قبل أكثر من 6 عقود من الآن، وتحديدا في عام 1964، جرى اصطياد 5 دلافين وتدريبها لتصبح أبطال 3 مواسم متتالية في برنامج تلفزيوني أميركي يُسمى “فليبر (Flipper)”. حقق البرنامج شعبية كبيرة، وأصبحت الدلافين تحظى بمحبة الأطفال الأميركيين. في الوقت نفسه تقريبا، أصبح الدلفين، هذا الكائن البحري الذي جُسّد بصورة ودودة ممتعة ومسلية خلال برنامج فليبر، بطلا لمغامرة أخرى أكثر إثارة في معامل وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه”.

بذلت وكالة المخابرات المركزية الأميركية قصارى جهدها لتصبح الدلافين جزءا من نظام تسلحها في الحرب الباردة. هذا ما كشفته وثيقة رُفعت عنها السرية جزئيا من وثائق عام 1976 حول تدريب الدلافين البحرية للأهداف العسكرية والاستخباراتية لأغراض جمع المعلومات من المناطق الساحلية، وربما أكثر من ذلك.

ليست الدلافين فقط التي حاولت أجهزة المخابرات الدولية استغلالها وتوريطها في صراعاتها، فلم تنجُ العديد من المخلوقات غير البشرية، سواء أكانت تعيش في البر أو البحر أو الجو، من محاولات استغلال الجيوش وأجهزة المخابرات الدولية.

خلال الحرب العالمية الأولى، حاول الجيش البريطاني تدريب طيور النورس على التبرز على مناظير الغواصات الألمانية، لإعاقة الرؤية لدى طواقم الغواصات. لم تكن تلك المحاولة ناجحة تماما، بعكس توظيف الحمام المُدرب على حمل رسائل مشفرة عبر خطوط القتال، حيث كان لدى الجيش البريطاني زهاء 20 ألف طائر في الخدمة بحلول عام 1918.

خلال الحرب العالمية الثانية، عرف العالم الاستخدام المنظم وواسع النطاق للكلاب في الكشف عن الألغام والمتفجرات وغيرها من المهام الحسية، وهي ممارسة لا تزال قائمة إلى اليوم. وخلال حرب فيتنام بدأت البحرية الأميركية في برنامجها لتدريب الثدييات البحرية الذي ظل مغلفا بإطار من السرية حتى مطلع التسعينيات. ولا تزال البحرية الأميركية إلى اليوم تدير برنامجا خاصا لـ”خدمة الحيوانات” مقره في القاعدة البحرية في سان دييغو، بكاليفورنيا، حيث تقوم الحيوانات البحرية المدربة بدوريات في المياه المحظورة وتفتش عن الأجسام المشبوهة.

وللغرابة، لم تَسْلم الحشرات من محاولات تجنيد أجهزة الاستخبارات. يشير تقرير صادر عام 1972 إلى مساعي مختبرات الجيش الأميركي استغلال “القدرات الحسية للحشرات” مثل بق الفراش والبعوض والقراد للكشف عن الأشخاص. ولا تزال العديد من أجهزة الاستخبارات حول العالم تستثمر في برامج لتدريب الحيوانات وتوظيف قدراتها الحسية للأغراض العسكرية والاستخباراتية.

في أغسطس/آب عام 2015، نقلت تقارير صحفية أن حركة حماس الفلسطينية اكتشفت أن الإسرائيليين استخدموا الدلافين في التجسس (شترستوك)

“القطط” عملاء لـ”سي آي إيه”

في الواقع، اشتهرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بمحاولاتها المستميتة للإبداع في التجسس في الستينيات. وقد تجلت وحشية هذه المحاولات وقسوتها خلال عملية عُرفت باسم “القطة الصوتية” (Acoustic Kitty). وكما كتب “توم فاندربيلت”، الكاتب الأميركي، لمجلة “سميثسونيان (smithsonianmag)” آنذاك: “بهدف التجسس على خصوم الحرب الباردة، نشرت الحكومة الأميركية عملاء غير بشريين، مثل الغربان والحمام وحتى القطط”.

تشير المجلة إلى أن هذا المشروع لم يكن قطّ موضوع جلسة استماع في الكونغرس، إلا أن بعض الوثائق والمصادر من داخل أروقة الاستخبارات تشير إلى أن المشروع كان حقيقيا. فقد اعتقدت وكالة المخابرات الأميركية أنه في ظل التدريب المناسب، يمكن أن تتحول القطط ببعض الجهد إلى “جواسيس”. أرادت الوكالة أيضا استغلال سمة “الفضول” في القطط، والتي لن تجعل أي شخص يشك في وجود قطة في مكان ما.

بُنيت الخطة على افتراض أن قطة موصولة بأسلاك لتسجيل الصوت سيمكنها بسهولة أن تكون قادرة على القدوم والذهاب دون أن يلاحظها أو يشك فيها أحد، وباستخدام الإشارات الصوتية، يمكن التحكم فيها لتتحرك وتصل إلى المكان الذي يمكنها فيه تسجيل الأصوات المطلوبة، مثل المحادثات بين القادة السوفيات.

لم يكن إنشاء قطة عالية التقنية مهمة بسيطة أو سهلة في عصر التسجيل الصوتي البدائي وأجهزة الحاسوب التي كان يصل حجمها إلى حجم غرفة، ويزيد من صعوبة الأمر هنا أنه يجب أن تظل القطط تبدو قططا طبيعية بدون نتوءات غريبة أو ندوب تثير الشكوك.

لتحقيق هذا، قامت وكالة المخابرات المركزية بإنشاء جهاز إرسال يبلغ طوله 3/4 بوصة لوضعه في قاعدة جمجمة القط بشكل جراحي، وحينما تقوم القطط بالتسلل ستتمكن الأجهزة المزروعة في جسد القطة من التنصت على الأنشطة المطلوب مراقبتها.

تمت الإشارة إلى المشروع ذاته من قبل “جيفري تي ريتشلسون”، المؤلف الأميركي والباحث الأكاديمي الذي تخصص في دراسة كيفية جمع المعلومات الاستخباراتية، في كتابه “سحرة لانغلي” (The Wizards of Langley)، وهو أول كتاب يؤرخ لجهود وكالة المخابرات المركزية الأميركية المكثفة لاستغلال العلم والتكنولوجيا لأغراض التجسس.

ويقدر أن الوكالة الأميركية ضخت حوالي 10 ملايين دولار في تصميم القطط الأولى وتشغيلها وتدريبها ضمن المشروع، لكن المشكلة الكبرى التي واجهها المسؤولون هنا هي أنه لم يكن هناك طريقة لضبط حركة القطط أو تقييدها بالشكل المرغوب، حيث كانت القطط تتجول عندما تشعر بالملل أو التشتت أو الجوع.

عولجت مشكلات الجوع لدى القطة من خلال عمليات جراحية أخرى. تشير التقديرات إلى أن نفقات الجراحة والتدريب الإضافية أدت إلى رفع التكلفة الإجمالية إلى 20 مليون دولار.

كل هذه التكاليف والتدريبات والجهود جعلت المسؤولين يظنون أن القطة جاهزة أخيرا لبدء تنفيذ مهمتها في العالم الحقيقي، وعندما حان وقت بدء المهمة، أطلق عملاء وكالة المخابرات المركزية سراح عميلهم من مؤخرة شاحنة وشاهدوه بفارغ الصبر وهو ينطلق في مهمته. اندفعت القطة تجاه السفارة، لكن ما حدث لم يكن ليخطر ببال رجال المخابرات، فقبل أن تصل القطة إلى السفارة اصطدمت بسيارة أجرة عابرة وماتت قبل أن تبدأ في تنفيذ مهمتها المرجوة.

ألغت وكالة المخابرات المركزية الأميركية المشروع في النهاية، ووفقا لوثائق منقحة جزئيا في أرشيف جامعة جورج واشنطن، خلصت الوكالة إلى أنه على الرغم من جهد وخيال أصحاب فكرة استخدام القطط في التجسس، لن يكون من العملي الاستمرار في محاولة تدريب القطط لأغراض التجسس نظرا لصعوبته وتكلفته المرتفعة، فضلا عن عوائده غير المضمونة في نهاية المطاف.

اعتقدت وكالة المخابرات الأميركية أنه يمكن أن تتحول القطط ببعض الجهد إلى “جواسيس”(شترستوك)

تجنيد الدلافين

لا يقف الأمر عند القطط، ففي أغسطس/آب عام 2015، نقلت تقارير صحفية أن حركة حماس الفلسطينية اكتشفت أن الإسرائيليين استخدموا الدلافين في التجسس. وفقا للتقارير الفلسطينية، فإن الاحتلال الإسرائيلي قام بتجنيد حيوان مائي أليف، وهو الدلفين، وثبّت معدات تصوير وأجهزة تجسس على ظهره.

وكما أشرنا لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم خلالها الدلافين في التجسس، ففي ستينيات القرن الماضي، أظهرت الوثائق أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية بحثت في استخدام الدلافين من أجل “اختراق الموانئ” والتجسس على خصومها. وللمفاجأة، لم تقتصر مهمات الدلافين على التجسس فقط، فقد استخدمتها البحرية الأميركية سابقا في عمليات إزالة الألغام.

أكثر من ذلك، حاول المسؤولون الأميركيون استخدام دلافين قارورية الأنف لشن هجمات تحت الماء ضد سفن العدو. كانت هناك أيضا اختبارات حول ما إذا كانت الدلافين يمكنها حمل أجهزة استشعار لرصد الغواصات النووية السوفياتية أو البحث عن آثار أسلحة مشعة أو بيولوجية من المنشآت القريبة.

جاء خلال وثيقة منشورة على موقع “سي آي إيه” بتاريخ الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1964 تحت عنوان “مشروع أوكسي غاز” (Project Oxygas) القول: “أنفقت الوكالة والبحرية قدرا كبيرا من الوقت والمال في تطوير المشروع لكن النتائج المتحققة كانت “هامشية” في أحسن الأحوال.

على سبيل المثال، قد تتجاوز تكلفة توصيل السباحين والمعدات المتخصصة وحدها سنويا نحو 5 ملايين دولار، والنتيجة ليست مرضية بدرجة كافية. ورغم ذلك، أكدت الوثيقة أن “التقدم في العملية يشجع على إيلاء المزيد من الانتباه لهذا المشروع. ورغم أنه لا يمكن توقع أن يحل الدلفين محل الرجل في الماء تماما، فلربما كان باستطاعة الدلفين أن يوفر جزءا كبيرا من جهودنا البشرية”.

بحلول عام 1967، كانت “سي آي إيه” تنفق مئات الآلاف من الدولارات على 3 برامج استخباراتية، تشمل تدريب واستخدام الدلافين والطيور والقطط والكلاب ليصبحوا عملاء. في السياق ذاته يذكر تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية أن البحرية الأميركية دربت الدلافين وأسود البحر منذ حرب فيتنام، بوصف ذلك جزءا من برنامج استخدام الثدييات البحرية، حيث دُرب ما يقرب من 70 دولفينا قاروري الأنف و30 أسدا في قاعدة سان دييغو.

تتميز الدلافين وأسود البحر بالذكاء والقدرة على التعلم ومواكبة التدريبات، وقد تفوقت حواسها الطبيعية على قدرات أي آلة أو حاسوب أنشئ بواسطة البشر. وتتمتع الدلافين، بالإضافة إلى قدرتها على الغوص بعمق كبير، بإمكانية “تحديد الموقع بالصدى”، التي تسمح لها باكتشاف أماكن الألغام المدفونة تحت الماء.

أما أسود البحر فهي تتمتع ببصر ممتاز، وقد ساعدت الجيش الأميركي في العثور على بعض المعدات المفقودة. يوضح تقرير الغارديان مثلا أن الدلافين استُخدمت بالفعل للمساعدة في إزالة الألغام في الخليج العربي أثناء حروب الخليج وغزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.

لا يزال استخدام الدلافين في الحروب والصراعات البشرية قائما حتى الآن. ففي شهر أبريل/نيسان عام 2019 أبلغ صيادون نرويجيون عن حوت يتصرف بشكل غير طبيعي ويستمر في مطاردة قواربهم بصورة غير معتادة. سرعان ما تبين أن هناك سرجا غريبا ملفوفا حول جسم الحوت كتب عليه “معدات سانت بطرسبرغ”، مما أثار تكهنات جديدة حول برنامج عمليات خاصة للثدييات البحرية تحت إدارة البحرية الروسية.

لاحقا في عام 2022، نشرت إذاعة “إن بي آر” تقريرا حول استخدام الجيش الروسي دلافين مدربة بشكل خاص للدفاع عن قاعدة بحرية مهمة قبالة شبه جزيرة القرم. أضاف التقرير أن هناك صورا ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية تظهر وجود الدلافين عند مدخل ميناء سيفاستوبول، الذي يستضيف القاعدة البحرية “الأكثر أهمية” للبحرية الروسية في البحر الأسود.

لم تكن تلك سابقة على أي حال، فمن المعلوم أن البحرية السوفياتية أدارت العديد من برامج استخدام الثدييات البحرية خلال الحرب الباردة، بما في ذلك تدريب الدلافين بالقرب من سيفاستوبول. يُضيف تقرير “إن بي آر” أن هذه الوحدة بالذات انتقلت إلى الجيش الأوكراني عندما انهار الاتحاد السوفياتي، لكن الوحدة ظلت غير فاعلة حتى استعادتها روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم في عام 2014، وأحيت البرنامج مرة أخرى.

كانت “سي آي إيه” تنفق مئات الآلاف من الدولارات على 3 برامج استخباراتية، تشمل تدريب واستخدام الدلافين والطيور والقطط والكلاب (أسوشيتد برس)

حتى الحمام لم يَسْلم!

تعددت القصص والروايات التي تفسر سبب اختيار الحمام رمزا للسلام، لكن ربما لم تكن هذه القصص والروايات مقنعة بما يكفي للمسؤولين العسكريين ورجال المخابرات، الذين قرروا إقحام الطائر المسالم في الحروب والنزاعات وعمليات التجسس. يعود استخدام الحمام في الاتصالات إلى آلاف السنين، حتى قبل ظهور خطوط التلغراف، حيث كان الحمام يصل بالرسائل من مكان إلى آخر مهما طالت المسافة الفاصلة بينهما.

بعد توصيل رسالته، يمتلك الحمام قدرة خاصة تمكنه من أن يجد طريقه عائدا للنقطة الأولى التي انطلق منها حاملا رد الطرف الآخر. لكن مهمة الحمام في مساعدة البشر على التواصل لم تقتصر على التواصل “السلمي”، ففي الحرب العالمية الأولى بدأ استخدام الحمام لجمع المعلومات الاستخبارية.

بحلول الحرب العالمية الثانية، كان هناك فرع سري من المخابرات البريطانية يدير “خدمة الحمام السرية”، كانت مهمة هذا الفرع هي إسقاط الطيور في حاوية بمظلة فوق أوروبا. وقد استطاع الحمام بالفعل حينها تنفيذ المهمة المطلوبة بنجاح، فقد عاد أكثر من ألف طائر حمام برسائل تتضمن تفاصيل عن مواقع إطلاق صواريخ ومحطات رادار ألمانية. بعد الحرب، توقفت لجنة الحمام الفرعية التابعة للمخابرات البريطانية، بينما استمرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية في استغلال قوة الحمام.

تكشف الوثائق كيف قامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتدريب الحمام للقيام بمهمات سرية لتصوير مواقع حساسة داخل الاتحاد السوفياتي. وفقا لموقع “بي بي سي”، فإن عملية استخدام الحمام في التجسس خلال السبعينيات كان يُطلق عليها اسم “تاكانا” (Tacana)”، وقد زُود الحمام خلالها بكاميرات صغيرة لالتقاط الصور تلقائيا. لقد حاولت وكالة المخابرات المركزية هنا الاستفادة من الميزة الحاسمة في الحمام، وهي أنه يمتلك قدرة مذهلة على إيجاد طريق العودة إلى الوطن مهما ابتعد.

كشفت الوثائق أن وكالة المخابرات المركزية دربت أيضا غرابا على تسليم واستعادة أشياء صغيرة يصل وزنها إلى 40 غراما من عتبات نوافذ المباني التي يتعذر الوصول إليها، كما حاولت الوكالة أيضا تدريب الصقور الكندية والببغاء، لكن من بين كل هذه الفصائل، أثبت الحمام وحده، لسوء حظه، أنه الأكثر فاعلية.

بحلول منتصف السبعينيات، بدأت الوكالة في القيام بسلسلة من المهمات التجريبية، كان أحدها فوق سجن والآخر فوق مقر للبحرية في واشنطن العاصمة. زُود الحمام بكاميرات تبلغ تكلفة إحداها ألفي دولار ووزنها 35 غراما فقط، أظهرت الصور الملتقطة بواسطة الحمام بالفعل تفاصيل واضحة بشكل ملحوظ لأشخاص يمشون وسيارات متوقفة في باحة مقر البحرية في واشنطن العاصمة.

وجد الخبراء أن جودة الصور كانت أعلى من تلك التي تنتجها أقمار التجسس الصناعية العاملة في ذلك الوقت. كانت المهمة المقصودة هي استخدام الحمام ضد أهداف استخباراتية “ذات أولوية” داخل الاتحاد السوفياتي. أشارت الوثائق إلى أنه كان من المقرر شحن الطيور سرا إلى موسكو، لكن لم يُعرف المزيد من التفاصيل حول هذه المهمة.

شاركها.
Exit mobile version