مدينة غزة، قطاع غزة- يسير هاني أبو رزق في شوارع مدينة غزة المدمرة وقد ربط حجرين على بطنه، بينما يقطع الحبل ملابسه التي أصبحت فضفاضة بسبب ما فقده من وزن.
يبحث الشاب البالغ من العمر (31 عاما) بيأس عن طعام ليطعم به والدته وأشقاءه السبعة، بينما يضغط الحجران على بطنه، وهي وسيلة قديمة لم يكن يتخيل يوما أنه سيحتاج إليها.
يقول بصوت خاو من الإرهاق: “إننا نتضور جوعا”.
ويضيف، وعيناه تتابعان المارة: “حتى كلمة ‘تجويع’ لا تفي بوصف ما نشعر به جميعا”.
يُحكم ربط الحبل حول خصره، في حركة أصبحت روتينية كالتنفس.
“لقد عدت إلى ما كان يفعله الناس في العصور القديمة، ربط الحجارة على بطني في محاولة لإسكات جوعي. هذه ليست مجرد حرب. إنها مجاعة متعمدة”.
تلاشي نبض الحياة في غزة
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كان الطعام هو نبض الحياة اليومية في القطاع.
كانت الأيام في غزة تُبنى حول وجبات جماعية، إفطار من الزعتر وزيت الزيتون اللامع، وغداء من المقلوبة والمسخن التي تملأ البيوت بالدفء، وأمسيات تُقضى حول صواني الأرز واللحم الطري والسلطات الموسمية التي تتلألأ بالأعشاب من الحدائق.
يتذكر أبو رزق تلك الأيام بألم شخص يندب الموتى.
كان هذا الشاب الأعزب يحب تناول الطعام والتجمعات مع العائلة والأصدقاء. يتحدث عن غرف طعام مريحة كانت تُعرض فيها الولائم المنزلية كأنها لوحات فنية، وأمسيات مليئة بالحلويات والمشروبات المتبلة التي تبقى نكهتها على الألسنة وفي الذاكرة.
![الخبز يصبح حلما بعيد المنال للفلسطينيين في غزة 1 Hani Abu Rizq on Gaza’s shores before the war [Courtesy of Hani Abu Rizq]](http://khaleejtopics.com/wp-content/uploads/2025/08/يبلاابى-1754294911.webp)
يقول وهو يشير بيديه إلى أكشاك السوق الفارغة التي كانت تفيض بالمنتجات ذات يوم: “الآن، نشتري السكر والملح بالغرام”.
“حبة طماطم أو خيار هي ترف، حلم. أصبحت غزة أغلى من عواصم العالم، ونحن لا نملك شيئا”.
على مدى ما يقرب من 22 شهرا من الحرب، انخفضت كمية الغذاء في غزة بشكل كبير. ظل القطاع المحاصر تحت رحمة إسرائيل الكاملة، التي قيدت الوصول إلى كل شيء من الطحين إلى غاز الطهي.
ولكن منذ الثاني من مارس/آذار، انخفضت المواد الإنسانية والأساسية المسموح بدخولها إلى مستوى مخيف. منعت إسرائيل تماما دخول جميع المواد الغذائية من مارس/آذار إلى مايو/أيار، ومنذ ذلك الحين لم تسمح إلا بدخول الحد الأدنى من شحنات المساعدات، مما أثار إدانة دولية واسعة النطاق.

مشاهدة الأطفال يتألمون
وفقا لوزارة الصحة في غزة، توفي ما لا يقل عن 159 فلسطينيا -90 منهم من الأطفال والرضع- بسبب سوء التغذية والجفاف خلال الحرب حتى يوم الخميس.
ويحذر برنامج الأغذية العالمي من “مجاعة شاملة” تنتشر في جميع أنحاء القطاع، بينما تفيد اليونيسيف بأن واحدا من كل 3 أطفال دون سن الخامسة في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد.
فداء حسان، ممرضة سابقة وأم لـ3 أطفال من مخيم جباليا للاجئين، تعرف علامات سوء التغذية.
تقول للجزيرة من مأوى عائلتها النازحة في غرب غزة: “لقد درستها. الآن أراها في أطفالي”.
يستيقظ طفلها الأصغر، حسن البالغ من العمر عامين، كل صباح وهو يبكي طالبا الطعام، يسأل عن خبز غير موجود.
تقول: “احتفلنا بعيد ميلاد كل طفل من أطفالي بحفلات لطيفة (قبل الحرب) باستثناء.. حسن. بلغ عامه الثاني قبل عدة أشهر، ولم أستطع حتى أن أقدم له وجبة لائقة”.
وتضيف أن ابنها فراس البالغ من العمر (10 سنوات) تظهر عليه علامات واضحة لسوء التغذية الحاد، والتي تتعرف عليها بوضوح مؤلم.
قبل الحرب، كان منزلها يضج بالحياة حول أوقات الوجبات. تتذكر: “كنا نأكل 3 أو 4 مرات في اليوم”.
“كان الغداء وقتا للتجمع. وكانت أمسيات الشتاء مليئة برائحة شوربة العدس. كنا نقضي فترات ما بعد الظهيرة في الربيع في إعداد ورق العنب المحشي بعناية فائقة”.
“الآن نحن.. ننام جائعين”.

تقول وهي تحمل حسن وجسده الصغير يرتجف: “لا يوجد طحين، لا يوجد خبز، لا شيء يملأ بطوننا”.
“لم نأكل لقمة خبز منذ أكثر من أسبوعين. كيلو الطحين يكلف 150 شيكلا (40 دولارا)، ولا يمكننا تحمل ذلك”.
كان حسن يبلغ من العمر 6 أشهر عندما بدأ القصف. الآن، في الثانية من عمره، لا يشبه طفلا سليما في مثل عمره إلا قليلا.
حذرت الأمم المتحدة مرارا وتكرارا من أن الحصار الإسرائيلي والقيود المفروضة على المساعدات الإنسانية تخلق ظروف مجاعة من صنع الإنسان.
وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن جزءا ضئيلا فقط من 600 شاحنة من المواد الغذائية والإمدادات المطلوبة يوميا في غزة، في الظروف العادية، هو ما يدخل. وقد وضع نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي شمال غزة في المرحلة الخامسة: كارثة/مجاعة.
ووسط انعدام الأمن، تخضع المساعدات الإنسانية القليلة المسموح بدخولها إلى غزة للعصابات والنهب، مما يمنع المحتاجين من الوصول إلى الإمدادات الشحيحة.
علاوة على ذلك، قُتل مئات من طالبي المساعدات اليائسين برصاص الجنود الإسرائيليين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات إنسانية مقدمة من الولايات المتحدة وإسرائيل منذ مايو/أيار.
الوفرة ذكرى بعيدة
تحتضن هالة محمد (32 عاما)، ابنها قصي البالغ من العمر 3 سنوات في مأوى مكتظ لأحد الأقارب في حي الرمال بمدينة غزة، وهي تصف كيف تضطر لمشاهدته وهو يبكي من الجوع كل صباح، وصوته الصغير ينكسر.
تقول، وذراعاها تلتفان بحماية حول الطفل الذي لم يعرف سوى الحرب في معظم حياته: “لا يوجد طحين، لا يوجد سكر، لا يوجد حليب”.
“نخبز العدس كالعجين ونطبخ المعكرونة سادة فقط لملء بطوننا. لكن الجوع أقوى”.
هذا أمر مدمر لشخص نشأ في ثقافة غزة الغنية بالكرم والضيافة وعاش حياة مريحة في حي التفاح.
قبل أن يجبرها النزوح وزوجها على الفرار غربا مع قصي، كانت كل مناسبة تستدعي وجبات لطيفة، ولائم رأس السنة، وتجمعات عيد الأم، وحفلات أعياد ميلاد زوجها وحماتها وقصي.
تقول: “الكثير من ذكرياتنا صُنعت حول وجبات مشتركة. الآن أصبحت الوجبات هي الذكرى”.
تواصل، وصوتها يتهدج: “ابني يطلب الطعام وأنا فقط أحتضنه. المجاعة تنتشر كالسرطان، ببطء وصمت وبلا رحمة. الأطفال يذوون أمام أعيننا. ولا نستطيع أن نفعل شيئا”.
———————————————————————————–
- نُشرت هذه المادة بالتعاون مع Egab.