تزايدت أعداد وأنشطة بيوت الثقافة حدّ اعتقاد المتابعين للمشهد الثقافي في السعودية، أنّها البديل الأمثل عن الأندية الأدبية وعن فروع جمعية الثقافة والفنون، وفي ظلّ الاهتمام الملحوظ، على مستوى بنيتها التحتية والتجهيزات في مقار بيوت الثقافة التي اُفتتحت، إلاّ أنّ هناك حواراً تفاعلياً بين شرائح ثقافية؛ عن ماهيّة وهويّة المؤسسات الأحدث وجمعياتها العمومية وصلاحية المجالس، ويتساءل النخب عنها؛ هل غدت بيوت الثقافة والجمعيات بديلاً لمؤسسات كلاسيكية عريقة قامت بدورها الثقافي والأدبي على قدر استطاعتها ومساحة ظروفها، أم أنها امتداد طبيعي، ربما يوقع في نمطية المحاكاة؟

وهنا استنارة برأي عدد من ذوي الرأي؛ فيرى مدير جمعية الثقافة والفنون في الطائف التشكيلي فيصل الخديدي أن جمعية الثقافة والفنون منظمة ثقافية غير ربحية فاق عمرها الخمسين عاماً، والامتداد الزمني ارتقى بها لتصبح بيت خبرة في المجالات التي تشرف عليها من فنون مسرحية وأدائية وسينمائية وفنون بصرية وموسيقية وأدبية. وأضاف: كانت الأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة متنفساً وحاضنة للمثقفين والفنانين بمختلف أجيالهم وتطلعاتهم، ولا يزال لما هو قائم منها الفضل الكبير في رعاية المبدعين في الفنون والثقافة المحلية، وخرجت من عباءتها وساهمت بشكل كبير في تشكيل هوية وملامح الفنون السعودية؛ وعلى الرغم من كل العقبات التي تجاوزتها وتتجاوزها تبقى مظلة مهمة لا غنى عنها، وتغييبها أو غيابها لا يخدم الحراك والانفتاح الثقافي والفني الذي يعيشه وطننا الغالي في المجالات الثقافية والفنية، مؤكداً أنّ مرتكزات جودة الحياة جعلت الجمعية بجميع فروعها تستعجل المواءمة وتحقيق أعلى معايير الحوكمة لتكون نابضة بفاعلية؛ مع الجمعيات الأدبية التي لا يتعارض حضورها مع حضور غيرها من المؤسسات وبيوت الثقافة؛ كون لكلٍّ دوره، وثقافتنا تستحق فتح المجال لمزيد من المؤسسات وفق تنظيم واضح ومحدد بلوائح وتوصيف مهمات يضمن الوصول بجهود الجميع لواقع مشرف ومستقبل مشرق لثقافة المجتمع، ويسجل حضوراً عالمياً مبهراً بهوية سعودية.

فيما أوضح مدير جمعية الثقافة والفنون في أبها أحمد السروي أنّ تكامل العمل بين المؤسسات الثقافية لخدمة الحراك الثقافي والفني مهمّ وهو أحد الأهداف الأساسية التي تسعى إليها وزارة الثقافة. ويؤكد السروي أنّ استضافة الفعاليات الثقافية والفنية في بيوت الثقافة تُعد خطوة جيدة، ولعلّ من أهدافها الوصول إلى شرائح أوسع من المجتمع وتوزيع المهمات بين الجهات، وتعزيز حضور العمل الثقافي والفني وربما تبادل الخبرات بين الجهات الفاعلة. لكنّ السروي لا يرى أنّ بيوت الثقافة بديل عن مؤسسات ثقافية عريقة كجمعيات الثقافة والفنون؛ لأنّ الطرح في هذه الحالة لا يكون دقيقاً. السروي قال: إنّ الجمعيات تمتلك خبرة طويلة في العمل الفني تخطيطاً وتنفيذاً وإنتاجاً وتُعد بحكم تخصصها وتراكم تجاربها وتاريخها الممتد لنحو نصف قرن أحد أبرز الكيانات التي أدت دوراً محورياً في دعم العمل الثقافي والفني، ومأسسته، وتطوير ممارساته وتفعيله بمختلف أشكاله واتجاهات ممارسيه، إضافة إلى أنّ نطاق العمل في جمعيات الثقافة والفنون أوسع، إذ ساهمت في تطوير الممارسات الفنية من خلال برامج تدريبية فنية ومشاريع مبتكرة مع جهات ذات صلة وتنظيم معارض وفعاليات تعزز التنوع الثقافي، كما تمتاز بمرونتها وقدرتها على التفاعل مع مختلف توجهات الممارسين. ولفت السروي إلى أنّ هناك تحديات تواجه جمعيات الثقافة والفنون وفي مقدمتها ضعف الموارد المالية وغياب المقرات الدائمة، هذه المعوقات أدّت إلى تراجع كبير في حضورها، مما أثّر سلباً في قدرتها على تنفيذ البرامج والفعاليات النوعية التي اعتادت تقديمها، وبالتالي فإنّ دعم هذه الجمعيات وإيجاد مقرات ثابتة لها تتوافر فيها البيئة المناسبة للفنان خيارات مهمة من شأنها الارتقاء بجودة المنتج الفني وتمكينها بالتوازي مع الدور الذي تقدمه بيوت الثقافة، وكلّ هذا سيسهم في بناء مشهد ثقافي متكامل تتوزع فيه الأدوار بوضوح وتكامل ويُعزز المسار نحو تنمية ثقافية شاملة ومستدامة.

وعدّ الإعلامي سعيد جندب بيوت الثقافة في شكلها الحالي أكثر أناقة من المكتبات العامة بلمسات فنية، وإن كانت رؤيتها وبرامجها لم تتضح بعد للمهتم، وتساءل جندب: ماذا تقدم بيوت الثقافة للمثقف والباحث؟ وما العائد منها للمثقف سواء مكافأة أنشطة أو دور في نشر الإنتاج الذي قامت به منذ سنوات الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والفنون؟! وذهب إلى أنّ ما ظهر له لا يعدو كونه تزييناً لواقع جميل، وإضافة لمسات أخاذة دون قواعد تنظيمية واضحة، لافتاً إلى أنه لم يطّلع على أسماء مديري بيوت الثقافة إلا أنه لا يستبعد أنهم ليسوا من أصحاب التجارب الأدبية والثقافية والفنية، ويخشى أن يكون المنتج أقل من الطموحات بل ومعدوم الأهلية للوصول لذائقة الملتقي.

وأضاف: بيت الثقافة مكانه المناسب في عمق المدن أو بالقرب من جامعة أو جهات سياحية ليكون وجهة وليس في داخل محافظة كما هو شأن بيت الثقافة في منطقة عسير، الذي تم إنشاؤه في أطراف محافظة أحد رفيدة ويبعد عن عاصمة المنطقة أبها 45 كم.

ولفت جندب إلى أنّ الأندية الأدبية وفروع جمعية الثقافة والفنون كانت جاذبة وداعمة ومتفاعلة وهذا ما فشلت فيه بيوت الثقافة إلى الآن!

ويؤكد القاص حسين بن صبح أن بيوت الثقافة ليست بديلاً مباشراً للأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة والفنون، إذ لكل مؤسسة من هذه المؤسسات طابعها الخاص ومسارها التاريخي والجمهور الذي اعتاد على حضور فعالياتها ومتابعة إنتاجها. وأضاف: الأندية الأدبية نشأت لتكون بيتاً للأدباء والكتّاب والنقاد، وأسهمت عبر عقود في تكوين المشهد الأدبي وتوثيقه من خلال الأمسيات والندوات وإصدار الكتب والمجلات المتخصصة، كما تميزت بالملتقيات النوعية مثل ملتقى النص، وهذا الدور المتجذر يصعب أن يتكرر في مؤسسة جديدة تختلف في طبيعتها وأهدافها، مشيراً إلى أن جمعيات الثقافة والفنون كانت أكثر التصاقاً بالأنشطة الفنية من مسرح وموسيقى وفنون تشكيلية وتصوير فوتوغرافي وسينما، وخلقت بيئة حاضنة للمواهب الشابة ووفرت لهم منصات للعرض والتجريب والتدريب. ويرى أنها استقطبت جمهوراً يتذوق الفنون ويبحث عن فضاء واسع للتعبير والإبداع، ومن ثم فإن مسارها لا يلتقي بالضرورة مع المسار الأدبي للأندية، ولا مع الإطار الشعبي المفتوح لبيوت الثقافة.

ولفت ابن صبح أنّ بيوت الثقافة تأتي عادة بصيغة أكثر مرونة وشمولية، فهي فضاءات عامة تستقطب شرائح واسعة من المجتمع، وتقدّم الثقافة بوصفها ممارسة يومية مرتبطة بالحياة، لا نشاطاً نخبوياً أو فنياً متخصصاً، وهي أقرب لأن تكون منصات للتثقيف المجتمعي، عبر محاضرات عامة، وأنشطة تعريفية بالفنون والآداب. كذلك فهي تستقطب غير المهتمين بالأدب لقضاء وقت فراغ، فالمقاهي الأدبية كسرت حاجز الهيبة الذي صنعته الأندية الأدبية، بهذا المعنى فهي تكمل المشهد ولا تُلغي مكوّناته السابقة. وأضاف: من الخطأ أن نتوقع أن تحل بيوت الثقافة أو المقاهي محل الأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة والفنون، لأن لكل مؤسسة جمهوراً وذاكرة وتجربة ممتدة لا يمكن نسخها أو تجاوزها بسهولة. فالأندية كانت ملاذ الأدباء والباحثين، الجمعيات فضاءات الفنون وأصحاب المواهب، وبيوت الثقافة والمقاهي مساحة للتقريب بين الثقافة والمجتمع. ولفت إلى أن التلاقي بينها يثري المشهد ويجعله أكثر تنوعاً وشمولاً، ليجد كل فرد مكانه الطبيعي الذي ينسجم مع اهتماماته وتطلعاته.

الفضيل: بيوت الثقافة استعادة للهوية وتفعيل للمحتوى

يرى المستشار الثقافي الدكتور زيد بن علي الفضيل أنّ التجاهل أكبر إشكال واجهته وتواجهه الثقافة في واقعنا الحياتي، لافتاً إلى أن الألم يتضاعف عندما يأتي التجاهل من دُور تعلن أنها تهتم بها؛ وأقصد بها مؤسسات الأندية الأدبية في المملكة، التي عمدت إلى اختزال الثقافة في جنس واحد من أجناس المعرفة وهو الأدب بكل تفرعاته الحديثة من رواية وقصة علاوة على الشعر، ناهيك عن علوم النحو والصرف، وبذلك تحولت الأندية إلى فروع لأقسام اللغة العربية، وعبثاً كان رفع الصوت لسدنة تلك الأندية بأن يحرروا المؤسسة من هذا القيد، فكان أن ظلت مكبلة بقيودهم حتى جرى أخيراً إلغاؤها رسمياً وتحويلها إلى جمعيات مهنية باسم الأدب، والمؤسف أن بعضها قد استولى على مكتسبات النادي السابق، وهو ما يجب على وزارة الثقافة أن تتنبه له. وأضاف الفضيل: في ظل هذا السياق جاء إعلان هيئة المكتبات بوزارة الثقافة لتأسيس بيوت للثقافة بمثابة التأسيس الصحيح للفعل الثقافي في السعودية، والذي لا يختزل الثقافة في جنس واحد يهيمن على جوهرها ويلغي الآخر أسوة بما مضى، فنحن هنا أمام بيت للثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي الواسع، وليست لاحقة بالأدب كما كان في مؤسسة النادي الأدبي بجدة، أو مشمولة ضمناً في ثنايا الاسم كما في الأندية الأخرى سابقاً، مشيراً إلى أن اسم البيت يعكس مدلولاً حميمياً يتجاوز بتأثيره مسمى النادي، وأجادت وزارة الثقافة باختيار المسمى، كما يحتوي بمضمونه كل مصادر المعرفة وأفانينها ومشغولاتها الفنية، وهي بذلك؛ وأقصد بيوت الثقافة التي جمعت ما تناثر وتقطعت أوصاله سابقاً بين مؤسستي النادي الأدبي وجمعية الثقافة والفنون. وذهب إلى أن المهم أن يكون لبيوت الثقافة منهج تمضي به، وغاية تحقق أهدافه، كما مهم أن يكون في المدن الكبرى أكثر من بيت للثقافة ليتسنى لها احتواء النشء، إضافة إلى شراكتها مع المؤسسات التعليمية وأنشطة الطلاب في الجامعات، لتحقق مستهدفاتها بمساحات أوسع.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.