بعد معارك استمرت يومين داخل محافظة السويداء مع فصائل درزية موالية للشيخ حكمت الهجري، تخللها تدخل إسرائيلي إلى جانب هذه الفصائل، قرر الرئيس السوري أحمد الشرع سحب قوات الجيش والأمن من المحافظة بالكامل، معلنا في كلمة مسجلة للسوريين فجر الخميس أنه اتخذ هذا القرار للحفاظ على وحدة البلاد وتجنيبها حربا مفتوحة مع إسرائيل.

وأكد الشرع أن الانسحاب جاء في إطار اتفاق مع جهات محلية في السويداء تقضي بتكليف بعض الفصائل المحليّة ورجال دين دروز “مسؤولية حفظ الأمن” في المحافظة. ونقلت الوكالة الفرنسية عن مقاتلين حكوميين على أطراف المحافظة أن “القوات الحكومية أنهت انسحابها فجرًا” يوم الخميس 17 يوليو/تموز الجاري.

وأسفرت معارك السويداء عن وضع البلاد عند منعطف ودرس وصفه خبراء بالخطير، وبينما رأى البعض في الخطاب الرئاسي وقرار الانسحاب خطوة لا بد منها لتجنيب البلاد مزيدا من التدمير، اعتبر معلقون وناشطون أن ما جرى هزيمة مكتملة الأركان للدولة السورية مقابل مسلحي السويداء وداعميهم الإسرائيليين، ملقين باللوم على الحكومة في إدارتها للموقف برمته.

الشرع: اخترنا تغليب المصلحة الوطنية

في 14 يوليو/تموز، قررت إدارة الرئيس الشرع إرسال الجيش وقوات الأمن الداخلي إلى محافظة السويداء لإنهاء اقتتال محلي بين فصائل درزية محسوبة على الهجري وبين مسلحين من البدو أشعله خطف سائق شاحنة على طريق السويداء دمشق، وتطور إلى عمليات خطف متبادلة ثم اشتباكات عنيفة بين الطرفين أودت بحياة العديد من الأشخاص.

وقوبل التدخل الحكومي بترحيب بعض الفصائل الدرزية الموالية لدمشق، ولكنه ووجه بالرفض من قبل الهجري والمجلس العسكري الموالي له فشنوا هجوما وزرعوا كمائن لقوات الجيش السوري مدعومين بتدخل جوي إسرائيلي واسع طال مركبات عسكرية وأسلحة ثقيلة، وحتى مبنى قيادة الجيش بالعاصمة دمشق، والذي لحقت به أضرار كبيرة إثر غارة إسرائيلية عنيفة بجانب غارة أخرى استهدفت محيط القصر الرئاسي.

وقال الشرع إنّ الموقف كان بين خيارين، إما “مواجهة مفتوحة مع إسرائيل على حساب أمن الدروز.. وإما فسح المجال لوجهاء ومشايخ الدروز للعودة إلى رشدهم، وتغليب المصلحة الوطنية على من يريد تشويه سمعة أهل الجبل”.

وبينما شدّد الرئيس على أنّ الدولة غلّبت مصلحة السوريين في تجنب الدمار، قال إنّها نجحت بإعادة الاستقرار و”طرد الفصائل الخارجة عن القانون في السويداء، رغم التدخلات الإسرائيلية” متعهدا بحماية المواطنين الدروز ومحاسبة كل من أساء لهم ورفض أي مسعى يهدف إلى جرهم لطرف خارجي أو إحداث انقسام.

ووجه الرئيس السوري خطابه لإسرائيل بقوله “لسنا من يخشى الحرب” مؤكدا أن “الكيان الإسرائيلي يسعى منذ سقوط النظام البائد لتحويل أرضنا لأرض نزاع وتفكيك شعبنا”.

وأضاف “نحن أبناء هذه الأرض والأقدر على تجاوز محاولات الكيان الإسرائيلي لتمزيقنا، فسوريا ليست ساحة تجارب لمؤامرات خارجية وأطماع الآخرين”.

إسرائيل تقصف مبنى هيئة الأركان السورية في دمشق (الجزيرة)

أول خطاب خشن تجاه إسرائيل

يعد حديث الشرع عن عدم الخشية من الحرب، والاستعداد لها، التصعيد الأول من نوعه في اللهجة الدبلوماسية تجاه إسرائيل، في صورة تعكس تململا سوريا -فيما يبدو- من تعنت إسرائيلي راسخ وتمسك برؤية سوريا ممزقة، كما أعلن مسؤولون إسرائيليون مرارا.

وكان الرئيس السوري وأركان حكومته قد أرسلوا مرارا -منذ دخول قوات ردع العدوان إلى دمشق في 8 ديسمبر/كانون الثاني، عقب هروب رئيس النظام المخلوع بشار الأسد- برسائل تطمين إلى إسرائيل عبر الإعلام وعبر جهات إقليمية ودولية بشأن عدم نيتهم تغيير قواعد الاشتباك أو مضمون اتفاق فصل القوات المعمول به مع إسرائيل منذ عام 1974، رغم إعلان الأخيرة إنهاء الاتفاق من طرف واحد، بالتزامن مع توغل الجيش الإسرائيلي -عقب سقوط نظام بشار- في المنطقة العازلة بالجولان السوري المحتل.

ومع كل انتهاك إسرائيلي لأجواء سوريا واستهداف الأصول العسكرية لجيشها بعد تغيير النظام، كانت دمشق تعبر عن إدانتها، لكنها تتمسك بالتهدئة، وتواصل تقديم الضمانات لإسرائيل بعدم العمل على استهدافها، بل واتخذت خطوات للتعبير عن حسن النوايا، مثل إعادة متعلقات الجاسوس الإسرائيلي الأشهر في سوريا إيلي كوهين إلى إسرائيل، والدخول في مسارات تفاوض متعددة برعاية أطراف إقليمية ودولية، أملا في إرساء اتفاق يعيد إحياء اتفاق فصل القوات لعام 1974.

ولكن حسابات الحكومة السورية، فيما يتعلق بالسويداء تحديدا، واجهت تحديات أكثر تعقيدا مع تأكيد إسرائيل سابقا أنها ستمنع دخول القوات الحكومية وأي أسلحة ثقيلة تابعة لها إلى هذه المحافظة وعموم الجنوب السوري. إلا أن الهدوء -الذي ساد الموقف قبل التطورات الأخيرة وخوض مفاوضات مباشرة معها، بجانب تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك بشأن وحدة سوريا- تسبب بقراءة خاطئة للموقف من قبل دمشق، بحسب ساسة ومحللين.

Smoke billows on the horizon during Israeli strikes near in the predominantly Druze city of Sweida on July 15, 2025, following clashes between Bedouin tribes and Druze fighters. Israel launched strikes on July 15 against Syrian government forces in the Druze-majority region of Sweida, saying it was acting to protect the religious minority. (Photo by Bakr ALKASEM / AFP)
قصف إسرائيلي على السويداء (الفرنسية)

إسرائيل وتخدير الموقف الأميركي لدمشق

مع إقرار الرئيس الشرع أن إسرائيل سعت لتقويض وقف إطلاق النار في السويداء، لولا وساطة أميركية وعربية وتركية، رأى المفكر السياسي السوري برهان غليون أن الإسرائيليين “نصبوا فخا لسوريا” في ضوء الأحداث الأخيرة.

وأوضح غليون -في حديث تلفزيوني- أن الإسرائيليين “أعطوا الانطباع في البداية بأنهم لن يتدخلوا فيما يتعلق بملف السويداء، لكنهم في النهاية قلبوا المسألة إلى تحقيق أهدافهم التي كانت واضحة من قبل، لكنهم خففوا الحديث عنها مؤخرا، وهي تقسيم سوريا وتفكيكها وعدم السماح لها بأن تتحول إلى دولة ذات سيادة قادرة على حماية شعبها والدفاع عن مصالحه”.

وبحسب المفكر السوري، فإن ما حدث كان على الأغلب ردا من قبل إسرائيل على فشلها في انتزاع التنازلات التي كانت تأمل بانتزاعها من الحكومة السورية الراهنة، وذلك بعد تسريبات تفيد بأن الشرع رفض مطلبا بالسماح لإسرائيل بالاستمرار في تنفيذ عمليات عسكرية في البلاد بحرية بموجب اتفاق محتمل.

وقال غليون إن الإسرائيليين لم يواجهوا القوات السورية في السويداء بعد دخولها فحسب، بل استغلوها لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالسويداء والدروز، وهي كسر إرادة الدولة الجديدة، وإظهار ضعفها أمام شعبها وأمام القوى التي ليست راضية عن الوضع، وتقويض مصداقيتها الدولية، معقبا بالقول “هذا ما لم تستطع السلطة توقعه منذ البداية ويبدو أن كلام المبعوث الأميركي خدرها”.

هزيمة وفشل حكومي

في رؤية تذهب أبعد مما ذهب إليه غليون، رأى ناشطون ومحللون أن ما جرى في السويداء، مع قرار سحب القوات السورية النظامية بالكامل من المحافظة، هو هزيمة كاملة للدولة وأجهزتها تعبر عن فشل حكومي في التعامل مع مجمل الموقف، لا سيما مع تداول مقاطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي تظهر ارتكاب عناصر حكومية انتهاكات واسعة.

ومن جانبه اعتبر الكاتب والباحث السوري أحمد أبا زيد أن ما جرى “هزيمة كاملة، للدولة والشعب والوطن، وفشل كامل، عسكري وأمني وسياسي، وخطأ في اتخاذ قرار بلا دراسة تداعياته وإمكانية النجاح فيه، وخيانة كاملة ممن استقوى بإسرائيل وأجرم وكرّس العزلة والانقسام”.

ودعا أبا زيد في منشور على صفحته في فيسبوك إلى “مساءلة الأسباب” مضيفا “لم تكن الكارثة ولا موت مئات الشهداء وانقسام المجتمع حتمية تاريخية ولكن نتيجة قرارات ومسار متراكم لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد”.

بيان من مجلس السويداء العسكري
بيان من مجلس السويداء العسكري (الجزيرة)

ويستند أبا زيد ومحللون آخرون في رأيهم إلى ما بدأ يتكشف بعد ساعات من خروج القوات الحكومية من السويداء، حيث بدا (رجل الدين الدرزي) الهجري المنتصر الأكبر، مع ورود تقارير عن قيام المليشيات الموالية له بتهجير البدو من حي المقوس في المدينة، بالتوازي مع صدور بيان عن الرئاسة الروحية بقيادته تدعو لفتح معبر حدودي مع الأردن وطريق باتجاه المناطق التي تسيطر عليها ما تسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرق سوريا.

ونشر الناشط السياسي السوري الدرزي ماهر شرف الدين صورة له مع الهجري في مضيفته وعلق عليها بالقول “قبل قليل في قنوات.. يدا بيد مع قائد النصر” في إشارة إلى الهجري.

ومن جهته، ركز عبد الرحمن الحاج الكاتب والباحث السوري رئيس مشروع موقف الذاكرة السورية المعنية بتوثيق أحداث الثورة السورية على قضية الانتهاكات التي ارتكبها عناصر حكومية في السويداء، قائلا “لم يعد مقبولا وجود مجموعات غير منضبطة، صارت صورة الدولة على المحك في الداخل والخارج، هذا أمر يمكن تفهمه من الجميع في الأشهر الأولى لإعادة بناء الجيش، لكن لا يمكن قبول ذلك بعد الآن”.

وقال الحاج في منشور له على صفحته في فيسبوك “يجب أن يكون كل حدث درسا، وهذا أحد الدروس الخطيرة لنا” داعيا السلطات الحكومية إلى إظهار الجدية اللازمة للمحاسبة.

بدء انسحاب قوات الجيش العربي السوري من السويداء تطبيقا للاتفاق المبرم بين الدولة السورية ومشايخ العقل في المدينة، وبعد انتهاء مهمة الجيش في ملاحقة المجموعات الخارجة عن القانون.
لقطات من انسحاب قوات الجيش السوري من السويداء تطبيقا للاتفاق مع مشايخ العقل بالمدينة (سانا)

نضج سياسي ودليل ثقة

في المقابل، يرى محللون آخرون أن تعهد الرئيس الشرع بمحاسبة المتورطين في انتهاكات ضد مدنيين في السويداء خيار صحيح، وعدّوه تعبيرا عن قوة الدولة لا ضعفها.

وقد اعتبر الكاتب والسياسي السوري وائل مرزا أن رئاسة الجمهورية اختارت “ممارسة أعلى درجات الانضباط السياسي والأخلاقي، بإدانة واضحة لأي انتهاكاتٍ تطال المدنيين، وبالتعهد الرسمي بالتحقيق والمحاسبة”.

ويضيف مرزا وهو رئيس معهد العالم للدراسات “لا يأتي هذا التصرف ضعفاً أو ارتباكاً، كما قد يتوهم البعض، وإنما هو علامة نُضجٍ سياسيّ ودليل ثقةٍ بالنفس، يؤكّد أن الدولة السورية -وهي تخوض معركةَ تثبيت الاستقرار وسيادة القانون- لا تحتاج إلى التغطية على الأخطاء، ولا إلى التجاهل أو التبرير”.

وفي هذا السياق، فإن الموقف الرسمي، في ظل هذا التوقيت الصعب والمؤلم، يُرسل -بحسب مرزا- رسالةً مزدوجة أولها إلى السوريين جميعاً بأن دولتهم لا تساوم على العدالة، ولا تختبئ خلف العواطف حين يتعلق الأمر بحقوقهم. وثانيها إلى القوى المعادية بأن من يمتلك زمام المبادرة الأخلاقية والسياسية هو الأقدر على صناعة مستقبلٍ مستقرٍّ ومستحق.

شاركها.