لم تهدأ آلة التحريض الإسرائيلية ضد وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) طوال الأشهر الثلاثة الماضية، إذ غصت منصات التواصل الاجتماعي بموجة منظمة من الاتهامات الممنهجة، توازت مع تصريحات رسمية لمسؤولين إسرائيليين وصفت الوكالة بأنها “ذراع إرهابية”، في مسعى واضح إلى تقويض شرعيتها وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.
الهجوم على الأونروا ليس جديدا، فقد دأبت إسرائيل منذ عقود على محاولة إنهاء دورها، لكنها كثفت حملتها بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومنذ ذلك التاريخ، أطلقت تل أبيب جوقة واسعة من الأصوات في الفضاء الرقمي، بهدف نزع الشرعية عن الوكالة وفك ارتباطها بالقضية الفلسطينية.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
في هذا السياق، أجرى فريق “الجزيرة تحقق” تحليلا شبكيا لرصد أنماط التفاعل على منصة “إكس” بين مطلع يونيو/حزيران الماضي وسبتمبر/أيلول الجاري.
شمل الرصد نحو 5 آلاف تغريدة، كشفت عن خيوط حملة منسقة تسعى إلى ضرب صورة الأونروا، من خلال إغراق الفضاء الرقمي بادعاءات تربطها بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتقديمها كواجهة للعمل المسلح.
خطاب تحريضي منسق
مع اتساع نطاق الحملة الرقمية، برزت الأونروا في قلب الاستهداف، إذ تصدرت تغريدات عشرات الحسابات الإسرائيلية والغربية المؤثرة التي كررت الخطاب التحريضي ضدها.
بعض هذه الحسابات مؤسساتي يتبع جهات رسمية مثل جيش الاحتلال ووزارة الخارجية الإسرائيلية، في حين يقود بعضها الآخر ناشطون معروفون بانحيازهم للرواية الإسرائيلية، مثل هيلل نوير، الذي لا يتوقف عن تقديم الوكالة باعتبارها “ذراعا لحماس” أو “منظمة إرهابية”.
ومن بين أبرز هذه الأصوات، يبرز حساب “VividProwess” الذي اتخذ خطا ممنهجا لربط الأونروا بحركة حماس ووصمها بأنها مصنع لتخريج “إرهابيين”، وقد كرر الحساب المزاعم ذاتها عبر تغريدات متكررة، ركزت على شيطنة طلاب الوكالة، وتقديم المدارس التابعة لها بوصفها حواضن للتطرف.
The children of Gaza have been taught to be future terrorists for decades now with the help of Hamas and UNRWA. https://t.co/jLu2uG4Oke
— Vivid.🇮🇱 (@VividProwess) August 13, 2025
أما هيلل نوير، فيمثل الصوت التحريضي الأكثر بروزا، مستندا إلى تقارير منظمة “UN Watch” التي يرأسها، ويجمع بين أسلوب الادعاء الموثق ظاهريا من خلال ذكر أسماء ومناصب وروابط، وبين خطاب سياسي مباشر يصنف الأونروا باعتبارها “وكالة إرهاب”.
كما تتمحور منشوراته غالبا حول مهاجمة المفوض العام للوكالة فيليبي لازاريني، وربط الوكالة بحركة حماس، إضافة إلى الترويج لرواية تقول إن دافعي الضرائب في دول مثل السويد وبريطانيا وكندا يمولون “الإرهاب” عبر دعم الأونروا.
BREAKING:
🇸🇪 Sweden will give ZERO to terror-infested UNRWA. 👏👏👏https://t.co/FGP7hLu5Wo
🇪🇬 Egypt gets reviewed tomorrow. I’ll be taking the floor.
🏴☠️ Francesca Albanese released a new report targeting US companies and Christian friends of Israel who dare to support the Jewish… pic.twitter.com/8JXht2qeah— Hillel Neuer (@HillelNeuer) July 1, 2025
وإلى جانبهما نشطت حسابات أخرى في نشر خطابات مشابهة، لتشكل معا شبكة متكاملة كررت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة المزاعم ذاتها، في محاولة لتثبيت صورة سلبية عن الوكالة الأممية في الوعي الرقمي الغربي.
وتكشف الخريطة البصرية للتحليل الشبكي الذي أجراه فريق “الجزيرة تحقق” أن الحملة ضد الأونروا لا تقتصر على المنابر الرسمية الإسرائيلية، بل تمتد إلى شبكة واسعة من “الحسابات الرقمية” التي تتوزع بين ناشطين سياسيين ومؤثرين على المنصات الاجتماعية.
ويعمل هؤلاء على إعادة تدوير السردية الإسرائيلية التحريضية وتوسيع نطاق انتشارها، في مسعى لتقويض صورة الوكالة الأممية ونزع شرعيتها، تمهيدا لإضعاف ملف اللاجئين الفلسطينيين وتهيئة الرأي العام الدولي لتقبل تصفيته.
رواية الأونروا
وفي تعليقه على هذه المساعي، قال المستشار الإعلامي للأونروا الدكتور عدنان أبو حسنة في تصريحات لـ”الجزيرة تحقق” إن حملة التحريض الإسرائيلية “منظمة وتأخذ أبعادا واسعة”، مشيرا إلى أن تل أبيب أنفقت ملايين الدولارات لربط الوكالة بما يسمى “الإرهاب”، عبر حملات دعائية استهدفت محركات البحث مثل غوغل، والإعلانات في الشوارع الأميركية والأوروبية، فضلا عن محاولات التأثير على برلمانات عدة دول غربية.
وأضاف أبو حسنة أن “هذه الاتهامات لم تثبت أبدا، ولا يوجد أي دليل عليها”، لافتا إلى أن إسرائيل رفضت التعاون مع لجان التحقيق والأونروا، مما يجعل ما تروجه “مجرد ادعاءات تهدف إلى تصفية الوكالة وتشويه سمعتها وتقويض عملياتها وسحب شرعيتها”.
تحريض علني
لم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي للأونروا على الفضاء الرقمي، بل تجاوزه إلى حملة تحريض علنية قادها وزراء وأعضاء كنيست متطرفون، فقد دعم هؤلاء مشاريع قوانين تسعى إلى حظر الوكالة ووقف عملها داخل الأراضي الفلسطينية، في إطار مساع سياسية موازية لحملات التشويه الرقمية.
وتشير متابعاتنا إلى أن إسرائيل باتت تستغل أيضا صناع محتوى إسرائيليين وأجانب، وتوظفهم كأدوات دعائية لتشويه صورة الأمم المتحدة ومنظماتها، بما فيها الأونروا، عبر منصات رقمية وتقارير إعلامية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك يسرائيل كاتس إلغاء بلاده الاتفاق مع الوكالة، قائلا إن “الأونروا التي شارك موظفوها في مجزرة 7 أكتوبر، وكثير من موظفيها من ناشطي حماس هي جزء من المشكلة في قطاع غزة وليست جزءا من الحل”.
كما لم تتوقف موجة التحريض عند حدود الخطاب الرسمي، إذ صعّدت شخصيات سياسية إسرائيلية هجومها المباشر على الوكالة، فقد وصفت يوليا مالينوفسكي، عضو الكنيست عن حزب “إسرائيل بيتنا”، الأونروا بأنها “منظمة إرهابية، ليس فقط في القدس، بل أيضا في يهودا والسامرة (الضفة)، وهي كذلك منظمة إرهابية في غزة، ببساطة طابور خامس داخل دولة إسرائيل”، مضيفة أن استمرار عمل الوكالة في غزة وتلقيها المساعدات “عار على حكومة إسرائيل”.
وفي موازاة ذلك، لجأت إسرائيل إلى توظيف صناع محتوى إسرائيليين وأجانب لزيارة مواقع تجميع المساعدات عند معبر كرم أبو سالم، حيث أنتجوا مقاطع فيديو بعدة لغات للترويج لرواية مضللة تزعم أن تل أبيب بريئة من المجاعة في قطاع غزة، وتحمل المسؤولية كاملة للأمم المتحدة ومنظماتها، وفي مقدمتها الأونروا.
خناق قانوني
لم يقتصر التحريض الإسرائيلي على الأونروا على الفضاء الرقمي وقطاع غزة، بل امتد ليلاحق مؤسساتها في القدس والضفة الغربية المحتلتين عبر ذرائع واتهامات مشابهة تهدف إلى سحب شرعيتها أمام المجتمع الدولي.
ففي 30 يناير/كانون الثاني الماضي، دخل قرار سلطات الاحتلال القاضي بحظر عمل الوكالة في القدس الشرقية حيّز التنفيذ، مما أجبر الموظفين الدوليين على مغادرة المدينة بعد انتهاء تصاريحهم الإسرائيلية، في حين غاب الموظفون المحليون عن مقار الوكالة.
ولم يكتف الاحتلال بهذا الإجراء، بل واصل تضييق الخناق عليها. فقد كشفت صحيفة “هآرتس” في يوليو/تموز الماضي أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على دفع مقترح قانون يمنع تزويد مباني الأونروا بالكهرباء والمياه، إلى جانب السماح بالاستيلاء على مجمعين تابعين للوكالة في القدس لم يتم إخلاؤهما رغم القوانين القائمة.
تصفية ملف اللاجئين
ورغم أن الحملة الإسرائيلية تبدو في ظاهرها استهدافا مباشرا لعمل الأونروا وأنشطتها، فإنها تخفي وراءها هدفا أوسع وأعمق، يتمثل في السعي إلى تصفية ملف اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء حلم العودة.
ويقول المستشار الإعلامي للأونروا الدكتور عدنان أبو حسنة إن “هذه الحملة تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي تصفية حل الدولتين، وهذا ما تعتقده إسرائيل”.
وأضاف أن هذه الحملة الخطيرة أسفرت عن وقف الولايات المتحدة تمويلها للوكالة الذي بلغ 360 مليون دولار سنويا، إضافة إلى السويد، “غير أن بقية الدول عادت لاحقا إلى استئناف تمويلها للأونروا”.
وتكشف تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مناسبات سابقة عن هذه المقاربة، إذ وصف الأونروا بأنها “منظمة تديم مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وتدعم الرواية المزعومة بحق العودة، التي تهدف إلى القضاء على إسرائيل”، معتبرا ذلك مبررا كافيا لإغلاق الوكالة الأممية.
تبعات الاستهداف
وردا على اتهامات نتنياهو بأن الأونروا تسعى إلى تكريس اللجوء، قال المستشار الإعلامي للوكالة الدكتور عدنان أبو حسنة لـ”الجزيرة تحقق”: “نحن لم نكرس اللجوء، بل نحن منظمة أنشئت بتفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى تُحل قضية اللاجئين، وبعد ذلك لا لزوم لوجود الأونروا. أما صفة اللاجئ وانتقالها إلى الأبناء والأحفاد فهو أمر معمول به في كل أنحاء العالم”.
وأضاف متسائلا: “هل اللاجئون الأفغان الذين وُلدوا في باكستان فقدوا صفة اللجوء؟ هذا الكلام مناقض للقانون الدولي، ونحن نطبّق القانون الدولي تماما”.
وعن تأثير هذه الحملة على اللاجئين الفلسطينيين، أوضح أبو حسنة أن إلغاء عمل الأونروا سيضرب كل مجالات حياتهم، قائلا: “الأونروا هي عصب حياة اللاجئين الفلسطينيين، فهي تدير مدارس تضم نحو 550 ألف طالب في القدس والضفة وغزة والأردن ولبنان وسوريا، وتقدم خدمات لملايين اللاجئين. وفي غزة وحدها، ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قدمت الأونروا نحو 10 ملايين زيارة لعياداتها الطبية”.
ولم تتوقف حملة الاحتلال عند التحريض الإعلامي والسياسي، بل تصاعدت إلى الاستهداف المباشر لموظفي الوكالة ومقارها. فقد أعلنت الأونروا أن نحو 360 من موظفيها قتلوا منذ بداية الحرب على غزة، كثير منهم أثناء تأدية واجبهم، بينما أصيب المئات، واعتُقل ما يقارب 50 موظفا وتعرض بعضهم للتعذيب قبل إطلاق سراحهم.