ويضيف “لقد انعدم ملح الطعام تمامًا، لكننا نحاول التكيف، نأكل ما يتوافر، لا ما نريد”.

ورغم المناشدات المتكررة، لم تصل أي مساعدات إنسانية إلى المدينة منذ بدء الحصار، ويؤكد أبكر أن المنظمات الدولية عاجزة عن الوصول إلى الفاشر، وأن الوضع الغذائي بات كارثيا.

ويقول “ما يحدث في الفاشر ليس مجرد أزمة، بل انهيار كامل لمنظومة الحياة، الناس يزرعون في البيوت لأنهم لا يملكون خيارا آخر، لكن هذا لا يكفي، الماء شحيح، الأسمدة غير متوافرة، والأمراض بدأت تنتشر بسبب سوء التغذية”.

وفي ظل استمرار الحصار، لا تبدو هناك انفراجه قريبة، فرغم أن السكان يعتمدون على أنفسهم، فإنهم يعلمون أن الزراعة المنزلية ليست حلا دائما.

ويختم أبكر حديثه قائلا “نحن نزرع لنعيش يوما بيوم، لكننا لا نعرف ماذا سيحدث غدا، إذا توقف المطر، أو انتهت البذور، فماذا سنفعل؟”.

شاركها.