في صيف 1974 كانت شواطئ كيرينيا في شمال قبرص مسرحا لحدثٍ غير مألوف في شرق المتوسط! حين كانت سفن الإنزال التركية تمخر مياه البحر محمّلة بجنود ودبابات، تتقدم تحت غطاء من المدفعية البحرية والطيران الحربي، وعلى الضفة الأخرى، كانت القوات القبرصية اليونانية تتحصن، وكانت أجهزة الرادار في أثينا ترصد تحركات الأسطول التركي ببالغ القلق.
لم تكن تلك العملية مجرّد تدخل عسكري في نزاع سياسي، بل كانت إيذانًا بعودة تركيا إلى مياه المتوسط بعد غياب استمر منذ انهيار الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين.
ومنذ تلك اللحظة لم يعد البحر مجرد حدود طبيعية لتركيا، بل أصبح جبهة مفتوحة تتقاطع فيها اعتبارات السياسة مع الأمن والطاقة وصراع الهيمنة الإقليمية. ومن ثم بدأت عقيدة البحرية التركية تتحرر من دورها التقليدي بوصفها حارسا للشواطئ، لتتحول تدريجيًّا إلى أداة إستراتيجية لبسط النفوذ وحماية المصالح البعيدة.
وبعد نصف قرن أو أكثر قليلا؛ تجد تركيا نفسها اليوم بعد أن أعادت تعريف علاقتها بالبحر، ترفع علمها على سفن حربية حديثة، وتطور ترسانتها البحرية بصورة متسارعة، وتُوسِّع بصمتها الإستراتيجية في بحار العالم؛ من سواحل البحر الأسود إلى أعماق شرق المتوسط، ومن خليج عدن إلى القرن الأفريقي وسواحل المحيط الهندي.
فكيف بدأت قصة البحرية التركية من شواطئ كيرينيا؟ وأين وصلت بعد عقود من التحولات الجيوسياسية والتقنية؟ وماذا تريد تركيا حقًّا من البحار؟
من الظل إلى الأفق المفتوح: حكاية الإستراتيجية البحرية لتركيا
“كما حكمنا البحار يومًا ما، أنتم، بصفتكم أحفاد خير الدين بربروس، فتحتُم اليوم أبواب عالم جديد”
بهذه العبارة خاطب سلجوق بيرقدار، رئيس مجلس إدارة شركة بايكار، طاقم السفينة حاملة الطائرات الخفيفة “TCG Anadolu” في أبريل/نيسان 2025، واصفًا إياها بأنها سابقة عسكرية وبوابة للعودة إلى أمجاد القرن السادس عشر، حين قاد الأدميرال خير الدين بربروس البحرية العثمانية لفرض هيمنتها على البحرين الأسود والأبيض المتوسط.
في عام 1923؛ وُلدت الجمهورية التركية الحديثة في ظل تحديات هائلة خارجية وداخلية، حيث تركت خسائر أراضي الدولة في أواخر العهد العثماني نُدبة لا تُمحى في وعي مؤسسي الجمهورية. هذه الصدمة، التي تجاوزت حدود التأثير النفسي، رسّخت ثقافة إستراتيجية مهووسة بسلامة الحدود والدفاع عن البر، على حساب أي رؤية بحرية طموحة.
لذلك؛ هيمنت القوات البرية على الرواية الإستراتيجية للجمهورية الناشئة، وحجزت القوات الجوية موقعها لتكون ثاني أذرع القوة، أما البحرية فبقيت في الظل، مُقيدة بضيق الموارد الاقتصادية وانعدام الاستثمار الجاد.
إلى جانب ذلك؛ أدى انضمام تركيا إلى الناتو عام 1952 إلى تثبيت هذه المقاربة، إذ جعل وجود الأسطول السادس الأميركي في البحر المتوسط والشبكة الدفاعية للحلف، تطوير قدرة بحرية تركية مستقلة أمرًا غير ذي أولوية. واقتصرت مهمة البحرية حينها على ردع أي تهديد سوفياتي للمضايق الداخلية، مع حضور محدود في بحر إيجه ضمن قيود النزاع المزمن مع اليونان على الجزر والمياه الإقليمية.
كما كرّس النهج الانعزالي لمصطفى كمال أتاتورك، القائم على شعار “سلام في الداخل، سلام في العالم”، التركيز على تثبيت أركان الدولة الحديثة وتنميتها داخليًّا بدل الدخول في سباق بحري أو مغامرات خارجية.
لكن صيف 1974 كان نقطة الانعطاف التاريخية. بتنفيذ تركيا عملية “السلام” في قبرص، عبر إنزال بحري وجوي متزامن، ردا على انقلاب القبارصة اليونانيين المدعوم من المجلس العسكري في أثينا، سيطرت على نحو 40% من الجزيرة، ولم يعد البحر منذ ذلك اليوم مجرد حاجز دفاعي بل أصبح منصة لإبراز القوة.
ولاحقًا في الثمانينيات والتسعينيات، دفعت تحولات البيئة الإقليمية تركيا نحو مراجعة أوسع لإستراتيجيتها. فمع اختفاء التهديد السوفياتي المباشر، سقط أحد المبررات التقليدية التي تدفع أنقرة للإنضواء الكامل تحت المظلة البحرية للناتو. وفي المقابل، برزت تحديات جديدة أكثر تنوعا؛ توترات استجدت مع اليونان حول الجرف القاري والمياه الإقليمية، ونزاعات على السيادة الجوية والبحرية في بحر إيجة، وملف قبرص الذي ظل بؤرة صراع مزمنة.
في تلك الأجواء، تبنت هيئة الأركان التركية ما عُرف بـ”إستراتيجية الحربين ونصف”، وهي عقيدة دفاعية هجومية تفرض على الجيش الاستعداد لخوض حربين متزامنتين على الجبهتين الشرقية والغربية، إضافة إلى “نصف حرب” داخلية ضد التمرد الكردي. اعتبرت هذه الإستراتيجية موقع تركيا، المحصور بين البحرين الأسود والمتوسط، نقطة ضعف. ومن ثم وفقا لهذه الإستراتيجية؛ على البحرية أن تستعد لمواجهة عمليات هجومية متزامنة في البحرين الأسود والمتوسط، مع الحفاظ على تفوق تكتيكي في بحر إيجة الشديد الحساسية.
ومع دخول الألفية الجديدة؛ بدأت هذه التحولات تتشكل في ممارسات أكثر وضوحا وتأخذ طابعًا أكثر استقلالية عن الناتو، متأثرةً بتدهور العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بعد تباطؤ ملف انضمام أنقرة، وتزايد الخلافات مع واشنطن حول قضايا مثل حرب العراق 2003. بالتوازي، أثارت اكتشافات الغاز في شرق المتوسط شهية أنقرة لفرض وجود بحري دائم في مناطق متنازع عليها، مما دفعها لزيادة الإنفاق الدفاعي البحري وتطوير برامج تصنيع محلي للسفن الحربية.
لاحقا؛ أسهمت عودة التهديد الروسي مجددا، مع تزايد نفوذ إيران، وتنامي التحالف المناهض لتركيا في البحر الأبيض المتوسط، في زيادة الحماس التركي لمقاومة العزلة البحرية. من هنا؛ برز مفهوم “الوطن الأزرق”، الذي يهيمن حاليا على التفكير الإستراتيجي لدى القادة العسكريين الأتراك والسياسيين.
يؤكد هذا المفهوم ضرورة سعي تركيا لتوسيع نفوذها على البحر الأبيض المتوسط واستعادة الهيمنة التجارية والبحرية التي كانت تتمتع بها الدولة العثمانية سابقًا. في جوهرها، تُروّج هذه الإستراتيجية لأن موقع تركيا البحري ليس نقطة ضعف كما كان سائدا في تصورات الإستراتيجيين الأتراك خلال العقود الماضية، بل هو ميزة تُعطيها عمقًا إستراتيجيًّا مكّن السلطة الحاكمة لشبه جزيرة الأناضول وبحر مرمرة سابقا من بسط نفوذها على رقعة واسعة من العالم، ويمكن أن يُعاد ذلك مرة أخرى ولو بوسائلَ وصورٍ مختلفة.

بحار بلا ضفاف: الوطن الأزرق كما يراه الأتراك
في صباح ربيعي من عام 2019، كانت مياه شرق المتوسط تعكس أشعة الشمس على أسطح عشرات السفن الحربية التركية، وهي تتحرك بانسجام كأنها أوركسترا معدّة بعناية.
من أعماق البحر الأسود حتى أمواج بحر إيجه وشرق المتوسط، كانت المدمرات والفرقاطات والغواصات تخرج في وقت واحد، تحمل على متونها رسالة صامتة لكنها صاخبة المعنى، مفادها أن هذه البحار الثلاثة لم تعد مجرد مساحات متفرقة على الخريطة، بل أصبحت مجالا حيويا واحدا لوطن جديد يعيد اكتشاف حدوده المائية.
كانت هذه أولى سلسلة مناورات “الوطن الأزرق” التي أُطلقت نسختها الأولى عام 2019، واعتُبرت الكبرى في تاريخ الجمهورية، حيث شاركت فيها جميع القطع البحرية تقريبًا على امتداد ثلاثة مسارح في وقت واحد.
أرادت تركيا إظهار قدرتها البحرية على العمل المتزامن في المسارح الثلاثة، وإثبات استعدادها لحماية حقوقها في مواجهة أي تحالف بحري مضاد، لا سيما أن تلك المناورات جاءت في وقت كانت فيه أنقرة تخوض نزاعات ترسيم حدود بحرية مع اليونان وقبرص، وتواجه جبهة دبلوماسية وعسكرية تضم دولًا أوروبية وعربية مدعومة من فرنسا وإسرائيل.
صاغ الأميرال جيم غوردينيز، أحد أبرز العقول البحرية التركية، عقيدة “الوطن الأزرق” في عام 2006، لكنها لم تتحول إلى سياسة دولة إلا في العقد التالي مع تصاعد التوترات في شرق المتوسط. تستند الفكرة إلى تقدير مفادُه أن تركيا تعرضت لمظلومية تاريخية وحُرمت من مجالها البحري الطبيعي، وتقترح مساحة بحرية تُقدَّر بنحو 462 ألف كيلومتر مربع، تشمل المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة التي يجب أن تعتبرها أنقرة جزءًا من أمنها القومي.
وبالطبع؛ لم تتوقف تركيا عند حدود المناورات والتدريبات. ففي البحر الأسود، عززت تعاونها العسكري مع أوكرانيا وجورجيا، ورفعت وتيرة الدوريات المشتركة تحت مظلة الناتو، مستفيدة من موقعها بوصفها حارس مضايق البوسفور والدردنيل وفق اتفاقية مونترو.
وفي شرق المتوسط، دخلت تركيا في مواجهة دبلوماسية مع تحالفات إقليمية مناوئة، ووقعت تفاهمًا مع حكومة الوفاق الليبية عام 2019، رسم لها نطاقًا بحريًّا يمتد إلى قلب المتوسط، متحديًا مشاريع خط أنابيب الغاز “إيست ميد” والتحالفات التي أرادت إقصاءها من خريطة الطاقة في المنطقة.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ “الوطن الأزرق” يتجاوز كونه شعارًا أو تمرينًا استعراضيًّا، ليتحول إلى مشروع تمدد إستراتيجي متعدد الجبهات. ففي البحر الأسود، استثمرت أنقرة موقعها بوصفها حارس المضايق وفق اتفاقية مونترو، فعززت تعاونها العسكري مع أوكرانيا وجورجيا، ورفعت وتيرة الدوريات المشتركة مع الناتو، موجهة رسالة واضحة لروسيا بأن حضورها في الشمال لن يتراجع.
وفي شرق المتوسط، دخلت تركيا في مواجهة دبلوماسية مع تحالفات إقليمية مدعومة من فرنسا وإسرائيل ودول عربية، بينما وقعت تفاهمًا مع حكومة الوفاق الليبية عام 2019، رسم لها نطاقًا بحريًا يمتد إلى قلب المتوسط، متحديًا مشاريع أنابيب الغاز والتحالفات البحرية المناوئة.
أما في المحيطات البعيدة، فقد مدّت أنقرة خيوط حضورها إلى القرن الأفريقي والمحيط الهندي، من قاعدة لوجستية في الصومال على سواحل المحيط الهندي، افتتحتها عام 2017 لتكون أكبر معسكر تركي للتدريب العسكري خارج البلاد، إلى حضور في ميناء سواكن السوداني لفترة زمنية قبل التغيير السياسي في السودان عام 2021، في إطار خطة لتأمين طرق التجارة البحرية وإيجاد نقاط ارتكاز دائمة تمنحها نفاذًا إلى البحار المفتوحة. وهكذا صار “الوطن الأزرق” واقعًا يتحرك على سطح الماء، وليس مجرد حدود مرسومة على الخرائط.
إلى أين وصلت البحرية التركية اليوم؟
“ندرك أنه لنعيش بسلام في أرضنا، يجب أن نمتلك بحرية قوية وفعالة في وطننا الأزرق والمناطق البعيدة”
هذا ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أغسطس/آب 2024، عند إعلان تخطيط تركيا لتسليم الغواصات “حضر ريس” في 2025 و”مورات ريس” في 2026، والانتهاء من المشروع بحلول 2029.
من قوة ساحلية محدودة القدرات في منتصف القرن العشرين، وصلت البحرية التركية اليوم إلى مشهد مختلف جذريا. تتشابك في صناعته عناصر ثلاثة؛ أولها منظومة من القواعد البحرية الموزعة بذكاء، وثانيها قاعدة تصنيع عسكرية متطورة آخذة في الاتساع، وثالثها اتفاقات وعقود تصدير تصنع نفوذًا يمتدّ من إسطنبول إلى كراتشي وكييف ومقديشو وعواصم كثيرة في العالم.
في المتوسط وبحر إيجة؛ تقع قاعدة آكساز قرب مدينة مرماريس، وهي مركز ثقل الأسطول، بقدرتها على استقبال وحدات ثقيلة من فئة “أناضولو” وسفن الإمداد الحديثة. وكذلك قاعدة فوشا على بحر إيجة باعتبارها منصة انطلاق لوحدات الإنزال وقوات النخبة البحرية (SAT/SAS)، مما يمنح أنقرة قدرة على تنفيذ عمليات برمائية سريعة في بيئات نزاع عالية الخطورة.
أما في الشمال، على البحر الأسود، فتبرز قاعدة بارطِن التي تحتضن أسطول الغواصات في منشآت محصّنة تحت الأرض، مانحة أنقرة قدرة بقاء وتخفٍّ في مواجهة أي تصعيد إقليمي. وعلى بحر مرمرة، تضطلع قاعدة إردك بدور قيادي في عمليات مكافحة الألغام، وهي مهمة تزايدت أهميتها في ظل مشاركة تركيا في قيادة مجموعات الناتو المختصة بتأمين الممرات الملاحية. فضلا عن قاعدة جولجوك، المقر الرئيسي لقيادة القوات البحرية التركية.
هذا التوزيع يمنح أنقرة ردًّا سريعًا في ثلاثة مسارح؛ هي إيجة/المتوسط للردع والتدخل السريع، ومرمرة للألغام وحماية المضايق، والبحر الأسود للغواصات ومنع الاقتراب.
كما يدعم هذا الانتشار القاعدي أسطول متنوع في مكوناته ووظائفه، وصناعة عسكرية ثقيلة ومتطورة. على السطح؛ تقف سفينة القيادة والإنزال “TCG أناضولو”، التي دخلت الخدمة عام 2023 بوصفها أول منصة “حاملة مسيّرات” في العالم، قادرة على إسقاط قوة خفيفة أو متوسطة، وتشغيل مروحيات هجومية وطائرات مسيّرة من طراز بيرقدار TB3 وقزل إلما، مما يمنحها ميزة تشغيلية غير مسبوقة في المنطقة بتكلفة تشغيل أدنى من الحاملات التقليدية.
إلى جانبها، يواصل برنامج “MILGEM” إنتاج سفن حربية صغيرة “كورفيتات” من نوع “Ada” وفرقاطات من نوع “Istanbul” محليّة التصميم، بقدرات دفاع جوي وصاروخي محسّنة، ليحل محل الوحدات الأقدم ويعزز القدرة على خوض عمليات مشتركة في بيئات تهديد عالية.
وتحت السطح؛ يدخل مشروع “ريّس” مرحلة متقدمة مع انضمام غواصات “Type-214 AIP” تباعًا حتى نهاية العقد، لتوفر قدرة ردع هادئة وطويلة المدى تحت الماء في شرق المتوسط والبحر الأسود.
وعلى خط الأفق البعيد؛ يجري العمل على تطوير المدمرة “TF-2000″، التي ستشكل أول درع دفاع جوي بعيد المدى للأسطول، مزودة بـ96 خلية إطلاق عمودي وصواريخ تركية الصنع مثل “SIPER”. كما يستمر تطوير الغواصة الوطنية “MİLDEN”، التي يُرتقب أن تدخل الخدمة في ثلاثينيات هذا القرن، إلى جانب حاملة طائرات مستقبلية ضمن مشروع “MUGEM”، ستمنح أنقرة القدرة على نشر قوة جوية بحرية كاملة في البحار البعيدة.
وبالتوازي مع هذا الحضور العملياتي، أصبحت الصناعات البحرية العسكرية التركية أداة نفوذ في حد ذاتها. فقد وقّعت أنقرة عقودًا لتصدير كورفيتات “MILGEM” لباكستان، وسفن “Ada” لأوكرانيا، وكورفيت “دينيز خان” لتركمانستان، وسفن تدريب دورية مع عدد من الدول، فضلًا عن مفاوضات متقدمة مع دول في أفريقيا وآسيا. هذه الصادرات لا تُدرّ عوائد مالية فحسب، بل تبني شبكة مصالح وتحالفات تمتد من بحر قزوين إلى الخليج والمحيط الهندي.
والخلاصة في هذا؛ أن البحرية التركية أصبحت تقف اليوم عند عتبة تحول تاريخي. صحيح أنها لم تصل بعدُ إلى مستوى “القوة الزرقاء” القادرة على منافسة القوى البحرية العالمية، لكنها الآن تمتلك مزيجًا فريدًا من الانتشار، والمشروعات الكبرى، والصناعات الوطنية، مما يمنحها القدرة على فرض كلفة عالية على أي خصم إقليمي، وحماية مصالحها من المضايق إلى البحار البعيدة. والأهم أن أنقرة لم تعد تكتفي بأن تكون “دولة مطلة على البحار”، بل تريد أن تكون “قوة بحرية” بكل ما تحمله الكلمة جيوسياسيا من معنى.

ماذا عن القيود؟ حين تصطدم الأشرعة بحدود الجغرافيا!
في نهاية المطاف، ورغم التطورات اللافتة لقدرات البحرية التركية؛ فإن ثمة قيودًا واقعية تحكم التقييم الإستراتيجي النهائي لتلك القدرات. فمع العمل الجاد لبناء أسطول قوي قادر بحلول ثلاثينيات وأربعينيات القرن الحالي، فإن قدرة أنقرة على التحرك الفعّال خارج البحار القريبة ما زالت محدودة ولا تتجاوز عمليًّا بحر إيجة والجزء الجنوبي من المتوسط.
وهذا القصور، بحسب جيوبوليتيكال فيوتشرز، يتفاقم مع تزايد التنسيق بين خصومها الإقليميين؛ إذ إن أي تحرك تركي ضدد اليونان قد يُواجَه بتحالف بحري يضم اليونان وفرنسا وإيطاليا وحتى إسرائيل، وهو تحالف يملك قوة نيرانية تفوق مجتمعة ما لدى تركيا.
من جانب آخر؛ تحمل الجغرافيا البحرية التركية في طياتها أحد أعمق مكامن الضعف. ففي بحر إيجة، تتناثر عشرات الجزر الخاضعة للسيطرة اليونانية على مقربة من السواحل التركية، لتشكل ما يشبه قوسًا دفاعيًّا أماميًّا لأثينا يمكنه إغلاق الطرق المؤدية إلى بحر مرمرة ومضيق الدردنيل، ذلك الشريان المائي الحرج الذي يربط تركيا بالبحر المتوسط وجنوب العالم.
هذه الجزر، بما تمثله من نقاط تمركز عسكرية محتملة، يمكن أن تتحول في أي أزمة إلى أدوات حصار أو منصات هجوم، مما يفرض على أنقرة قيودًا إستراتيجية دائمة في حركتها البحرية.
وإلى أن تتمكن تركيا من تأمين قواعد أمامية وأسطول بحري أكثر قوة، ستواجه إستراتيجيتها البحرية صعوبات في التغلب على قيود التزود بالوقود. إذ لا تزال تركيا تواجه تحديات في تجهيز عدد كافٍ من ناقلات الوقود بأسطول مرافق قادر على إعادة إمداد سفنها وطائراتها وقوارب الدورية التي تغامر خارج بحر إيجة. حاملة طائرات خفيفة واحدة لا تستطيع القيام بهذه المهمة بمفردها.
على الصعيد الاقتصادي، يواجه تطوير البحرية التركية تحديًا جوهريًّا يتمثل في كلفة تمويل برامج التحديث والتوسّع، خاصة في ظل الأزمات المزمنة التي تعصف بالاقتصاد التركي منذ عام 2018. فالمشروعات الكبرى، مثل تصنيع الفرقاطات والغواصات وحاملات الطائرات الخفيفة، تتطلب استثمارات ضخمة تمتد لسنوات وتستنزف موازنات الدفاع.
وأخيرا؛ تتمثل نقطة الضعف الرئيسية الأخرى في افتقار تركيا إلى موارد الطاقة المحلية التي يمكن أن تدعم طموحاتها في مجال الطاقة الصناعية، مما يجعلها تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة. ولهذا السبب، أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة أكثر إصرارًا على تأكيد مطالبها برواسب الهيدروكربون في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وهكذا؛ تبدو قصة البحرية التركية مرآةً لتاريخ بلادها الحديث. دولة وُلدت من رحم إمبراطورية كانت ذات يوم سيدة البحار، ثم وجدت نفسها مكبّلة بقيود الجغرافيا وندوب الهزيمة في مطلع القرن العشرين. واليوم؛ من ضيق بحر إيجه المحاصر بجزر الخصوم، وتحالفات المناوئين، وتبعية الطاقة المستوردة، تدفع تركيا بأساطيلها إلى ما وراء مياهها القريبة، في سباق بطيء وثقيل الكلفة لكسر هذه القيود وانتزاع موطئ قدم على خرائط النفوذ البحري، قبل أن تُغلق أمواج التاريخ نافذة الفرصة.