غزة- كانت أميرة سالم، الطفلة ذات الأعوام الخمسة، ترقد على سرير بلا فراش في أحد مراكز الإيواء بقطاع غزة. جسدها الصغير مغطى بالبثور والالتهابات، ووجهها النحيل يشي بآلام لا تحتملها روح بريئة في مثل عمرها.
تجلس أمها إلى جوارها تراقبها بعينين دامعتين، وهي تردد بصوت متقطع “لم أعد أتحمل رؤية طفلتي بهذه الحال، تغطي جسدها بثور متقرحة، ولا تفارقها الحرارة العالية”.
الحياة في الخيام لا ترحم، والحرارة المرتفعة تزيد معاناة النازحين. فبينما تحاول الأم تبريد جسد ابنتها بقطعة قماش مبللة، تتضاعف البثور يوما بعد آخر، لتتحول إلى تقرحات لا دواء لها.
يقول الأطباء إن الحالة تحتاج مضادا حيويا ومرهما جلديا خاصا، لكن الأم اصطدمت بحقيقة فراغ رفوف الصيدليات منه، في ظل استمرار إغلاق الاحتلال للمعابر، واستمرار الحصار الذي يخنق كل شيء ويطال حتى الحق في العلاج.
في الليل، لا تستطيع الطفلة النوم من شدة الحكة. تنهش الحرقة جلدها حتى تسيل قروحها دما، بينما أمها تحاول أن تمنعها من الحكة عبثا. وتقول للجزيرة نت “كل ما أريده هو دواء، دواء فقط.. ابنتي تنهار أمام عيني”.
ووفق ما رصدته الجزيرة نت، فإن انتشار التهابات الطفح الجلدي البكتيرية في قطاع غزة ليس مجرد حالات فردية متفرقة، بل بات ظاهرة وبائية تهدد حياة النازحين، خاصة الأطفال الذين يعيشون في ظروف بالغة القسوة.
وتوثق المنظمات الصحية المحلية مئات الحالات الجديدة يوميا، فيما يشير الأطباء إلى أن غياب الأدوية ونقص المستلزمات الطبية فاقم الأزمة إلى حد خطير.
كارثة جماعية
أصيب محمد ناصر، شاب في العشرينيات من عمره، قبل أسابيع ببثور ملتهبة انتشرت على يديه وقدميه بعد أيام طويلة من المبيت مع أسرته في خيمة ضيقة قرب شاطئ بحر خان يونس. حاول تجاهل الألم في البداية، لكنه ما لبث أن وجد نفسه عاجزا عن الحركة.
يذكر ناصر للجزيرة نت، أن الأمر بدأ باحمرار بسيط في الجلد، ظنه من الحر أو من النوم على الأرض، لكن سرعان ما تحول الاحمرار إلى بثور ممتلئة بالصديد، وأصبح لا يستطيع إمساك شيء بيديه.
نُقل ناصر إلى مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، حيث اضطر الأطباء إلى فتح البثور جراحيا وتنظيفها. لكن الألم لم يتوقف عند ذلك.
ويضيف الشاب “كل يوم يزداد الوضع سوءا. الأطباء يقولون لا توجد أدوية، فقط تنظيف الجروح ومحاولة السيطرة على الالتهاب. أنا خائف أن تصل العدوى إلى الدم”.
أما الطفل رائد عبد العالي (4 أعوام) فقد امتلأت ذراعه ببثور كبيرة وملتهبة. والده يجلس إلى جواره في المستشفى يحاول تهدئته بينما يصرخ من الألم كلما حاول الأطباء تنظيف جروحه.
يقول الأب إن ابنه فقد القدرة على النوم منذ أيام، فكل جسده يحترق من الحكة، والبثور تنفجر واحدة تلو الأخرى. وقد حمله والده إلى الصيدليات كلها، كما قال، لكن لم يجد أي مرهم أو مضاد حيوي.
ويتابع خلال حديثه للجزيرة نت، أن الطبيب أخبره أن الحالة قد تتفاقم وتصل إلى فشل في وظائف الجسم إن لم يتوفر العلاج اللازم. “لكن من أين آتي به؟ المعابر مغلقة، والدواء غير موجود”، يضيف متحسرا.
الوضع يتفاقم
الطبيب الصيدلي الفلسطيني ذو الفقار سيرجو، يملك صيدلية خاصة في مدينة غزة، ويصف المشهد بمرارة “تبدأ الحالات بتهيج جلدي واحمرار في مناطق متعددة من الجسم، خاصة أسفل الرقبة وتحت الإبط. ثم تنتشر إلى الوجه وأجزاء أخرى، ويصبح الجلد خشنا وتظهر بثور صديدية مؤلمة”.
ويضيف خلال حديثه للجزيرة نت، أن هذه الأعراض تتفاقم مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة والعيش في الخيام وغياب المياه النظيفة. موضحا أن الأطفال هم الأكثر عرضة، لأنهم لا يستطيعون العناية بأنفسهم.
وتتوافد عشرات حالات الطفح الجلدي يوميا على صيدلية ذو الفقار، أملا في الحصول على الدواء، لكنه يعجز عن مساعدتهم. ويقول إن الأمر خطير جدا، وقد يؤدي إلى وفيات أو تسمم دموي بسبب غياب العلاج، ولا تملك الصيدليات شيئا لتقدمه للمواطنين.
ويوضح ذو الفقار أن المنظومة الصحية عاجزة تماما، وأكثر من 90% من الأدوية اختفت من الصيدليات، خصوصا المضادات الحيوية والمراهم الجلدية. وباتت المراكز الصحية شبه خالية، والصيدليات الخاصة لا تجد ما توفره.
أما مدير عام مستشفيات وزارة الصحة في غزة الدكتور محمد زقوت، فيرسم صورة أكثر تفصيلا عن حجم الكارثة. يقول إن الإصابات بالتهابات الطفح الجلدي البكتيرية أصبحت منتشرة بشكل كبير جدا بين النازحين، خصوصا الأطفال وحتى الكبار، ونصف الحالات التي تصل إلى مراكز الرعاية الأولية يوميا مرتبطة بهذه الالتهابات.
ويضيف، في تصريح للجزيرة نت، أنه من أصل 400 إلى 500 حالة يوميا تصل إلى كل مركز، نحو 200 حالة منها تعاني من الطفح الجلدي والتهاباته معتبرا أن الرقم صادم ويعكس حجم الكارثة.
ويوضح أن الأسباب تتمثل في الازدحام الشديد في المخيمات، وانعدام المياه النظيفة، والارتفاع الشديد لدرجات الحرارة، وغياب أدوات النظافة، ثم الأمر يزداد سوءا بسبب سوء التغذية وضعف المناعة عند الأطفال والكبار، مما يقلل فرص الشفاء.
إبادة صحية
لكن غياب الأدوية هو ما يجعل الأطباء في مواجهة مستحيلة. يقول زقوت “لا تتوافر المراهم اللازمة ولا المضادات الحيوية الموضعية. نضطر أحيانا إلى إعطاء مضادات حيوية عبر الفم أو حتى إدخال المرضى للمستشفى لإجراء عمليات فتح جراحية للبثور وتنظيفها”.
ويؤكد أن الالتهابات الجلدية خطر على المجوعين وأنه تم رصد حالات دخلت العناية المركزة، بل حتى حالات وفاة بسبب تسمم الدم وفشل وظائف الجسم، نتيجة تفاقم هذه الالتهابات لدى مرضى سوء التغذية وضعف المناعة.
ووفق زقوت، فالمستشفيات نفسها لم تعد قادرة على الاستيعاب، والمرضى يضطرون للمبيت على فرُش يحضرونها من خيامهم. بعضهم يتلقى العلاج في الممرات أو الساحات، بسبب امتلاء الأسرة.
ويتابع “طالبنا المؤسسات الدولية بإنشاء مستشفيات ميدانية جديدة، والضغط على الاحتلال لإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية. لكن حتى الآن لا استجابة، والوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم”.
ويختم الطبيب بنداء للعالم يقول فيه “نحن نواجه إبادة صحية. كل ما نطالب به هو حقّنا في العلاج، الحق البسيط الذي يكفله القانون الدولي والإنسانية. على العالم أن يتحرك فورا قبل أن تتحول هذه الأزمة إلى مجزرة صامتة بحق شعبنا في غزة”.