مقدمة الترجمة
في زمنٍ شهد حروبا جوية ضارية، خاضها طيارون يقطعون السحاب ليعودوا مكلّلين بالنصر وربما لا يعودون، وُلد آنذاك حلمٌ أميركيّ قديم مفادُه أن تُخاض المعارك من على بُعد، بلا دماء تُهدر، وبأيدٍ لا تلمس الزناد. وهكذا بدأت رحلة الولايات المتحدة مع الطائرات المسيّرة، مدفوعةً بهاجس تقليل الخسائر وتعظيم الدقّة. لكنّ المشهد تغير لاحقا، فالمسيّرات التي وُلدت بوصفها رمزا للتفوّق والتقدّم، باتت الآن سلاح الفقراء والأقوياء على حدٍّ سواء، تدور في سماء أوكرانيا كما في سماء غزة، وتقلب موازين القوة بتكلفة لا تتجاوز أحيانا بضع مئات من الدولارات.
وبينما كانت الحروب تتغير من حولها، ظلّت واشنطن أسيرة نماذجها القديمة، المتمثلة في طائرات مسيرة باهظة الكُلفة، وعقيدة عملياتية لم تعد تصلح لمعارك اليوم. وأمام هذا التحوّل الجذري، بدت القدرات القتالية الأميركية وكأنها تتآكل من الداخل. فهل تكفي التكنولوجيا وحدها لصناعة النصر؟ أم أن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في الطريقة التي تخوض بها حروبها؟ في هذا المقال المترجم من مجلة “فورين أفيرز”، نستعرض كيف بدأت ثورة الطائرات المسيّرة، وإلى أين وصلت، ولماذا لم تعد واشنطن في طليعة هذا التحليق؟
نص الترجمة
حتى وقت قريب، لم يكن في سماء الحرب طائرات مُسيّرة تُضاهي ما تطوّره الولايات المتحدة، فقد استخدمتْ طائرات “بريداتور” (Predator) و”ريبر” (Reaper) لتنفيذ ضربات دقيقة في مناطق نائية حول العالم. لكن مشهد المعركة تغير في الحملات العسكرية الأخيرة في وروسيا وأوكرانيا وبعض الدول الأخرى، التي كشفتْ عن انطلاق ثورة جديدة في عالم الطائرات المسيّرة.
فبعد أن كانت هذه الطائرات باهظة الثمن وتُوجَّه عن بُعد لتنفيذ ضربات دقيقة، أو مهام استطلاع إستراتيجي، بات من الممكن اليوم اقتناؤها بأسعار زهيدة لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات، مع قدرتها على تنفيذ طيف واسع من المهام، بدءا من مراقبة أرض المعركة، وصولا إلى إيصال الدماء والأدوية إلى الجنود المصابين في الخطوط الأمامية.
واليوم، تخوض الجيوش حول العالم تجارب واسعة مع الجيل الجديد من الطائرات المسيّرة، لتوظيفه في مختلف أوجه القتال. ففي جبهات أوكرانيا المُلتهبة على سبيل المثال، تُحلِّق طائرات مسيّرة من منظور الشخص الأول (الذي يتحكم بها) لتنفيذ ضربات داخل عمق أراضي العدو، بينما اعتمدت روسيا على أسراب من المسيّرات الانتحارية، والصواريخ، والقنابل الموجّهة لاستهداف منشآت الطاقة والتصنيع في أوكرانيا.
أما على الخطوط الأمامية، فيستخدم الطرفان -موسكو وكييف- طائرات صغيرة، وذخائر متسكعة (أو ما يُعرف بالدرونز الانتحارية) لتدمير الجنود والدبابات والمعدات الداعمة، مع الاستفادة من المسيّرات نفسها في إيصال الإمدادات، ونقل الجرحى، ورصد تحركات العدو. وبالتالي، لم تعد هذه المسيّرات تُوجَّه من مواقع بعيدة، بل أصبحت تنغرس في قلب المعركة، فتُسيَّر من الخنادق، أو تُهرَّب خفية إلى عمق أراضي العدو.
لكن على الجانب الآخر، يبدو أن الولايات المتحدة تخلّفت إلى حدٍّ كبير عن مواكبة هذه الثورة في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة. فرغم تعهّد وزير الدفاع، بيت هيغسيث، بـ”إطلاق العنان لهيمنة أميركية في مجال المسيّرات”، فإن الترسانة الأميركية ما زالت تعتمد على طائرات ضخمة وباهظة الثمن، تعود إلى أيام كانت فيها وحدها في الطليعة.

أما المشاريع الجديدة التي تُعلِّق عليها الولايات المتحدة آمالها، مثل “الطائرات القتالية التعاونية” (CCA) التابعة لسلاح الجو، وبرنامج “المطاردة والذخائر الضاربة على ارتفاعات منخفضة” (LASSO) الخاص بالجيش، فلا تزال حبيسة النماذج الأولية، وبعيدة عن ميادين القتال، فضلا عن أنها مكلِّفة. فالطائرة الواحدة من نوع الـ”CCA” تكلّف ما بين 15-20 مليون دولار، بينما المسيّرة الأصغر حجما للجيش لا تقل كلفتها عن 70 ألف دولار، وقد تصل إلى 170 ألفا.
ومع أن الجيش الأميركي قد يُقدم على شراء أعداد أكبر من هذه المسيّرات مستقبلا، فإن السؤال الذي يبقى بلا إجابة هو: هل تمتلك الشركات الأميركية القدرة على الإنتاج بوتيرة تقارب ما تفعله أوكرانيا، التي تستخدم نحو 200 ألف طائرة مسيّرة شهريا؟
وللانخراط الفعّال في ثورة الطائرات المسيّرة، لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على تعزيز قدراتها الكمّية من حيث التمويل والإنتاج وسرعة التوريد، بل يتطلب الأمر إعادة النظر في الأفكار التي شكّلت عقيدة الجيش الأميركي لعقود طويلة.
فالقصور الأميركي في تبنّي الجيل الجديد من المسيّرات لا يُعزى إلى عوائق مادية أو تكنولوجية، بل إلى منظومة من قناعات راسخة تشكَّلت على امتداد 60 عاما من خوض الحروب، مفادها أن التفوق الأميركي يكمن في إدارة المعارك عن بُعد، باستخدام أنظمة دقيقة ومُسيّرة، لتحقيق انتصارات سريعة تُدَار عن بُعد مع تقليل الانخراط البشري المباشر.
يواجه قادة الولايات المتحدة اليوم ضغوطا متزايدة للتكيف مع نمط جديد من الحرب آخذ في التشكل على نحو واضح في الحروب الدائرة في أوروبا والشرق الأوسط. فقد أصبح الاستخدام المكثّف للطائرات المسيّرة من قِبل العديد من الأطراف عاملا حاسما يُعيد تشكيل ملامح ساحة المعركة.
لكن قبل الاندفاع نحو موجة جديدة من الاستثمارات في تقنيات متطورة، يُعد من الضروري أن تُراجع المؤسسات العسكرية المبادئ الأساسية التي وجهت قراراتها وعمليات تسلّحها لعقود طويلة. فعليها أن تُعيد تقييم مدى تقبّل الرأي العام للخسائر البشرية، وأن تُراجع آليات الشراء العسكري التي كثيرا ما تُفضّل الأنظمة الأكبر والأعلى تكلفة، وأن تُعيد النظر أيضا في النزعة المؤسسية لدى بعض الأفرع العسكرية نحو امتلاك منظومات ضخمة قد لا تتناسب مع متطلبات الحرب الحديثة.
والأهم من ذلك، ينبغي لصانعي القرار أن يبلوروا تصورا جديدا للنصر، يأخذ في الحسبان كيف يمكن لتقنيات المسيّرات أن تُسهم في تحقيق أهداف إستراتيجية حاسمة ضمن بيئات قتال متغيّرة.
مَن يقف خلف الكواليس التقنية في المعركة؟
لطالما سعى الجيش الحديث إلى تسخير التكنولوجيا لرفع مستوى الدقة والكفاءة في تنفيذ المهام القتالية، وتقليل التكلفة البشرية، ليس فقط حمايةً لأرواح الجنود، بل أيضا لتخفيف العبء عن صانعي القرار. فمنذ عقود، بدأ هذا التوجّه يتبلور، حين بدأت القيادات تبحث عن سُبل تُغنيها عن إرسال جنودها إلى مهام محفوفة بالخطر.
وفي وقت مبكر من عام 1965، بينما كانت حرب فيتنام تواجه تراجعا في التأييد الشعبي، وتُثير جدلا متزايدا داخل الولايات المتحدة، طلب الرئيس ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت مكنمارا أن يجد حلًّا تكنولوجيًّا لمهام الاستطلاع الخطرة في حرب فيتنام قائلا: “ألا توجد أي طريقة يا روبرت تستطيع من خلالها -بطائراتك الصغيرة أو مروحياتك- أن ترصد هؤلاء الناس، ثم تبعث بإحداثياتهم عبر اللاسلكي، فتأتي الطائرات وتنهال عليهم بوابلٍ من القصف العنيف؟”.
مع بزوغ المعالج الدقيق عام 1971، انطلقتْ شرارة الابتكار الأميركي في عالم الطائرات المسيّرة بقوة، حين بدأت هذه الآلات الصامتة تجد لنفسها مكانا في قلب المعركة، ونجحت لأول مرة في استخدام قدراتها استخداما فعّالا في سماء فيتنام. حينذاك، شهدت الأجواء أكثر من 4,000 طلعة لطائرات “لايتنينغ باغ” و”بافالو هانتر”، تولّت ما اعتاد البشر وحدهم أن ينجزوه من مهام وصفها العسكريون بأنها “مملة، وخطرة، وقذرة”.
حلّقتْ تلك الطائرات مثل فخّ مُعدٍّ بإحكام لاستدراج مواقع الدفاعات الجوية، كما التَقطَت صورا لمواقع الأسرى وصواريخ “أرض–جو” الفيتنامية، واستمرتْ في تنفيذ عمليات استطلاع حتى في أسوأ الأحوال الجوية. ولم تكتفِ بالرصد، بل ألقتْ منشورات دعائية في قلب أرض العدو.
صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تُحدِث تحولا جذريا في مجريات حرب فيتنام، لكنها أثارتْ خيال الجيش الأميركي عندما أظهرتْ كيف يمكن للتكنولوجيا أن تقلّل من المخاطر التي يتعرض لها الإنسان. وجاء عام 1973 ليمنح هذا التصور بُعدا أشد واقعية، إذ أُوقف التجنيد الإجباري، وانتقل الجيش إلى نظام يعتمد على المتطوعين وحدهم.

لم يعد من السهل تعبئة آلاف الجنود عند الطلب، وأصبح لزاما على القادة أن يُعيدوا رسم إستراتيجياتهم بناءً على مَن يستطيعون استقطابه، وليس مَن يمكنهم فرض التجنيد عليه.
ومع بداية الثمانينيات، وبينما كانت الولايات المتحدة تُواجه خصما سوفيتيًّا يتفوّق عليها عددا وعُدّة، تصاعدتْ الحاجة إلى تكنولوجيا تعوّض ذلك النقص. وبالتالي، لم يعد السباق حول مَن يملك جنودا أكثر، بل مَن يستطيع أن يصنع الفارق من خلال الدقة، والسرعة، والتفوّق النوعي.
ولذلك، اتجه القادة الأميركيون نحو إعادة تشكيل القوة العسكرية، ليس بتوسيع حجمها، بل بتقليصها وتحسين كفاءتها، لتُقاتل بقوة مدرّبة تعتمد على تقنيات ذكية موجهة بدقة. وفي قلب هذا التحوّل، تشكَّلت عقيدة “المعركة الجوية البرية”، وهي رؤية إستراتيجية تبنّاها الجيش وسلاح الجو معا، تقوم على تناغم الضربات بعيدة المدى مع تحركات برية سريعة ومرنة، مدعومة بتقنيات المعالجة الدقيقة التي مكّنتهم من رؤية العدو واستهدافه من مسافات غير مسبوقة.
وفي ظل إدارة الرئيس رونالد ريغان، تدفّقت المليارات إلى ميزانية الدفاع، فكانت الأقمار الصناعية، والرادارات، والأسلحة الذكية من أوائل المستفيدين. لم تكن هذه مجرد أدوات متطورة، بل كانت اللبنات الأولى في بناء ترسانة المسيّرات الأميركية.
وبعد أن اهتزّت واشنطن بهجوم عام 1983 الذي استهدف ثكنة مشاة البحرية، وسقوط طيّارين من البحرية في لبنان، تسارعتْ وتيرة البحث الأميركي عن الطائرات المسيّرة، وأدركت واشنطن حينها أن تقليص الخسائر البشرية لم يعد خيارا بل أولوية، فاستثمرت البحرية قرابة 90 مليون دولار في نظام مسيّرات أثبت كفاءته، واشترت 72 طائرة مسيّرة من طراز “بايونير” (Pioneer).
في تلك الفترة، أطلق وزير الدفاع كاسبار واينبرغر عقيدة عسكرية جديدة تنصّ على ألا يُزَجّ بالقوات في الميدان إلا عندما تُستَنفد جميع البدائل. وهكذا، نمت القناعة لدى المخطّطين العسكريين بأن الطائرات المسيّرة يمكن أن تُغني عن إرسال الطيّارين في مهام استطلاعية محفوفة بالمخاطر.
وقد لخّص كيلي بيرك، رئيس قسم البحث والتطوير في سلاح الجو من عام 1979 إلى عام 1982، هذه القناعة بعبارة لافتة لصحيفة “واشنطن بوست” عام 1985، قائلا: “قد توجد طائرة رخيصة، لكن لا يوجد ما يُسمى بطيارٍ رخيص”.
تزامن صدور عقيدة واينبرغر مع فجر عصر المعلومات، في وقتٍ لطالما سعت فيه الولايات المتحدة إلى تفادي حروب الاستنزاف الطويلة. ومع التسارع اللافت في تطوّر التكنولوجيا الرقمية، بدا أن تجنّب تلك الحروب قد يُصبح ممكنا أخيرا.
وفي أعماق البنتاغون، وفي مكاتب لا تصلها الأضواء الإعلامية، ركّزت مجموعة صغيرة من الإستراتيجيين على كيفية تمكين الأنظمة الجديدة، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة، من إعادة رسم ملامح الحرب بالكامل، من خلال رصد العدو واستهدافه من مسافات بعيدة، وبسرعة تقضي على الحاجة إلى التضحية المباشرة بالجنود.
وفي عام 1986، كتب فريق منهم تقريرا سابقا لعصره، تخيّلوا فيه ساحة معركة تعجّ بمستشعرات استطلاعية طائرة، وألغام جوية تحوم كسرب مدجّج، فيما تعتمد المدفعية والطائرات المأهولة على أجهزة استشعار غير مأهولة لاختيار الأهداف تلقائيا.
غنائم بلا قتال
لكنّ هذين الهدفين -تقليل المخاطر البشرية وتعزيز فعالية القتال- لم يسيرا يوما جنبا إلى جنب بانسجام تام. فمنذ حرب الخليج عام 1991، ظلّت الإستراتيجية الأميركية في استخدام الطائرات المسيّرة تتأرجح بين كفتين: كفة تخشى المخاطرة، وأخرى تطمح إلى نصرٍ خاطف تُنجزه التكنولوجيا.
في تلك الحرب، حاولت الولايات المتحدة أن تمسك العصا من المنتصف، فتبنّت نهجا مزدوجا، حيث افتتح سلاح الجو الحرب بحملة “الصدمة والرعب”، المدعومة بقنابل موجهة وصواريخ بعيدة المدى، بينما شنّت القوات البرية مناورة ألحقت دمارا كبيرا بالجيش العراقي. وقد بدا أن هذا الانتصار السريع والفعّال يبشّر بعقيدة أميركية جديدة في الحرب، عقيدة تقوم على الحسم السريع، وقلة الخسائر.
لكن عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، قلّص الكونغرس وإدارة كلينتون ميزانية وزارة الدفاع. ومع تضاؤل الموارد، اندفعت أفرع القوات المسلحة في سباق داخلي، كلٌّ منها يسعى لحماية برامجه المفضّلة، متمسّكة بالمنصات التقليدية الكبرى مثل حاملات الطائرات، والمقاتلات، والدبابات، على حساب الأنظمة غير المأهولة والذخائر الأصغر حجما.
وفي الوقت نفسه، أعادت وزارة الدفاع ترتيب أوراقها، وبدأت موجة من الاندماجات تقلّص عدد اللاعبين في السوق. ومع تقلّص الميزانيات، تراجعت شهية الشركات المتبقية للاستثمار في الابتكار خارج حدود المتطلبات الرسمية التي تضعها وزارة الدفاع.
ورغم القيود التي كبّلت الميزانية، نجحت إدارة كلينتون -خلال التسعينيات- في تشييد ترسانة من طائرات الشبح، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وقنابل ذكية تهتدي بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وقد مثلّتْ تلك الحقبة زمن التدخلات العسكرية الجوية الذي اتّسم بانخفاض المخاطر، واعتمد اعتمادا أساسيا على التفوّق التكنولوجي. صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تكن على رأس أولويات أي فرع من فروع القوات المسلحة، لكن وزارة الدفاع في عهد كلينتون رأت فيها إمكانات واعدة.
وفي وقت مبكر من فترة توليه منصب نائب وزير الدفاع، أسّس جون دوتش منظمة مشتركة تُعرف باسم “مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي”، بهدف تشجيع الجيش على تبنّي تكنولوجيا المسيّرات. وفي عام 1994، خلص هذا المكتب إلى أن الطائرات غير المأهولة تُمثِّل “بديلا مناسبا” في وقت تواجه فيه القوات المسلحة صعوبة بسبب تقليص أعدادها ومعدّاتها.
وبالفعل، في صيف عام 1995، حلّقت فوق سماء يوغوسلافيا السابقة أولى طائرات “بريداتور” (Predator) المسيّرة، التي طوّرتها شركة للطاقة تُدعى “جنرال أتوميكس” (General Atomics)، دون داعم صريح من داخل المؤسسة العسكرية.
وفي صيف العام نفسه، هزّ الحرج أروقة المؤسسة العسكرية الأميركية حين أُسقِطت طائرة “F-16” يقودها الطيّار سكوت أوغرادي فوق أراضٍ يسيطر عليها صرب البوسنة. عندها، تحرّك رئيس أركان السلاح الجوي، الجنرال رونالد فوغلمان، وقرر التوسع في نطاق استخدام طائرات “بريداتور” المسيّرة، وأسس أول وحدة للطائرات غير المأهولة في يوليو/تموز 1995.
لم يكن الجنرال فوغلمان وحده في هذا التوجه، فقد وجَد دعما صريحا من الكونغرس، إذ صرّح السيناتور جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، قائلا: “في تقديري، لن يسمح هذا البلد مجددا بأن تُزَجّ قواته في حروب تُكلّفه هذا القدر من الأرواح كما شهدنا في الماضي”. وبحسب استنتاجه، فإن ذلك يعني التحوّل الحتمي نحو تقنيات غير مأهولة.

تصويب بلا هامش للخطأ
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أصبحت طائرات “بريداتور” و”ريبر” المسيّرة عنصرا بارزا في الإستراتيجية العسكرية الأميركية. وعلى مدار عقدين من الزمن، اقتنت الولايات المتحدة أكثر من 500 طائرة من هذين الطرازين (بتكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات)، وسخّرتها لتنفيذ آلاف الضربات الجوية في سماء أفغانستان، والعراق، وليبيا، وباكستان، وسوريا، واليمن، وعدد كبير من الدول الأخرى. وجلس القادة يحدّقون في الشاشات، يلاحقون الأهداف لحظةً بلحظة، على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع.
ورغم الحضور الطاغي للطائرات المسيّرة في مشهد الحروب الحديثة، لم يكن استخدامها يوما بمنأى عن الجدل. فهذه الأنظمة لم تكن رخيصة، كما أنها لم تُظهِر مرونة كبيرة أو قدرة عالية على التحمّل في ظروف القتال المعقّدة، مما أثار استياء القوات على الأرض.
وكان هذا الاستياء ناتجا عن مشكلات واجهها الجنود، مثل بطء وصول المعلومات وتأثّر أداء الطائرات في الأجواء السيئة بسبب التشويش، كما أن تشغيل الطائرات كان محصورا تقريبا على سلاح الجو، وهو ما دفع القوات البرية للشكوى من أن طياري المسيّرات لم يتلقّوا تدريبا كافيا لتقديم الدعم الأرضي الفعّال.
وفوق تلك الشوائب التقنية، ظهرتْ تساؤلات أخلاقية وإستراتيجية حول الاعتماد المفرط على الطائرات غير المأهولة بدلا من المقاتلين البشر. ففي العراق وأفغانستان، زعمت الولايات المتحدة أنها تسعى لكسب “قلوب وعقول” السكان، لكن هذا الهدف بدا متناقضا مع سياسة القصف من مسافات بعيدة، من خلف شاشات بلا تواصل أو ملامح.
وخلال العقود الأخيرة من الحروب والصراعات غير التقليدية، كان سلاح الجو الأميركي هو الفرع الوحيد الذي انخرط فعليا في الاستثمار في الطائرات المسيّرة. ورغم أن هذه الطائرات بدت وكأنها تهدد دور الطيّار التقليدي داخل المؤسسة الجوية، فإن رغبة سلاح الجو في الحفاظ على هيمنته على المهام الجوية دفعته إلى تبنّي هذه التكنولوجيا بقوة.
وفي إطار ترسيخ هيمنة سلاح الجو على المسيّرات، استُخدمت طائرات “بريداتور” و”ريبر” ضمن أسراب تابعة لسلاح الجو، جرى تنظيمها وفق نموذج وحدات المقاتلات التقليدية. وغالبا ما تولّى قيادتها طيّارون سابقون، اعتمدوا في تشغيلها وتكليفها على أنظمة شبيهة بتلك المستخدمة في الطائرات المأهولة.
لذلك، لم يكن مفاجئا أن تتشابه مهام الطائرات المسيّرة مع المهام الجوية التقليدية، مثل القصف الإستراتيجي وجمع المعلومات الاستخباراتية. وفي الوقت نفسه، ترك الجيش الأميركي المجال “لسلاح الجو” للسيطرة على الطائرات المسيّرة، واقتصر استثماره فيها على بعض الأنظمة الصغيرة فقط، بينما أبدت البحرية اهتماما ضئيلا بها، إذ ظل تركيزها منصبًّا على المنصات الكبرى مثل حاملات الطائرات التي تُعدّ جزءا أساسيا من هويتها القتالية.
ولحماية جنودها في ذلك الوقت، ركّزت الولايات المتحدة على تسخير التكنولوجيا المتقدّمة لتقليل الخسائر البشرية، الأمر الذي دفعها إلى تبنّي نوع محدد من الطائرات المسيّرة: تلك التي تُدار عن بُعد، وتراقب الأهداف لساعات، وتعمل وسط أجواء محفوفة بالمخاطر.
لم يكن هذا التوجّه في التسلّح وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من القرارات المتراكمة، بدءا من الطريقة التي أرادت بها الولايات المتحدة خوض الحروب بعد فيتنام، مرورا بالدروس التي استخلصتها من حرب الخليج، ووصولا إلى توجّهات الإنفاق الدفاعي خلال مرحلة الانفراد الأميركي بقيادة العالم. وقد جاءت حربا أفغانستان والعراق، على مدار عقدين، لترسيخ هذه الخيارات وجعلها جزءا ثابتا من العقيدة العسكرية الأميركية.
على الجانب الآخر، هزّت الحرب في أوكرانيا الثوابت التي طالما استندت إليها العقيدة العسكرية الأميركية، فأطلقت سباقا محموما نحو توسيع استثماراتها في مجال الطائرات المسيّرة. وبدأت واشنطن بمنح عقود لشركات دفاعية ناشئة، وإجراء سيناريوهات افتراضية تُحاكي مهام غير مسبوقة للمسيّرات، وأوامر مباشرة من وزير الدفاع هيغسِث للوحدات بشراء المسيّرات التجارية واختبارها ميدانيا.
ومع ذلك، بدت هذه الخطوات وكأنها ردود أفعال ارتجالية على ما يجري في ساحات القتال بالخارج، لا خطوات منسّقة نابعة من إستراتيجية مدروسة ترسم بوضوح ملامح الدور المستقبلي الذي ينبغي أن تؤديه هذه الطائرات في حروب الغد.
إعادة الحرب إلى صورتها الأولى
إذا كانت الولايات المتحدة تطمح إلى خوض حروب استنزاف والانتصار فيها -كتلك التي تُخاض الآن في أوكرانيا بطائرات مسيّرة- فعليها أن تُعيد تشكيل ترسانتها لا بالعتاد فقط، بل بالعقيدة أيضا. بمعنى أنها في حاجة إلى مسيّرات منخفضة التكلفة، تُرافق الجنود في الميدان، وتتمتع بمرونة تكتيكية تمكّنها من التكيّف مع أساليب مواجهة المسيّرات.
لكن تقليد التجارب الأوكرانية أو غيرها لن يكون كافيا، لأن الأمر يتطلب ما هو أعمق من مجرّد التسلّح. فقبل أن تهرع مصانع السلاح إلى إنتاج مسيرات جديدة، لا بد للإستراتيجيين أن يضعوا تصورا جديدا لمفهوم “النصر”، يُراجع ما ترسّب في الذاكرة العسكرية من مسلّمات عمرها نصف قرن.
فعلى مدار نصف قرن، بَنَت الولايات المتحدة سياستها العسكرية على افتراض أساسي مفاده أن الشعب الأميركي لن يرضى بالتضحية بأرواح أبنائه، لكنه مستعد لإنفاق الأموال من أجل خوض الحروب. لكن هذا اليقين بدأ يتصدّع، فالعجز المالي يتفاقم، وغضب الناخبين من التضخم وسوء الإنفاق يعلو، وهو ما يضع القادة الأميركيين أمام حقيقة مفادها أن ضخ الأموال في مشاريع تكنولوجية باهظة الثمن لم يعد وسيلة مضمونة لحماية أنفسهم سياسيا.
وفي الوقت ذاته، بدأ الحلم القديم -الذي ساد ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بأن الطائرات غير المأهولة ستجعل الحروب أسرع وأبعد- يتهاوى أمام واقع جديد. فالمسيّرات، كما تُستخدم اليوم في ميادين أوروبا والشرق الأوسط، تُعيد الحرب إلى ما يشبه صورها الأولى، حيث الخنادق المُوحلة، والألغام، واستهداف المدنيين، وكلها ملامح غابت عن العقيدة الأميركية منذ حرب فيتنام.
واليوم، تواجه الولايات المتحدة لحظة حاسمة تستدعي مراجعة جادة لإستراتيجيتها العسكرية، لا سيما فيما يتعلّق بدور الطائرات المسيّرة في حروب المستقبل. ولضمان توجيه الميزانية الدفاعية بشكل فعّال، لا بد من إصلاحات عميقة تشمل تسريع عملية التسلّح، وتوسيع هامش الابتكار، عبر منح القادة الميدانيين والفرق الصغيرة قدرة أكبر على اختيار وتطوير المسيّرات التي يحتاجون إليها فعلا.
وفي المقابل، انخدع الجيش الأميركي بنجاحاته في العمليات التنفيذية والتكتيكية في الحروب الماضية، وأغفل نقطة مهمة وهي الحفاظ على التفوق الإستراتيجي الضروري لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وبدون إعادة النظر في النموذج الأميركي في خوض الحروب، لن يكون امتلاك المزيد من الطائرات المسيّرة -مهما بدت متقدمة- كافيا لحماية الولايات المتحدة من الانزلاق إلى حروب لا تسعى إلى الانخراط فيها.
_______________________
هذا التقرير مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري