نسيت (الداهية) نفسها، وهي تروي لأحفادها قبل النوم، حكاية ثلاث نجوم هوت من السماء ليلة النصّ، وما باح الشهر إلا والإخوان (الطاوي والعاوي والجاوي) في قبورهم، وأقسمت أن الفقيه عرف أن الطاوي؛ تسبّب في موت العاوي والجاوي، فنشدوها كيف يعرف الفقيه؟ فجاوبتهم؛ طلب من قساة قلوب يفتشون قبره، ولقيوه يعضّ على كفنه بأسنانه، فطقوه بالعطيف في رأسه؛ لأنه مستتبع، خِلقة الخروف اللي تذكّيه ويخرج لسانه، احتجت زوجة ابنها على روايا الموت، قائلة؛ يا عمّة لا تخرعين سُفاني بحكاوي الجاهلية، يصبحون وفراشهم ينعصر عصر، فسكتت شويّة؛ وقالت؛ ما عاد عليك إلا تلجّميني كما البهيمة، يا بنت (ملاحة الفريقة).
قطعت الحكاية، والصغار متشوقون يسمعون، فطلبت منهم، يحكونها في ظهرها وتكمّل فوق سريرها، واللي يحكّ بنشاط تنبسط منه، وتقول؛ قام حظّك، اندر إيدك على العصعوص، فيتضاحكون وهم يحكون عصعوصها، وهي تشجع؛ أنا فدا الكفوف ومن هي كفوفه، ولاحظ أصغرهم أن صدر جدته مرتخي، فنشدها؛ وشب صدرك مهطّل يا جدة؟ قالت؛ تقصّعت كما عذوق الذرة اللي ما جاء لها بغرة، أعجبها السؤال؛ فقرّبت لهم الصورة؛ وقالت؛ الشاة إذا مات بهمها ضرّتها تنشل، وأنا ما عاد لي في الدنيا إلا أبوكم وعمكم، فصاحوا بصوت واحد؛ وانحن، علّقت؛ الله يطرح فيكم البركة.
دخلت الجدّة في نومة تولّفت عليها فيها الأحلام، وطبقت على أنفاسها المربّطة، وفزّت ومثانتها بتنطق من كثرة فناجيل القشر اللي شربتها في الليلة الماضية، فتناولت إبريقها الفضّي، من تحت سريرها، وخرجتْ تطهِرْ في مسراب مُظلم، تعوّذت من الشيطان وما أمداها تواست متقعفزة، إلا والتيس يبعبع من السفل، فتخلّط العالي بالواطي، وزهدت في الطهور، وبالكاد لملمتْ عُمرها، وسمّت على نفسها بالرحمن، وصعدت إلى جناح العِلو لتكمل وضوءها أمام السُّدة، فشعرت بشيء دخل بين سيقانها فصاحت (يا به) سمعتها زوجة ابنها فأقبلت كما البرق، وهي تردد؛ وشبك يا عمّة لا يكون لقصك داب، ما ردّت عليها، فخبطت بكفها على صدرها وذكرت الله ومحمد حبيب الله وفاطمة بنت النبي، فاستغل القطّ الأسود الفرصة ودخل على ركن البيض، فقّسه والدجاجة والديك ينظران بعيون الحسرة.
استيقظ حفيدها الأكبر وزوجته العروس، ضحوة، وهبّت فيهما؛ حليلكم يا صفة لقّيني وراك، تناصف النهار، وسرح الخلق كل في ضيعته؛ وأنتم تشمشمون بعضكم؟ وأضافت مستعرضة تاريخها ونساء جيلها؛ الله يسقي يوم كانت الواحدة منّا تروح عروس، وما تشرق الشمس، إلا وقربتها ودلوها فوق كتفها، والجماعة يراقبون خطوتها واسعة وإلا ضيّقة، استحت العروس، والتحقت بعمّتها في طرف الشقيق، وعادت بصحن فيه قرص مشرّق، وزبدية سمن، فشتف لها من القرص ومدّ به للجدة، التي لم تنزل عينها عن العروس، قالت؛ أسلم؛ فقرّب منها الزبديّة وقال؛ بُلّيه؛ علّقت ضاحكة؛ الله يرحم اللي يعرف له، فعمّ المكان حالة من الضحك الجماعي العريس وعروسته وأمه والجدّة؛ ولما زاد الضحك؛ نهرتهم الجدّة؛ ودموعها تتقافز من عينيها؛ اللهم اجعله خير.
ما هلا وذّن العصر، وصلّت (الداهية) صلاتها؛ دقّها قلبها؛ وقالت لحفيدها الصغير، ابد من فوق الجناح، تشوّف لابوك من وقت ما سرح جهمة الطير، ما عاد ولا راد، فتحفّش أسفل ثوبه، وإذا به يرى لمّة رأس البير، فعوّد عليها، وقال الجماعة متولّفين عند البير المنخشلة، وفزعت بشونها، وقامت تهلل وتكبّر، وشوية تستقيم وشوية تقعد، ونعشوا المطاليق ابنها، وما وصلوه البيت وفي عينه قُطرة، ودخلت الجدّة في حزن، ضاعف كمدها العتيق، واستعادت أحزانها في الفانين، ولكنّها خشية على ابنها الأخير عصبت رأسها، والتقطت فأسها، وكل يوم تروح بقراها قرض وطلح، استعداداً للشتاء، وفي مسراحها ومراحها، لاحظت أن زوجة حفيدها تبارع الطير في الهوى.
وفي إحدى ضحوياتها، نصحت أمه، تخلي عينها منها، وقالت؛ الورعة بنت (ملقّح الحمير) من بيت في بيت؛ تدوّر لها ديس رضّاعة، لا تتبلانا في أتلى عمرنا، وولدك الفاغر ما يفرّق بين المدخوش والمغشوش، عسى ربي يخذلك إنتي وهو معك، كان علّمتيه؛ فردّت المسكينة، شرشفها على ثمّها؛ مرددة؛ يا الله في المزى من عندك، الولد رجّال لحيته ملا وجهه، تبغيني أعلّمه كيف يرقد مع مرته، فاستغلّت الفرصة، وعلّقت؛ علّمتي أبوه قبله لين قحم نفسه في البير شردة منك، غدت سيقانه كما مساويط العصيدة، فضحكت وتشروقت عيونها وانفرطت تبكي.
فقامت الأم الطيّبة تحتضنها، وتطيّب خاطرها، وعندما هدأت، قالت؛ تدرين يا بنتي إنك اللي بقيتي لي من الدنيا، وانا ما تذاومت، إلا بهذي المخلوقة اللي من يوم دخلت بيتنا دخل معها الغبير والدبير، وليتنا ما وصيتك يا (خويته) تغسلينا أقدامها قبل ما تزل من العتبة بماء بارد، شغَلَك نقر الدُّف والغطرفة كنك خذت لولدك بنت الباشا.
صفنت ساعة، ومدّت كفها على وجهها وربطت دقنها، وقالت هذا وجهي لتغدي مصنف العارف والطارف والركيب الخارف، وعندما شعرت الجدّة، بتساهل البيت كلّه مع العروس الفالتة، استقعدت فوق العابر تقصّد في دخلتها وخرجتها؛ (يقل محمد ملاسي مِنْ رِضِي ما غِبن، لا تنصحون العرب كُلاً برُشده يعيش، درجت فـ الأرض ما شي مثل حُزن الصدر، تنتج فواكه ومكسبها لغير أهلها).
أخبار ذات صلة