يُقدِّم الذكاء الاصطناعي عالماً جديداً، بإمكانات آخذة في التوسّع والنمو، متحدية خيال صانعيه أنفسهم.

لكن إمكاناته الهائلة، هذه، عرضة للاستخدام من أشخاص غير موثوقين يمكنهم الاستفادة منها في أداء أعمال وأنشطة إجرامية، فضلاً عن نشر معلومات مضللة في أوساط النشء أو بين الشباب، ممن لم يكتسبوا خبرة كافية للتفريق بين ما هو واقعي ومزيّف، خصوصاً أن له قدرة لا متناهية على محاكاة الواقع.

لهذا، يعمد كثير من الآباء إلى إثارة جدل اجتماعي مع ظهور كل لعبة جديدة، تتضمن مشاهد أو عبارات تمس القيم، أملاً في تحصين أبنائهم من تأثيراتها، ولو على المدى البعيد.

وهذا ما تواجهه سلسلة «القط مياو»، الموجهة للأطفال بألوانها الزاهية وموسيقاها المرحة، وهي مقاطع فيديو كرتونية مولدة بالذكاء الاصطناعي، إذ شهدت منصات التواصل الاجتماعي انتشاراً واسعاً لها، ولاحظ آباء أنها تتضمن إيحاءات غير مناسبة، تتعلق بسلوكيات غير لائقة، وفق ما أكدوه لـ«الإمارات اليوم».

في المقابل، حذّر مختصون في الذكاء الاصطناعي والصحة النفسية والتربية الاجتماعية من التأثيرات المحتملة لهذا النوع من المحتوى على وعي الأطفال وإدراكهم، خصوصاً في ظل قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي تتيح إنتاج مشاهد طبق الواقع يصعب التمييز فيها بين الحقيقي والمفبرك، حتى بالنسبة للبالغين.

وفي ظل غياب الرقابة الرقمية الفعلية والتصنيف العمري المناسب على منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«يوتيوب» و«إنستغرام»، شدد المختصون على أهمية أن تتحوّل الأسرة من دور المراقب التقليدي إلى شريك رقمي واعٍ، يقوم على التربية الإعلامية والمرافقة المستمرة، بما يسهم في تعزيز قدرة الأطفال على التعامل النقدي مع المحتوى الرقمي، وفهم طبيعته بعيداً عن الانبهار الظاهري أو التأثر العاطفي غير المدروس.

وشرح عالم البيانات المحاضر في كليات التقنية العليا، المهندس محمد الشحي، أن خطورة هذه المقاطع لا تقتصر على التوقعات المستقبلية، بل ظهرت أمثلة واقعية أثارت الجدل في العالم العربي، أبرزها سلسلة مقاطع «القط مياو»، وهي شخصية كرتونية تقدم محتوى يحمل إيحاءات عن خيانات زوجية وسلوكيات غير لائقة.

وفي واقعة أخرى، انتشر مقطع مقابلة وهمية يظهر فيها ضيف يتحدث في برنامج إخباري بطريقة تبدو واقعية تماماً، ليتبين لاحقاً أن المقطع مفبرك باستخدام الذكاء الاصطناعي.

وأضاف: «تكشف هذه النماذج عن مدى قدرة التقنية على خداع العين والعقل، حتى أصبح من الصعب الوثوق بما نشاهد دون تدقيق».

وعزا الشحي انتشار فيديوهات الذكاء الاصطناعي على منصات التواصل الاجتماعي بسرعة كبيرة، إلى عوامل عدة، أولها أن عنصر الدهشة والإثارة في هذه المقاطع يجذب انتباه المشاهدين، ما يدفعهم لمشاركتها فوراً. وثانياً، صعوبة التمييز بين الفيديو الحقيقي والمزيف تجعل كثيرين يعتقدون بصحته وينشرونه دون تحقق.

وأضاف أن خوارزميات منصات التواصل تعزز المحتوى الذي يحصل على تفاعل مرتفع، ما يسرع انتشاره، كما أن سهولة إنتاج هذه الفيديوهات بكميات ضخمة يومياً تزيد من وفرتها على الإنترنت.

وأكد أن الفضول وقلة الوعي الرقمي، يجعلان المتابع أكثر عرضة لتصديق المحتوى المزيف والمساهمة في انتشاره دون قصد.

وبيّن الشحي أن انتشار الفيديوهات المزيفة يتطلب تعزيز الوعي الرقمي لدى الجمهور، والتحقق من صحة المحتوى قبل مشاركته، إضافة إلى تحسين أدوات الكشف لدى منصات التواصل وتحديث القوانين لمواجهة الاستخدامات الضارة، مشدداً على أهمية التربية الإعلامية في المدارس لتجهيز الأجيال القادمة، معتبراً هذه الخطوات ضرورية لتحويل الذكاء الاصطناعي من تهديد إلى فرصة مع الحفاظ على السيطرة على التقنية.

وقال استشاري الصحة النفسية، الدكتور محمد يحيى نصار، إن الانتشار الواسع لمقاطع الفيديو المولدة بالذكاء الاصطناعي، مثل تلك التي تجسد مشاعر إنسانية عبر حيوانات كالقطط التي تمر بأحداث عن التنمر أو التي تظهر مواقف غير مألوفة، يعرض الأطفال لمحتوى يختلط فيه الواقع بالخيال بصورة لم يعهدوها من قبل.

وأوضح نصار أن لهذه المقاطع تأثيرات مزدوجة على وعي الطفل، فمن جهة يمكن أن تسهم في تنمية خياله وتعزيز قدرته على فهم مشاعر معقدة مثل الحزن، أو الخسارة، أو حتى التعاطف والتعاون، وذلك بطريقة غير مباشرة تحاكي المشاعر الإنسانية بلغة بصرية قريبة من عالمه.

لكن في المقابل، يرى أن الخطورة تكمن في أن واقعية هذه المشاهد قد تربك إدراك الطفل، وتضعف قدرته على التمييز بين الحقيقة والخيال. فالطفل، خصوصاً في المراحل العمرية المبكرة، قد يعتقد أن ما يشاهده حقيقي بالكامل، ما يجعله يكوّن تصوّرات غير دقيقة عن الواقع، وقد تنشأ لديه مخاوف غير مبررة أو معتقدات مشوهة حول العلاقات أو السلوكيات.

وأشار إلى أن تكرار مشاهد تحتوي على التنمر أو العدوانية قد يؤدي إلى نوع من التآلف مع هذه السلوكيات، حيث يفقد الطفل حساسيته تجاهها، أو يعتبرها جزءاً طبيعياً من العلاقات، دون أن يفهم أبعادها الأخلاقية أو النفسية.

كما حذّر من خطورة المقاطع التي تظهر تفاعلات «آمنة» بين الإنسان والحيوانات المفترسة، إذ يمكن أن تعزز لدى الأطفال نوعاً من الفضول غير الآمن.

وأوصى الآباء والمربين بمرافقة الأطفال عند مشاهدة مثل هذه المقاطع، وتوضيح الفارق بين المشاهد الحقيقية والمشاهد التي صنعت بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب تعزيز مهارات التفكير النقدي منذ سن مبكرة، واختيار محتوى يتناسب مع أعمارهم ويقدّم رسائل إيجابية وآمنة نفسياً.

وأكد أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم صناعة المحتوى الموجه للأطفال يلقي بمسؤولية مضاعفة على الأسرة والمجتمع، ويجعل من التوجيه والمرافقة النفسية ضرورة لا خياراً، لضمان ألا يتحوّل الخيال الرقمي الجذاب إلى مصدر قلق أو تشوّه في إدراك الطفل للعالم من حوله.

إلى ذلك، أكّدت رئيسة قسم البرامج والأنشطة في جمعية توعية ورعاية الأحداث، الأخصائية الاجتماعية عائشة راشد سعيد الكندي، أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءاً من حياة الأطفال، واقتحم البيوت دون استئذان، حاملاً معه فرصاً تعليمية وإبداعية كبيرة إذا ما وجهت بشكل سليم، لكنه في المقابل يفرض تحديات تمسّ وعي الطفل وإدراكه.

وأوضحت أن منصات التواصل الاجتماعي تعج بمقاطع فيديو مولدة رقمياً، تظهر أطفالاً في مشاهد غير واقعية، مثل صداقة طفل مع حيوان مفترس أو طفل في سن الرابعة يؤدي مهام منزلية معقدة، مؤكدة أن هذه المشاهد مصطنعة لكنها منفذة ببراعة تخدع المتلقي.

وقالت الكندي إن الطفل بطبيعته لا يمتلك القدرة على التمييز بين الواقع والخيال، ما يجعله عرضة لتقليد هذه السلوكيات دون إدراك لزيفها، الأمر الذي قد يؤثر في نموه المعرفي وسلوكياته العامة، مشددة على أهمية بناء «حصانة معرفية» لدى الأهل لمواجهة موجات التحوّل الرقمية المتسارعة.

وأشارت إلى أن دور الوالدين لا ينبغي أن يقتصر على الرقابة التقليدية، بل يجب أن يتحوّل إلى شراكة رقمية واعية، تقوم على الحوار والمرافقة والتوجيه المستمر، فمستقبل الأبناء مرهون بمدى وعي الأسرة بواقعهم الرقمي، وقدرتهم على التفاعل النقدي مع المحتوى المتداول، مشددة على أن الرقابة الفعالة تعني المواجهة والاحتواء، لا المنع فقط.

«التزييف العميق»

أفاد المهندس محمد الشحي، بأن إنشاء مقاطع الفيديو المولدة بالذكاء الاصطناعي يتم عبر تدريب خوارزميات خاصة على كميات ضخمة من الصور والمقاطع الخاصة بشخصيات أو كائنات معينة، ليعاد دمجها لاحقاً في مشاهد جديدة تظهر وجوهاً، أو أصواتاً، أو تصرفات، تبدو حقيقية بالكامل، لكنها في الحقيقة مصطنعة. وبيّن الشحي أن البرنامج يتعلم ملامح الوجه أو نبرة الصوت من خلال آلاف الصور والتسجيلات، ومن ثم يمكنه تركيب هذه البيانات لإنشاء مشهد يظهر شخصاً يقول كلاماً لم يتلفظ به يوماً، أو يوضع وجهه على جسد آخر في موقف لم يحدث. وتعرف هذه التقنية باسم «التزييف العميق»، وهي تعتمد على تقنيات متقدمة من التعلم الذاتي والشبكات العصبية المولدة.

شاركها.