منذ يومه الأول بعد عودته إلى الحكم وبداية عهدته الثانية أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من الإجراءات الحمائية بهدف تصحيح وضع الاقتصاد وخفض الدين الخارجي وإعادة التوازن لاختلال الميزان التجاري مع الكثير من دول العالم.

ولأن تلك الإجراءات كانت شاملة ومسّت جميع الاقتصادات دون استثناء فقد رأت فيها جل الدول حربا تجارية غير مسبوقة وتهديدا مباشرا للاقتصاد العالمي.

ولتخفيف آثار تلك “الصدمة” على الأسواق العالمية قررت إدارة الرئيس ترامب تأجيل تنفيذ الإجراءات التي اتخذتها، ومنحت شركاءها التجاريين -خاصة الأوروبيين- 90 يوما للتفاوض بشأن التوصل المشترك إلى إقرار تعريفات “مناسبة”.

لكن هذا التأجيل لم يشمل الصين، فردت بكين بإجراءات مماثلة، ومضى البلدان في تصعيد الموقف ورفع متبادل للتعريفات الجمركية بلغ نسبة 145% من الجانب الأميركي و125% من الجانب الصيني.

وبشأن الدروع الجيواقتصادية والسياسية الصينية في حربها الاقتصادي مع الولايات المتحدة نشر مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات عز الدين عبد المولى تعليقا بعنوان “أحزمة الصين المتعددة” ناقش فيه قوة الصين المضافة إلى قوتها الذاتية الصاعدة التي باتت واقعا لم يعد ممكنا تجاوزه أو احتواؤه.

ويعتقد عبد المولى أن الولايات المتحدة -وهي تخوض هذه المواجهة سعيا لتحقيق رؤية “أميركا أولا”- تبدو خائفة مرتبكة وتتحرك من موقع دفاعي حمائي، وتنظر إلى أصدقائها باعتبارهم عبئا على اقتصادها وأمنها وقوتها، كما تبدو أميركا الترامبية تسير نحو العزلة، متحللة من التزاماتها الدولية ومن تحالفاتها الخارجية ومن أحزمتها الإستراتيجية التي شكلت على مدى عقود طويلة قوتها الحقيقية ومنحتها موقع القيادة والريادة العالميتين.

ويرى أن الصين بالمقابل تخوض هذه المواجهة متدرعة بعدد من الأحزمة تدور حولها وتعزز قوتها الصاعدة، فهدف بكين الأساسي -الذي تسعى إلى تحقيقه في مئويتها مع حلول عام 2049- هو امتلاك ناصية “القوة الشاملة”.

ولن يتحقق ذلك في نظر القيادة الحالية دون توحيد البر الصيني باستعادة تايوان، وتحقيق التفوق الاقتصادي النوعي والمزيد من الانخراط في شؤون العالم والاندراج الواسع في نسيجه المتنامي، وهو ما يتحقق عبر مجموعة مبادرات دولية وإقليمية.

الحزام والطريق

تتمدد مصالح الصين في الخارج بأشكال عدة، ولكن الرؤية التي تقود هذا التمدد وتضبط إيقاعه في سياق إستراتيجي واحد تعكسها “مبادرة الحزام والطريق”.

فقد أطلقت بكين عام 2013 مشروعا جيواقتصاديا ضخما يربط شرق العالم بغربه عبر شبكة من الطرقات البرية والبحرية، وبنية تحتية متطورة من الطرق السريعة وسكك الحديد وأنابيب الطاقة والمعابر الحدودية ومناطق التجارة الحرة لتسهيل تنقل البضائع والأموال.

وتربط المبادرة الصين بأكثر من 150 دولة في شرق آسيا وغربها وفي أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وتمر عبر المحيطين، وتغطي هذه الشبكة مساحة جغرافية تضم أكثر من ثلثي سكان المعمورة، ويتجاوز مجموع ناتجها المحلي الخام 40% من الناتج العالمي، وتستقطب نصف قيمة التجارة الخارجية للصين.

ورغم القيمة الاقتصادية لمبادرة “الحزام والطريق” فإن أهميتها الحقيقية تكمن في كونها تعبر عن رؤية الصين الشاملة لمستقبل العالم، عالم تكون فيه بكين قطبا رئيسيا ومركزا فاعلا لا هامشا تابعا، وتحتل فيه موقعا قياديا على جميع المستويات، وتشكل جزءا ضروريا من نسيجه الاقتصادي والسياسي والأمني لا يمكن عزله أو الاستغناء عنه.

شنغهاي للتعاون

تأسست منظمة شنغهاي للتعاون في عام 2001، وضمت حين تأسيسها كلا من الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.

هذه المنظمة الأوراسية ذات طبيعة اقتصادية وسياسية وأمنية، وهي أكبر المنظمات الإقليمية على أكثر من صعيد، خاصة بعد توسعها وانضمام 4 دول أخرى، هي الهند (2017) وباكستان (2017) وإيران (2023) وروسيا البيضاء (2024).

وتضم شنغهاي للتعاون عضوين مراقبين، هما منغوليا وأفغانستان، وتتمتع 14 دولة أخرى بوضعية “شريك حوار”، منها 6 دول عربية هي مصر والسعودية وقطر والإمارات والكويت والبحرين.

ويغطي امتداد المنظمة الجغرافي نحو ربع مساحة العالم، وعدد سكانها يتجاوز 40% من سكانه، أما الناتج المحلي الخام لمجموع أعضاء المنظمة فيبلغ 23% من الناتج المحلي الخام على مستوى العالم.

وتعد الصين القلب النابض لمنظمة شنغهاي والمحور الذي تدور عليه، فهي لا تمنحها اسم إحدى مدنها وحسب، بل تعد الشريك الاقتصادي الأكبر لكل بلدانها.

وتعمل منظمة شنغهاي في تناسق مع سياسة بكين الخارجية، وتتكامل مع مبادرة الحزام والطريق التي تنخرط فيها أغلب دول المنظمة، كما تشكل منصة متقدمة لاستعراض قوة الصين الاقتصادية وتأكيد وزنها العالمي.

مجموعة “بريكس بلس”

مجموعة بريكس هي حزام جيواقتصادي آخر يدعم صعود الصين ويشكل قوة مضافة إلى قوتها الذاتية، وقد توسعت المجموعة -التي تأسست عام 2009- وضمّت في السابق كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، لتشمل 10 دول بعد توسعها عام 2024 وانضمام مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات والمملكة العربية السعودية.

ولا تزال المجموعة مفتوحة لضم المزيد من الدول، ولعب دور متزايد في إطار مواجهة الهيمنة الغربية، وتعزيز نسيج المنظمات الإقليمية والدولية، وتمهيد الطريق لنظام عالمي متعدد القطبية.

وتزداد أهمية مجموعة بريكس في ظل النقاش الجاري بشأن التخلص من هيمنة الدولار الأميركي الذي لا يزال يستحوذ على نحو 80% من التجارة العالمية.

لاعب منفرد قوي

وإلى جانب هذه الأحزمة المتعددة تحيط الصين نفسها بشراكات إستراتيجية مع أكثر من 80 دولة، وتعد بكين الشريك التجاري الأكبر لأهم الكتل الاقتصادية في العالم، مثل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومنظمة آسيان.

وهي كذلك الشريك التجاري الأكبر لأكثر من 60 دولة، أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا وأستراليا وجنوب أفريقيا والسعودية والبرازيل.

ومع كونها ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة تعد الصين -حسب إحصاءات 2024- المُصدِّر الأول للبضائع في العالم بقيمة ناهزت 3.58 تريليونات دولار، متجاوزة قيمة صادرات الولايات المتحدة التي تقدر بـ2.1 تريليون دولار.

وتدرك بكين جيدا أن العالم يمر بتحولات كبرى، ويبدو أنها ترى في اللحظة الترامبية الراهنة فرصة تاريخية لشد أحزمتها وتعديل وتيرة سيرها في خضم جملة من المفارقات:

أولها: أن ترامب -الذي يرغب في السير منفردا، ويستهدف الجميع بسياساته الحمائية- لا يزعجها بقدر ما يربك أصدقاءه وحلفاءه.

ثانيها: أن الصين -التي ارتبط اسمها بالانغلاق والحمائية، وظلت على مدى ألفي عام تبني حولها “سور الصين العظيم”- تجد نفسها اليوم في مقدمة القوى العالمية التي تقود حركة العولمة التي ارتبطت بالغرب إلى حد كبير، وأسهمت الولايات المتحدة تحديدا في رسم مساراتها وفتح الأسواق أمام التجارة الدولية.

وأخيرا، يتوقف الأمر على الموقع الذي ينظر منه المرء إلى أحزمة الصين المتعددة:

فهي من جهة تبدو كأنها تحتضن العالم وتضم بعضه إلى بعض بمنظومة من المنافع المشتركة.

ومن جهة أخرى تبدو كأنها تطوقه وتشده إليها بشبكة من الحبائل التي يمكن أن تحوّل تلك المنافع إلى ديون متراكمة في ظل الاختلال المتزايد والنمو غير المتكافئ لاقتصادات العالم.

وبصرف النظر عن موقعنا وموقفنا من تلك الأحزمة الأكيد أن ثمة شيئا قد تغير في مزاج الصين وفي رؤيتها لذاتها وللعالم كشف عنه موقفها الصلب في حرب التعريفات الترامبية، مفاده أن على أميركا أن تعترف بأن القوة الصينية باتت واقعا لم يعد ممكنا تجاوزه أو احتواؤه، وأن على الصين أن تدرك بالمقابل حقيقة قوتها، وأن تتصرف في العالم وفق هذا الإدراك.

شاركها.