بيروت- في زيارة تحمل رسائل سياسية وأمنية واقتصادية بالغة الدقة، وصل وفد أميركي رفيع إلى بيروت، حيث التقى رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، وأجرى سلسلة مباحثات تناولت مستقبل لبنان وسط التحولات الإقليمية المتسارعة.

واعتبر الوفد لقاءه بالرئيس “مثمرا”، مؤكدا وقوف واشنطن إلى جانب الشعب اللبناني في سعيه نحو “لبنان آمن ومزدهر”، غير أن الرسائل لم تقتصر على الدعم المالي والعسكري، بل وضعت ملف سلاح حزب الله في صدارة الأولويات، معتبرة نزع السلاح خطوة “صعبة لكنها حاسمة” ترتبط بمستقبل علاقات لبنان الإقليمية وفرصه الدولية.

وأشارت رئيسة الوفد السيناتور جاين شاهين إلى أن الجيش اللبناني يمثل “الركيزة الضامنة للاستقرار”، مؤكدة التزام واشنطن بالمسار الذي “اختاره لبنان” وبالقرار “الشجاع” المتمثل في نزع سلاح حزب الله، معتبرة أن البلاد “بدأت تسلك الطريق الصحيح”.

في حين ذهب السيناتور ليندسي غراهام أبعد من ذلك، متحدثا عن عقد اتفاق دفاعي مع بيروت إذا مضت قدما في خطة نزع السلاح، لكنه شدد على أن أي تعاون أميركي سيبقى محصورا بالمؤسسة العسكرية “التي يُفترض أن تدافع عن جميع اللبنانيين، وتحظى باحترام مختلف المكونات”، مضيفا “لا يمكن مطالبة إسرائيل بأي التزامات قبل نزع سلاح حزب الله”.

السلاح أولا

وربط المبعوث الأميركي توم براك أي انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس الحدودية جنوب لبنان بملف السلاح، معتبرا حزب الله العقبة الأساسية أمام ازدهار لبنان، لكنه استدرك بأنه “لا يريد أحد الذهاب إلى حرب أهلية”.

وفي البعد الإقليمي، أشار براك إلى أن إيران لا تزال المصدر الرئيس لتمويل الحزب، كاشفا عن مساعٍ لتعويض لبنان عبر إشراك دول خليجية في مشروع منطقة اقتصادية بجنوبه، إلى جانب التوجه لتمديد ولاية قوات “اليونيفيل” لعام إضافي.

السيناتور ليندسي غراهام (وسط) يلقي بيانا بعد اجتماع مع رئيس لبنان في قصر بعبدا (الفرنسية)

من جانبه، اطّلع الرئيس جوزيف عون على نتائج زيارة الوفد الأميركي إلى إسرائيل، مؤكدا التزام لبنان بقرار وقف النار وبمضمون ورقة الإعلان المشتركة اللبنانية الأميركية، التي صادق عليها مجلس الوزراء بكامل بنودها دون أي اجتزاء.

وشدد عون على أن المطلوب اليوم هو التزام الأطراف الأخرى بمضمون الورقة، إلى جانب تعزيز دعم الجيش اللبناني، وتسريع الخطوات الدولية اللازمة لإطلاق ورشة إعادة الإعمار.

وفي السياق، أكد رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، خلال لقائه الوفد الأميركي، أن مسار حصر السلاح وبسط سلطة الدولة واحتكارها لقراري الحرب والسلم قد انطلق، مشددا على أنه لا عودة للوراء بهذا المسار.

وأوضح أن لبنان ملتزم بأهداف الورقة التي قدمها المبعوث براك بعد إدخال تعديلات عليها، مؤكدا أن أي خطوة نحو حصر السلاح يجب أن تتزامن مع إجراءات إسرائيلية، لضمان التقدم الفعلي على الأرض وتحقيق استقرار دائم.

رد مباشر

في المقابل، جاء موقف الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم، ليؤكد استمرار الحزب في نهجه المقاوم، رافعا شعار “استعادة السيادة الوطنية”، وداعيا الحكومة للعمل وفقه، مع تقديم خريطة طريق تختلف جذريا عن المسار الذي تحدده واشنطن.

وشدد قاسم، في كلمته خلال الحفل التأبيني للعلَّامة عباس علي الموسوي، الاثنين 25 أغسطس/آب، على أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه الذي يعتبره خط الدفاع الأساسي ضد العدو الإسرائيلي، وأكد أن لبنان لن يسمح لإسرائيل “بالسير بحرية في أراضيه وقتل المواطنين ومصادرة الجنوب”، مضيفا “من أراد نزع سلاحنا، يريد في الحقيقة نزع روحنا، وعندها سيرى العالم بأسنا”.

وحملت الزيارة الأميركية إلى بيروت إشارات واضحة ورؤية أكثر اكتمالا، لتؤكد أن واشنطن تربط أي دعم سياسي أو اقتصادي أو عسكري للبنان بخطوات عملية تجاه ملف سلاح حزب الله.

وفي الوقت الذي تراهن فيه الإدارة الأميركية على الدور المحوري للجيش اللبناني، يبقى السؤال الأكبر: هل تستطيع القيادة اللبنانية ترجمة هذه القرارات إلى خطوات فعلية مع اقتراب 31 أغسطس/آب؟

مواجهة الضغط

ويقول المحلل السياسي جورج علم، للجزيرة نت، إن صدق النوايا قد يشير إلى أن الزيارة تحمل أبعادا سرية، حيث تتضمن شروطا إسرائيلية على لبنان، تمهيدا لبدء انسحاب إسرائيلي أو لتخفيف تصعيدها العسكري.

وأكد أن الخطوة الأولى المطلوبة هي الاطلاع على الخطة التنفيذية التي تعدها قيادة الجيش اللبناني، والتي ستخضع للمناقشة مع الجيش ومع أميركا.

وأضاف علم أن إسرائيل لم تقدم حتى الآن أي خطوة ملموسة على الأرض، مشيرا إلى أنه كان متوقعا أن يعود المبعوث الأميركي باراك من إسرائيل بخطوة محددة، ولو مؤقتة، كوقف الاعتداءات أو بدء الانسحاب من النقاط الاستراتيجية، إلا أن الواقع أظهر عدم وجود أي مؤشرات على ذلك.

وتساءل علم عن قدرة لبنان على مواجهة هذا الضغط الأميركي والإسرائيلي، مؤكدا أن الإجابة مرتبطة بطبيعة المؤسسات الرسمية، من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء ورئاسة البرلمان وما يتبعها من أجهزة رسمية.

من جهته، يرى الكاتب والباحث السياسي الدكتور علي أحمد أن زيارة الموفدين الأميركيين إلى لبنان، من حيث الشكل والمضمون، تعكس فقدان جزء كبير من السيادة اللبنانية.

ويضيف للجزيرة نت أن “اللقاءات التي جرت منذ الأمس وحتى اليوم، واللغة التي استُخدمت في التعاطي مع شخصيات لبنانية وشريحة من المواطنين، حملت في طياتها استعلاء أميركيا واضحا”.

ويصف أحمد ما صدر عن السيناتور الأميركي بالأخطر، حيث صرّح بوضوح أن إسرائيل لن تنسحب ولن تقدم أي تنازلات، بما يعني ضمنيا أن المطلوب من لبنان أن يستسلم للإرادة الأميركية والإسرائيلية، ويفقد بذلك قراره وسيطرته، وهو أمر -يراه أحمد- في غاية الخطورة.

آلية عسكرية إسرائيلية تتمركز عند الحدود اللبنانية (رويترز)

حلقة مفرغة

ويعتبر المحلل السياسي توفيق شومان، في حديثه للجزيرة نت، أن زيارة توم باراك هذه المرة لم تحمل جديدا فيما يخص الضمانات بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان أو الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة.

ويشير شومان إلى أن الرد الإسرائيلي في هذا الصدد يقتصر على الانتظار لرؤية الخطوات التي سيتخذها لبنان، ثم تقرير ما ستفعله تل أبيب لاحقا، ما يعكس استمرار “الحلقة المفرغة” التي تعني، وفق تحليله، أن واشنطن وتل أبيب متفقتان على تحميل لبنان تبعات الأزمات.

ويضيف شومان أن الجديد في هذه الزيارة يتعلق بتصريحات براك حول المنطقة الاقتصادية في جنوب لبنان وهي نقطة مثيرة للجدل، فهذه المقترحات تثير تساؤلات حول حجم هذه المنطقة، والغرض من إقامتها، وما إذا كانت تشكل محاولة لتطبيع اقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي.

كما يثير طرح المنطقة الاقتصادية احتمال بناء مشاريع على أنقاض القرى والبلدات المدمرة في الجنوب، بما قد يعني تهجير الأهالي من أراضيهم المحاذية لفلسطين المحتلة.

ويختم شومان بالقول إن هذا الطرح يمثل أخطر ما كشف عنه الأميركيون حتى الآن، لما يحمله من تداعيات سياسية وأمنية على لبنان والمنطقة.

شاركها.
Exit mobile version