في غزة لم يُترك شيء للمصادفة، فلم تُقصف المستشفيات لأن الصواريخ ضلت الطريق، ولم تُستهدف الكنائس لأن جيش الاحتلال أخطأ التقدير، ولم يُقتل الصحفيون لأن المعلومات الاستخبارية لم تكن دقتها كافية، وكذلك لا يجوع الأطفال في غزة لأن واقع الحرب المأساوي يفرض ذلك، فقد أصبح ما يجري جليًا ولا يكاد يحتمل الشك: إسرائيل تفعل كل ذلك عمدا وهي تستخدم التجويع سلاحَ إبادة تحت مرأى ومسمع العالم.

وعلى الرغم من فداحة الجريمة في غزة، فإن هذا النوع من المأساة لم يبدأ هناك، والأكيد أنه لن ينتهي فيها. صحيح أن غزة بكثافة العدوان ضدها والتواطؤ المخزي على التطبيع معه رغم كل الأضواء المسلطة عليه تمثل حالة استثنائية، لكن تلك “الجريمة العلنية والصارخة” تمثل جرس إنذار بأن القتل الجماعي قد يكون مستقبلا مشتركا للبشر جميعا.

اقرأ أيضا

list of 2 items

  • list 1 of 2تاريخ مختصر للانحطاط البشري.. حين يصبح المستوطن مؤرخًا
  • list 2 of 2ماذا تعرف عن القاتل الأعمى الإسرائيلي الموجه لإبادة غزة؟

end of list

غالبا ما تعتمد مبررات القتل الجماعي على مفاهيم الدفاع عن النفس والأمن القومي ومواجهة التهديدات الوجودية المُتصوَّرة، التي تتجذر في المعتقدات الأيديولوجية المتطرفة التي تشرعن العنف ضد الآخر. وانطلاقا من هذا الفهم نسعى إلى التعمُّق في فهم الإبادة الجماعية من خلال نهج متعدد الجوانب يسعى لسبر أغوار فعل الإبادة واستكشاف أبعاده وتداعياته المختلفة.

الخطير في غزة تحديدا، وقد استمرت الإبادة فيها ما يقرب من 24 شهرا وما يزيد على 700 يوم، هو التطبيع مع العنف الممنهج.

ويشير التطبيع، في سياق الإبادة الجماعية، إلى العملية التي اعتاد بموجبها النظام الدولي والمجتمعات، لا سيَّما العربية، على العنف المروع والتدمير المنهجي الذي يحدث هناك، مما يسمح للحياة بالاستمرار كالمعتاد رغم هذه الفظائع، ويجعل الإبادة الجماعية المستمرة، مع التجويع، وقتل الأطفال والنساء، وقطع المياه والكهرباء، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وتدمير أحياء وعائلات بأكملها، تبدو كلها وكأنها أمر طبيعي يجري في خلفية الحياة الاعتيادية.

إعلان

وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن اعتبار ما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2023 مؤشرًا على مستقبل يتعايش فيه العالم مع المآسي الناجمة عن الصراعات والحروب؟​ وهل أصبح القتل الجماعي جزءًا لا يتجزأ من واقعنا المشترك ومستقبلنا؟

الإبادة الجماعية.. باعتراف منظمة إسرائيلية

على مدار عامين تقريبا، عبَّرت العديد من التصريحات الصادرة عن صناع القرار الإسرائيليين والقادة العسكريين والمثقفين والإعلاميين عن نيات إبادة جماعية واضحة.

وقد نقلت هذه التصريحات وجهة نظر مشتركة مفادها أن معظم سكان قطاع غزة، أو جميعهم، مسؤولون عن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو يدعمونها، وهو ما يراه المسؤولون الإسرائيليون سببا لمحاربتهم جميعا.

إن نزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني يعتبر شرطا أساسيا لتنفيذ الإبادة الجماعية وممارسة العنف. وقد لوحظت هذه الممارسة منذ الأيام الأولى للاستيطان الصهيوني ضد السكان الفلسطينيين ضمن عملية شاملة استهدفت التطهير العرقي والتهجير.

ويُفصِّل تقرير “إبادتنا الجماعية” الذي أصدرته مؤسسة بتسليم في يوليو/تموز 2025، وهي منظمة حقوق إنسان إسرائيلية تعمل مع الفلسطينيين والإسرائيليين، عدة سمات بارزة للإبادة الجماعية التي يتعرَّض لها الفلسطينيون.

وتُبرز هذه السمات نية العدوان ونطاقه وتأثيره، إضافة إلى آليات تنفيذه، وتكمُن أهمية التقرير في أنه لأول مرة تصف مؤسسة إسرائيلية ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية. صحيح أن الإقرار تأخَّر أكثر من 20 شهرا، لكنه يظل يكتسب أهمية بالغة في ظل إجماع الإسرائيليين على تجاهل وإنكار ما يجري في غزة.

عشرات آلاف الإسبان في شوارع مدريد يهتفون لمقاطعة إسرائيل (الجزيرة)

ويُسلِّط التقرير الضوء على نطاق وخطورة الجرائم التي تُرتكب ضد الفلسطينيين، ويؤكد أن النظام الإسرائيلي يتصرف بنية منسقة وواضحة لتدمير المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة.

ويستنتج هذا القصد من إدراك القيادة الإسرائيلية للعواقب المدمرة لسياساتها المتمثلة في إطلاق النار دون تمييز، والتجويع المُتعمَّد والتدمير المُمَنهج للبنية التحتية المدنية، وقرار بمواصلة الهجوم وتصعيده مع إفشال محاولات الوصول إلى تسويات وصفقات مع المقاومة أكثر من مرة.

“وحش البحر” من سفر الرؤيا

ويصف التقرير القيادة الإسرائيلية الحالية، التي تدعمها أغلبية عنصرية متطرفة، بأنها تشبه “وحش البحر” من سفر الرؤيا، الذي يُجسِّد سِمات أعنف الحيوانات ويتفوق عليها في الوحشية. والقتل على نطاق واسع والإصابات الجماعية سمة ثانية، ففي 23 يوليو/تموز 2025، أفادت وزارة الصحة في غزة بمقتل ما لا يقل عن 64 ألف فلسطيني، من بينهم أكثر من 18 ألف طفل، وإصابة 160 ألفا آخرين، منذ بدء العدوان في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقد وصف تقرير آخر عن صناعة السلاح في كندا وعلاقتها بالإبادة في غزة طائرة إف-35 المقاتلة صراحة بأنها “أداة ذبح” لسكان غزة، حيث إن وصفها بالدقة “تعبير مُلطف قاسٍ” حسب التقرير، عندما تكون الأهداف هي المنازل ومخيمات اللاجئين والأسر الهاربة والمدنيين.

وتحمل هذه الطائرات تسعة أطنان من القنابل والصواريخ التي تُستخدم لتدمير الأحياء وتنفيذ عمليات اغتيال في المناطق المكتظة بالسكان، حتى في المناطق الآمنة المُخصصة للمدنيين. ويتضمَّن القصف المتواصل استخداما مُمنهَجا لقنابل “GBU-31” الخارقة للتحصينات التي تزن حوالي 950 كيلوغراما، مما يجعل الموت الجماعي نتيجة مُدبَّرة.

إعلان

ومن الأمثلة الواضحة هُنا مجزرة المواصي يوم 13 يوليو/تموز 2024، وهي منطقة مُصنّفة “منطقة آمنة” كما يُفترض، حيث أسقطت طائرة إف-35 ثلاث قنابل “GBU-31″، مما أسفر عن مقتل 90 فلسطينيا على الأقل وإصابة 300 آخرين، حيث أصابت القنابل خياما ومطبخا للطعام ومحطة لتحلية المياه.

وأفاد شهود عيان أن طائرات رباعية الدفع أطلقت النار على المُسعفين. وقد أدان الأمين العام للأمم المتحدة هجوم المواصي، مشيرا إلى أن استخدام مثل هذه الذخائر الثقيلة في منطقة مكتظة بالسكان يشير إلى “نمط من الانتهاك المُتعمَّد” للقانون الإنساني الدولي.

نسف أسس الحياة في غزة

وقد سَعَت القيادة الإسرائيلية إلى جَعل غزة منطقة غير قابلة للحياة بتدمير واسع النطاق للنظام الصحي، مما أدى إلى وفيات في الرضع والأجنة، ونقص في حليب الأطفال (وصفه طبيب متطوع في مستشفى ناصر بأنه سبب إضافي لوفاة الأطفال الحديثي الولادة)، وزيادة بنسبة 300% في معدلات الإجهاض. كما أن واحدة من كل ثلاث حالات حمل تُعَد عالية الخطورة، وواحدة من كل خمس ولادات إما مبكرة أو تلِد طفلا منخفض الوزن.

وقد منعت إسرائيل أو قيَّدت أو أعاقت دخول الإمدادات الطبية الحيوية (مثل الأدوية ومسكنات الألم وأجهزة التنفس الصناعي)، وتسبَّبت في نهب جزء من الإمدادات المسموح بها قبل وصولها إلى وجهتها. كما فرض الجيش الإسرائيلي حصارا ونفَّذ غارات على المستشفيات بدعوى خدمتها أغراض حماس العسكرية، وهو ادعاء ذكر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أنه لم يكن مدعوما بأدلة كافية في معظم الحالات ويتناقض مع القانون الدولي.

كما دمَّر الاحتلال الغذاء والزراعة، حيث أدت القيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي الزراعية والعنف المتزايد من جانب المستوطنين إلى جعل العمل الزراعي، وخاصة حصاد الزيتون، شبه مستحيل.

وقد شهدنا زيادة حادة في انعدام الأمن الغذائي بين الأسر في الضفة، حيث احتاج ما لا يقل عن 700 ألف شخص إلى مساعدات غذائية في الضفة الغربية بحلول عام 2024 (وهي زيادة بنسبة 100% عن العام السابق)، كما أطلق جنود الاحتلال ومرتزقة أميركيون النار على أكثر من ألفي فلسطيني في مراكز توزيع الغذاء التي أنشأتها منظمة غزة الإنسانية مما أدى إلى مقتلهم.

يُضاف إلى ذلك تدمير البنية التحتية، فأكثر من 85% من المدارس في غزة تعرَّضت للضرر، أما ما بقي منها فتحوَّل إلى ملاجئ، لكن يجري تدميره على رؤوس أولئك الذين لجؤوا إليه، ومعظمهم من النساء والأطفال والمدنيين العُزَّل.

يعيش سكان غزة إذن تحت قصف مستمر، ويبحثون عن ملاذ آمن “لم يعد موجودا فوق الأرض”، حيث تحول كل شبر من الأرض إلى أهداف للاحتلال. وقد أدى الهجوم إلى حالة من الفوضى على نطاق واسع وتفكك النسيج الاجتماعي، حيث انقلب الناس على بعضهم في صراع من أجل البقاء، وظهرت عصابات إجرامية مسلحة في ظل الفراغ الأمني ودعمتها إسرائيل.

أضف إلى ذلك أن الاحتلال شنَّ هجوما على الصحافة المحلية، مما أسفر عن مقتل 160 صحفيا بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، ومعظمهم أثناء تأدية عملهم وارتداء ستراتهم التعريفية، مما يجعل الهجوم الإسرائيلي على غزة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين في العقود الثلاثة الماضية، وهو استهداف يكشف سِمة أخرى من سمات الإبادة وهي الرغبة في التحكُّم في السرد.

تترك تجربة السجن أثرا عميقا في أجساد وأرواح السجناء، وقد أبلغ العديد منهم عن معاناتهم من أهوال بدنية ونفسية مستمرة بسبب سوء المعاملة في مراكز الاحتجاز. وقد وثَّقت منظمات حقوق الإنسان انتهاكات شديدة وسادية، وتعذيبا وضربا، واغتصابا في السجون الإسرائيلية، ووصفتها بأنها “انتقام سادي من نظام عنصري بغيض ومريض”.

إعلان

هذه السمات مجتمعة ترسم صورة شاملة للطبيعة المنهجية والمتعمدة للأفعال التي تشكل الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، لكن السؤال الذي يجب أن ننشغل به هو فهم السر وراء إدامة هذه الإبادة واستمرارها حتى الآن ولا يبدو أن لنهايتها وقتا معلوما. فقد وافق الكابينت الإسرائيلي الخميس 7 أغسطس/آب 2025 على احتلال مدينة غزة، ومن المتوقع أن يتحقق هذا في مدى خمسة أشهر أو سنة أخرى على الأقل من القتل الجماعي، من أجل بسط هيمنة الاحتلال كاملة على القطاع.

الرأسمالية والإبادة

وتتشابك هياكل السلطة والمصالح الاقتصادية تشابكا عميقا في إدامة الصراع ونزع الإنسانية والاستفادة منهما، كما يتضح من مفهوم نانسي فريزر “الرأسمالية آكلة لحوم البشر”، حيث يلتهم هذا النظام بطبيعته مصادر دعمه غير الاقتصادية، بما في ذلك الأرواح البشرية والصلاحيات العامة، لتغذية تراكُم الثروات عن طريق نزع الإنسانية عن فئات سكانية محددة واستغلالها.

وتعمل هذه الدينامية بالمصادرة الهيكلية وإزالة الطابع الإنساني، إذ تعتمد الرأسمالية على السكان “القابلين للانتهاك بطبيعتهم”. وترى نانسي فريزر أن الرأسمالية تعتمد هيكليًّا على الاستيلاء القسري على الثروة من الشعوب المُستعبدة والأقليات، وهي “سمة ضرورية هيكليا ومستمرة للرأسمالية”.

وترتبط هذه العملية ارتباطا وثيقا بالقمع العنصري الإمبريالي، حيث تُصنَّف الشعوب على أساس عرقي على أنها قابلة للانتهاك بطبيعتها، وتُحرَم من الحماية السياسية والقانونية، مما يجعلها عُزَّلا و”هدفا مشروعا للمصادرة مرارا وتكرارا”. ونزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، الذي ينعكس في مصطلحات مثل “دون البشر” و”الحيوانات”، هو شرطٌ ضروريٌّ لتنفيذ الإبادة الجماعية على يد الاحتلال. وهذا يسمح بأعمالٍ مثل حملة الإبادة الجوية ضد الفلسطينيين وتدمير الأحياء ومُخيمات النازحين.

يَصِف مفهوم “رأسمالية الموت” لعالم الاجتماع والفيلسوف الألماني رالف دارِندورف، مرحلة من الرأسمالية حيث يصبح الموت والمعاناة البشرية سلعة أساسية للتبادل والاستهلاك. ويزدهر هذا النظام في ظل مناخ من “الكفاءة المفرطة، يُشبه الداروينية الاجتماعية، حيث يُبادَل موت الآخرين كأنه سلعة”. والصراع في غزة، مثل الحرب في أوكرانيا، مورد رئيسي للشركات العاملة في قطاع السلاح، مما يسمح لها “باختبار المعدات والخدمات العسكرية في مواقف قتالية فعلية”.

وقد أظهرت دراسة صدرت في يوليو/تموز 2025 لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الأميركية، أنه بين عامي 2020 و2024، تلقَّت خمس شركات كبرى عقودا بقيمة 2.4 تريليون دولار من وزارة الدفاع (البِنتاغون)، وهو حوالي 54% من إجمالي الإنفاق التقديري للوزارة البالغ 4.4 تريليونات دولار في تلك الفترة. وقد حصلت هذه الشركات الخمس مجتمعة (لوكهيد مارتن وبوينغ وآر تي إكس وجنرال ديناميكس ونورثروب غرومَّان) على المبلغ الذي يفوق بكثير مبلغ 356 مليار دولار المُخصَّص لميزانية الدبلوماسية والتنمية والمساعدات الإنسانية الأميركية (باستثناء المساعدات العسكرية) في الفترة ذاتها.

وتشير الدراسة إلى أن هذا الحجم الهائل من الإنفاق لا تستفيد منه شركات الأسلحة “الخمس الكبرى” التقليدية فحسب، بل أيضا “قطاع التكنولوجيا العسكرية الناشئ”.

وقد استفادت صناعة الأسلحة الأميركية بشدة من الزيادة الكبيرة في مبيعات الأسلحة المرتبطة بالحروب في أوكرانيا وغزة. ويوضح هذا كيف أن أولوية الإنفاق العسكري تمتد إلى الصراعات الدولية. وتستخدم شركات الدفاع الإسرائيلية، مثل شركة إلبيت سيستمز، حرب غزة صراحة “حقلا لتجارب تطوير أنظمة الأسلحة”، ثم تُسوِّق هذه التقنيات “المُجرَّبة في القتال” للعملاء الدوليين، ومن ثمَّ “تستفيد من ذبح الفلسطينيين”، مما يُوضِّح كيفية استغلال المعاناة وتحويلها إلى سلعة لتحقيق مكاسب اقتصادية.

ومن ثمَّ تستغل الرأسمالية السلطات العامة وتسعى إلى “تفريغها” من صلاحياتها ومسؤولياتها، مما يُقلل من قدرة الدول على حماية سكانها.

 

التعتيم الإعلامي

تنخرط الحكومات في “عمليات تعتيم وتحريف منهجية” لإرباك الرأي العام وإقناعه بأنها لا تدعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. ففي كندا مثلا، سمحت الخدع الإعلامية للشركات الكندية بمواصلة الاستفادة من الإبادة الجماعية، بينما ضلَّلت الحكومة الكندية مواطنيها عبر إيهامهم بأنها لم تعد تُسلِّح قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، حيث تستخدم مزاعم إرسال سلع عسكرية “غير قاتلة” لتضليل الرأي العام لا أكثر. وفي حين تدعم الحكومات الغربية إسرائيل، فإنها في الوقت نفسه تقمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، باستخدام اتهامات معاداة السامية لإسكات المنتقدين، ولذا يمتد نوع من الرقابة الذاتية إلى المثقفين والسياسيين والبرلمانيين.

إعلان

وتُتهم كندا، كما ورد في تقرير الأسلحة، بانتهاك التزاماتها بموجب معاهدة تجارة الأسلحة وقانون تصاريح التصدير والاستيراد الخاص بها، وذلك بمواصلة التدفُّق المباشر للسلع العسكرية المصنوعة في كندا إلى إسرائيل، رغم الخطر الكبير جراء استخدامها في انتهاكات إجرامية للقانون الإنساني الدولي. وقد دعا خبراء الأمم المتحدة مرارا وتكرارا إلى فرض حظر كامل على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل.

وتُعَد الشركات الكندية متكاملة بعُمق مع المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي، حيث تُوفِّر مكونات أساسية للأنظمة العسكرية القاتلة مثل طائرة إف-35. ويشمل ذلك شحنات الرصاص وقطع غيار الطائرات وأنظمة الرادار ومكونات الحرب الإلكترونية، مما يُمكِّن إسرائيل مباشرة من القدرة على ارتكاب جرائم حرب.

وترى فريزر أن الأزمة العامة التي تواجهها الرأسمالية هي “تشابك هائل من الخلل والهيمنة”، إذ إن هذه الأزمات، بما في ذلك عجز الرعاية الاجتماعية للأطفال، والتدمير البيئي، وتقويض السلطة العامة، متشابكة بشكل لا ينفصم مع الإمبريالية والقمع العنصري.

باختصار، تُديم هياكل السلطة والمصالح الاقتصادية الإبادة ونزع الإنسانية عن طريق إنتاج طبقة من الرعايا “القابلين للانتهاك” هيكليا بنزع ملكيتهم وحقوقهم بالكلية، وتسليع المعاناة والموت من أجل الربح، وتقويض المساءلة الديمقراطية والقانون الدولي بشكل نشط عن طريق التعتيم الحكومي والتكامل العميق للمجمعات العسكرية الصناعية. وتسمح هذه الدينامية النظامية لرأس المال بالتهام حياة البشر، والرفاهية الاجتماعية، والصلاحيات العامة، مستفيدةً بذلك من العنف الممنهج والظلم المستمرين.

إن ما يجب أن نهتم به إذن بعد شيوع العنف الممنهج والإبادة المستمرة، هو كيف أن الأنظمة الاقتصادية العالمية، المدفوعة بمنطق رأسمالي، والمدعومة بقوى سياسية منخرطة في التعتيم والتواطؤ؛ تختزل البشرية بشكلٍ منهجي في فئات من الكائنات القابلة لاستخراج الربح منها أو إجراء التجارب عليها. وتُعدُّ هذه العمليات ضرورية لنزع الصفة الإنسانية بما يساعد على تمكين وإدامة العنف والاستغلال الذي يشهده المجتمع المعاصر.

لا ينبغي أن يُنظر إلى الإبادة الجماعية في غزة على أنها حدث معزول، بل بوصفها نتيجة معقدة لقوى تاريخية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية مترابطة بعمق، وكثير منها تفاقم بسبب التحولات العالمية المعاصرة وأزمة الرأسمالية العالمية. ووفق هذه الرؤية، يمكن النظر إلى الإبادة الجماعية في غزة بالتحديد من خلال ستة ملامح.

سِتة ملامح للإبادة في غزة

أول هذه الملامح هو المشروع الاستيطاني الاستعماري وتطوره إلى اقتصاد إبادة جماعية، حيث إن الوضع في غزة متجذر في مشروع استيطاني استعماري تضمَّن تاريخيا نزع ملكية السكان الأصليين لأجل مصالح اليهود التجارية. وقد تحوَّل هذا المشروع الآن من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية، مما يعني أن الفظائع المستمرة ليست مجرد نتيجة، بل مشروع مُربح للعديد من الكيانات.

وقد استفادت العديد من الكيانات التجارية، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة وشركات التكنولوجيا وشركات البناء وموّردو الطاقة والشركات الزراعية وتجار التجزئة والمؤسسات المالية، من الاحتلال الإسرائيلي والحملة الحالية في غزة ومكّنتهما. ويرتبط هذا بالأنماط التاريخية التي اعتمدت فيها الرأسمالية على الاستغلال ونزع الصفة الإنسانية لتأمين الموارد والسلطة.

ثاني ملمح هو نزع الصفة الإنسانية بشكل منهجي والتحكُّم في الروايات القائمة، فالعنصر الأساسي الذي يسمح بارتكاب هذه الفظائع هو نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وتصويرهم على أنهم أقل من البشر.

ويتحقق ذلك عبر التلاعب باللغة، مثل استخدام مصطلحات إرهابيين أو مخربين لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرير العنف، وعبر السيطرة على الرواية السائدة، حيث تعمل إستراتيجية الدعاية الصهيونية التي يطلق عليها “الهسباراه” على تشكيل الرأي العام العالمي بتقديم رواية إسرائيلية، مع قمع أو تشويه الروايات المضادة، وأشهر أسلوب لذلك هو تسليط الضوء على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، دونما تتبُّع للسياق التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي.

يُضاف إلى ذلك التعاطف الانتقائي، بالتركيز على معاناة الإسرائيليين مع التقليل من الخسائر والمعاناة بين المدنيين الفلسطينيين أو تجاهلهما، علاوة على قمع المعارضة، باتهام منتقدي السياسات الإسرائيلية بأنهم معادون للسامية لإسكات المعارضة، مما يؤدي إلى إلغاء الفعاليات والرقابة الأكاديمية والاعتداءات الجسدية على الناشطين المؤيدين للفلسطينيين.

الملمح الثالث هو انهيار النظام الدولي القائم على القواعد، حيث تشير أحداث غزة إلى نهاية النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.

ويتميَّز هذا الانهيار بتآكل الثقة في المؤسسات الدولية، حيث تُظهِر الحكومات والجهات الفاعلة القوية، خاصة في ظل نهج مثل نهج ترامب، ازدراء للمؤسسات المتعددة الأطراف والمعايير الدولية (مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية)، مُفضِّلة الإجراءات الأحادية الجانب والعلاقات التبادلية القائمة على الصفقات.

وتشيع حاليا المعايير المزدوجة، حيث تُقدِّم الحكومات الغربية الدعم العسكري والسياسي غير المشروط لإسرائيل، مدفوعة بالذنب التاريخي (مثل ألمانيا نتيجة الهولوكوست)، والمصالح الجيوسياسية، والعلاقات الاقتصادية (خاصة مع صناع السلاح الكبار في الولايات المتحدة)، وتحيُّزات مثل الإسلاموفوبيا والعنصرية المعادية للعرب. ويستمر الدعم حتى عندما تُدان أفعالها بوصفها جرائم حرب أو إبادة جماعية.

ويكشف الصراع كذلك عن هشاشة رواية “نهاية التاريخ” التي سادت بعد الحرب الباردة، وافترضت انتصارا عالميا للديمقراطية الليبرالية، ويسلط الضوء على انهيار الأطر التقليدية لفهم التقدم والحوكمة، مما يؤدي إلى انتشار حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار.

الملمح الرابع هو ظهور حروب الهوية، إذ يجري تأطير الصراع في غزة من قطاعات في الخطاب الغربي والإسرائيلي على أنه حرب لأجل الهوية، مما يعكس اتجاها عالميا أوسع، حيث يتحدى مفهوم “الدولة الحضارية” نموذج الدولة القومية التقليدي.

وتعطي هذه الدول الأولوية للهوية الثقافية والتاريخية على الحدود السياسية أو القانونية، مما يؤدي إلى صراعات على أسس أيديولوجية وحضارية. ويتجلى هذا في تصور إسرائيل لنفسها بوصفها مدافعا عن “العالم المتحضر”.

تأتي الجغرافيا السياسية التفاعلية بوصفها ملمحا خامسا، فقد أثر نهج دونالد ترامب في السياسة الخارجية في طبيعة النظام الدولي، حيث يُحرِّكه شعار “أميركا أولا” مع التركيز على الصفقات الاقتصادية والمعاملات الثنائية بدلا من التحالفات الطويلة الأجل أو حقوق الإنسان.

ويؤثر هذا في الديناميات الإقليمية والعالمية، وغالبا ما يعطي الأولوية للمكاسب الاقتصادية الفورية والشراكات الإستراتيجية على المعايير الدبلوماسية التقليدية أو اعتبارات حقوق الإنسان، مما يُمكِّن الأنظمة الاستبدادية بشكل غير مباشر ويُساهم في عدم الاستقرار الإقليمي.

أخيرا الملمح السادس، وهو ديناميات العالم العربي والتواطؤ الحاصل، فمن الضروري التطرق أيضا إلى العوامل الموجودة داخل العالم العربي، التي تساهم في استمرار الإبادة في غزة، ومنها التقاعس الملحوظ من جانب الأنظمة العربية، رغم الغضب الشعبي، إذ يُنظَر إلى العديد من الحكومات العربية على أنها تعطي الأولوية “لمصالحها الذاتية” و”للبقاء في السلطة” على حساب إيقاف الإبادة.

هناك أيضا الضغوط الاقتصادية والإرهاق الاجتماعي، إذ يواجه المواطنون العرب صعوبات اقتصادية شديدة وقيودا على حرياتهم، مما يؤدي إلى الشعور بالإرهاق والعجز الذي قد يطغى على إلحاح القضية الفلسطينية.

يُضاف إلى ذلك التكيُّف المعرفي والتباعد الاجتماعي، حيث بدأ قطاع من الجمهور العربي يُظهر انفصالا نفسيا، وينظر إلى الضرر المادي المباشر للإبادة الجماعية في غزة على أنه بعيد ولا يؤثر فيهم مباشرة، مما يقلل من الضرورة الأخلاقية للتصرف.

العنف آلة من أجل الرِبح

يتخذ العنف اليوم أشكالا متعددة، من الحروب التقليدية بين الدول، إلى الحروب الأهلية، وصولا إلى العنف المسلح المرتبط بالجريمة المنظمة. وتشير هذه الأشكال مجتمعة إلى أن القتل الجماعي أصبح ظاهرة عالمية. ورغم الزيادة الهائلة في قتل المدنيين والنزوح القسري المرتبط بالنزاعات المسلحة عالميا، فإن الحماية الممنوحة لهم تتراجع.

ويرسم الأمين العام للأمم المتحدة صورة قاتمة في تقريره السنوي الصادر في مايو/أيار الماضي. وفي الوقت نفسه، أصبحت الوسائل الدولية المعتادة لحل النزاعات غير فعالة أكثر من ذي قبل. ولذلك، من الضروري تسجيل التغييرات المهمة في حالات النزاع بصورة منهجية وعاجلة، وإعادة ضبط أساليب حماية السكان المدنيين على هذا الأساس.

لا تحظى الهجمات الواسعة النطاق على المدنيين في الحروب الدائرة في قطاع غزة وأوكرانيا والسودان باهتمام دولي إلا نادرا. ومع ذلك، فإنها تُشير إلى تطور مفزع، فقد ازداد عدد الصراعات العنيفة وشدتها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.

ففي عام 2023، شهد العالم صراعات عنيفة أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، كما ارتفعت معدلات القتلى الإجمالية. وبين عامي 2021 و2024، كانت الأرقام هي العليا منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. وباستثناء الإبادة الجماعية، يُمثل هذا أعلى عدد من القتلى في الصراعات العنيفة منذ بدء جمع البيانات عام 1989.

في الواقع، فإن عدد قتلى النزاعات في السنوات الأخيرة أعلى بكثير مما كان عليه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، لكن تظل غزة نقلة نوعية كبرى عما سبقها، مما يكشف عن بُعد جديد في تأثير النزاعات العنيفة في المدنيين، سيكون له ما بعده.

شاركها.
Exit mobile version