تتعرض الصورة التي حرصت كينيا على ترسيخها كوسيط إقليمي محايد لتصدع متزايد، وسط اتهامات من دول الجوار بأنها لم تعد طرفا محايدا، بل أصبحت داعما للجماعات المتمردة، حسب ما يقول موقع أفريكا ريبورت في تقرير له.
فالدولة التي كانت تُعرف بدورها في الوساطة السلمية باتت في قلب عاصفة من الاتهامات بإيواء قادة التمرد ولعب دور مزدوج في النزاعات التي تعصف بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، والسودان، وجنوب السودان.
ففي الأول من أغسطس/آب الحالي، استضافت نيروبي محادثات رفيعة المستوى حول عملية السلام في الكونغو الديمقراطية، بدعوة من الرئاسة المشتركة لمجموعة شرق أفريقيا ومجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية (سادك). وبينما رحّب المسؤولون الكينيون بالمبعوثين لرسم طريق نحو السلام، كانت العلاقات مع كينشاسا تتدهور.
نقطة التحول جاءت في ديسمبر/كانون الأول 2023، حين استخدم قادة حركة “إم 23” المدعومة من رواندا، كورنيي نانغا وبرتراند بيسيموا، العاصمة نيروبي لإطلاق تحالف نهر الكونغو، وهو جبهة سياسية-عسكرية جديدة ضد إدارة الرئيس فيليكس تشيسيكيدي.
وردا على ذلك، رفضت كينشاسا اعتماد السفير الكيني المعيّن، العقيد السابق في سلاح الجو شيم أمدي، مما اضطر الرئيس ويليام روتو إلى نقله إلى أكرا.
واتهم تشيسيكيدي الرئيس روتو بسوء إدارة محادثات السلام التي كانت تُشرف عليها نيروبي، بقيادة الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، وقال إن روتو انحاز لصالح رواندا، رغم الاتهامات الواسعة الموجهة لكيغالي بدعم وتمويل حركة “إم 23” في شرق الكونغو وهو ما تنفيه كيغالي.
الخرطوم تنتقد روتو لاستضافته حميدتي
لم تكن الكونغو الجارة الوحيدة التي وجهت أصابع الاتهام. فقد اتهم المجلس العسكري السوداني إدارة روتو بدعم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان “حميدتي” دقلو، الخاضع لعقوبات أميركية بسبب الانتهاكات في دارفور.
وفي خطوة أثارت صدمة إقليمية، استضاف روتو حميدتي في مقر الرئاسة بنيروبي في يناير/كانون الثاني 2024، مما دفع السودان إلى سحب سفيره وفرض حظر على الواردات الكينية.
وزادت التسريبات من حدة الاتهامات، بعد ظهور صور لأسلحة يُزعم أنها صُنعت في كينيا داخل مناطق خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. ورغم نفي الحكومة الكينية أي تورط رسمي، فإن الصورة العامة كانت سلبية.
ويقول دانيال فان دالن، كبير محللي المخاطر في شركة “سيغنال ريسك”، إن “قرار استضافة حميدتي عزز الاتهامات بارتباط روتو بقوات الدعم السريع”، مشيرا إلى أن الخطوة قد تكون مرتبطة بعلاقات كينيا ببعض القوى الإقليمية، الداعمة لتلك القوات.
جوبا تنضم إلى موجة الانتقادات
بدوره، أعرب جنوب السودان عن قلقه، إذ اتهم مسؤولون في جوبا نيروبي بـ”لعبة مزدوجة”، عبر تسهيل محادثات السلام بينما يُزعم أنها توفر ملاذا لقادة المعارضة الذين يخططون ضد إدارة الرئيس سلفاكير ميارديت.
وقد عبّر أحد المسؤولين بالقول “حين يعقد قادة التمرد مؤتمرات صحفية في عاصمتك، فذلك ليس حيادا”.
ويعكس هذا الاتهام تصورا أوسع بأن نيروبي أصبحت ملاذا للمنبوذين سياسيا، ومكانا لإعادة تجميع وإعادة تسويق قادة الحروب والتمرد.
وتُهدد هذه الانتقادات مكانة كينيا كمركز إقليمي. فالحظر السوداني يؤثر على سوق رئيسي للشاي الكيني، بينما أدى التوتر مع الكونغو الديمقراطية إلى تجميد مفاوضات البنية التحتية الجارية.
حياد كينيا في خطر
يحذر خبراء من أن دور كينيا كوسيط محايد داخل الاتحاد الأفريقي ومجموعة شرق أفريقيا لم يعد قابلا للاستمرار.
ويقول أحد الباحثين في العلاقات الدولية بنيروبي، طلب عدم الكشف عن هويته، إن “السياسة الخارجية الكينية تحت إدارة روتو تحولت من وساطة مبدئية إلى انتهازية قائمة على المصالح”.
ويضيف “استضافة شخصيات مثل حميدتي وقادة إم 23 ترسل رسالة مفادها أن كينيا مستعدة لغض الطرف إذا كان الثمن مناسبا. هناك فرق بين منح اللجوء ومنح المنصة. حين يعقد قادة التمرد مؤتمرات صحفية في عاصمتك، فذلك ليس حيادا، بل تأييد ضمني”.
تاريخ من استضافة المعارضين
استضافة المنفيين السياسيين ليست جديدة على نيروبي. ففي فترات سابقة، كانت كينيا أرضا محايدة لمحادثات السلام بين أطراف من الصومال ورواندا وجنوب السودان، كما استضافت شخصيات معارضة ومطلوبين دوليا مثل فيليسيان كابوغا، المتهم بجرائم حرب، الذي أفلت من الاعتقال لسنوات.
لكن مراقبين يرون أن كينيا تجاوزت هذه المرة الخط الأحمر، وانتقلت من دور المضيف المحايد إلى الممكّن الفعلي.
وفي قلب هذه العاصفة تقف سياسة روتو الخارجية، التي يصفها منتقدوه بأنها انتهازية. ويشير كثيرون إلى الاتفاقيات الاقتصادية كمحرك رئيسي لانخراطها مع حميدتي.
يقول فان دالن لمجلة “أفريكا ريبورت” إن “الرسالة واضحة: المصالح الداخلية ستتغلب دائما على أي جهود سلام تشارك فيها كينيا”.
ويقدم نغالا تشومي، الباحث في جامعة غينت البلجيكية والمتخصص في شؤون القرن الأفريقي، إطارا جيوسياسيا أوسع “على غرار التحولات العالمية نحو التعددية القطبية، حيث لم تعد الهيمنة بيد قوة واحدة مثل الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، تبنت كينيا في السنوات الأخيرة سياسة خارجية قائمة على المعاملات”.
ويضيف “مبادرات بناء السلام لم تعد مدفوعة بالنية الحسنة. وفي ظل غياب قوة عالمية مهيمنة، تسعى كينيا لكسب ود القوى الصاعدة، خاصة الصين، ومؤخرا دول الخليج”.
انتقادات داخلية تتصاعد
داخليا، تواجه إدارة روتو انتقادات متزايدة من منظمات المجتمع المدني والرأي العام، الذين يحذرون من أن الحكومة تُقوّض سمعة كينيا كوسيط موثوق في المنطقة.
وقد قوبلت دعوات من الكونغو للتحقيق في استضافة قادة إم 23 برفض شديد، إذ أكدت الحكومة الكينية أنها لا تستطيع اتخاذ إجراءات ضدهم لعدم وجود خرق قانوني.
وردا على الضغوط، قال المتحدث باسم الرئاسة “نحن لا نعتقل الناس بسبب تصريحاتهم. نحن نعتقل المجرمين”.
وتواجه كينيا خطر فقدان نفوذها الإقليمي الذي بُني على مدى عقود من الوساطة الدقيقة. ومع كونها مركزا تجاريا وعسكريا مهما، فإن الرهانات عالية.
ويحذر محللون من أن استمرار التصورات حول انحياز كينيا قد يؤدي إلى انتكاسات خطيرة، من تجميد مشاريع البنية التحتية وتعطيل التجارة، إلى إضعاف جهود التكامل في إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية.
ويقول فان دالن “لا أعتقد أن كينيا قادرة على استعادة مكانتها، على الأقل في ظل هذه الإدارة. ربما مع قيادة جديدة، نعم. لكن في الوقت الراهن، فقدت كينيا مصداقيتها كوسيط بشكل كبير”.