تشهد منصات التواصل الاجتماعي في المملكة المتحدة منذ مطلع الأسبوع موجة غير مسبوقة من الغضب والانتقادات، استهدفت في بدايتها الجالية الباكستانية، بالتزامن مع احتفالاتها بالذكرى الـ78 ليوم الاستقلال.

مقاطع مصورة حصدت ملايين المشاهدات خلال ساعات قليلة، وتحولت سريعا إلى مادة للتجييش السياسي والإعلامي.

لم تقتصر الحملة على الباكستانيين وحدهم، بل تمددت لتشمل المهاجرين عموما، والمسلمين، ووجدت حسابات يمينية متطرفة، وأخرى مشبوهة، إلى جانب منابر إعلامية وشخصيات رسمية، في منصة “إكس” مساحة مثالية لتأجيج خطاب الكراهية، وتحويله إلى قضية رأي عام تتصدر “التريند” البريطاني.

فريق “الجزيرة تحقق” تتبع مسارات انتشار هذه الرواية، التي روجت -من بين مزاعمها- لادعاء يقول إن “علم إنجلترا أزيل مقابل رفع علم باكستان”، وهي القصة التي صورها مروجوها كدليل على ما سموه “الغزو الإسلامي” للمملكة المتحدة وعدم احترام المهاجرين لبلدهم المضيف.

إزالة علم بريطانيا

في 14 أغسطس/آب الجاري وبينما كانت باكستان تحتفل بعيد استقلالها الـ78 عن شبه القارة الهندية وتأسيس الدولة عام 1947، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات تزعم أن الباكستانيين شاركوا في حملة لإزالة علم المملكة المتحدة من شوارع بريطانيا، مستشهدين بمقاطع فيديو حققت ملايين المشاهدات.

رأى بعض الناشطين أن ما وصف بأنه “حملة باكستانية منظمة” لم يأت من فراغ، بل جاء كرد مباشر على حملة أخرى باسم “رفع الألوان”، دعت من خلالها مجموعات بريطانية إلى رفع علم إنجلترا على أعمدة الإنارة وفي الشوارع، ونشرت صورا ومقاطع فيديو توثق ذلك عبر حساباتها على منصتي “فيسبوك” و”إكس”.

وتزامن ذلك مع إطلاق حملة أخرى بعنوان “تمويل الأعلام”، هدفت إلى جمع التبرعات لشراء ورفع أعلام إنجلترا في شوارع مدينة ويتال، مؤكدة -بحسب القائمين عليها- أنها “مبادرة تعبر عن الوطنية والانتماء للبلاد، وليست ممارسة عنصرية”.

وفي وقت لاحق، تصاعدت حدة الخطاب على المنصات الرقمية مع انتشار منشورات دعت صراحة إلى أن “يعود الباكستانيون في المملكة المتحدة إلى وطنهم الأم”.

وترافقت هذه الدعوات مع تعليقات متداولة تزعم أن “ولاء هؤلاء الأفراد ليس لبريطانيا، بل لباكستان”، في حين مضى آخرون أبعد من ذلك، واعتبروا الأمر دليلا على ما وصفوه بـ”الغزو الإسلامي” الذي يهدد هوية البلاد.

أجرى فريق “الجزيرة تحقق” بحثا موسعا حول المقاطع التي غذت موجة الانتقادات ضد الباكستانيين، ليتضح أنها لا توثق أي حملة منظمة لإزالة “علم إنجلترا”، كما زعم بعض المستخدمين، بل مجرد لقطات من مراسم تقليدية لاحتفالات يوم الاستقلال في القنصليات الباكستانية بالخارج، حيث يرفع العلم الوطني بشكل دوري في هذه المناسبة.

وباستخدام تقنيات البحث العكسي، وتحديد الموقع عبر خاصية “التجول الافتراضي” في خرائط غوغل، تأكد الفريق أن المقطع الأكثر تداولا صوّر في 14 أغسطس/آب الجاري داخل ساحة قنصلية باكستان بمدينة غلاسكو في أسكتلندا.

مقارنة الفيديو المتداول بمشاهد من “خرائط غوغل” التقطت في مايو/أيار 2021 (منصات التواصل)

كما عززت الصفحة الرسمية لقنصلية باكستان في غلاسكو على “فيسبوك” هذه الرواية، بعدما نشرت مقاطع وصورا من مراسم الاحتفال بالذكرى الـ78 للاستقلال، التي شارك فيها أكثر من 800 شخص، بينهم شخصيات من الجالية الباكستانية وممثلون عن المجتمع المحلي.

 

هجوم على عمدة برمنغهام

لم تتوقف المزاعم عند الاحتفالات الرسمية، إذ شنت حسابات مشبوهة وأخرى مرتبطة بإسرائيل حملة واسعة ضد عمدة مدينة برمنغهام، زافر إقبال، مدعية أنه شارك في “إزالة علم المملكة المتحدة ورفع علم باكستان” خلال فعاليات الاستقلال، وارتبطت هذه المنشورات بسرديات تحذر من ارتفاع نسبة المسلمين في المدينة، في محاولة لربط المناسبة باصطدام ثقافي وديمغرافي.

لكن فريق “الجزيرة تحقق” تتبع أصل الفيديو المتداول، وتوصل إلى النسخة الأولى على منصة “تيك توك”، وباستخدام أدوات البحث البصري، تبين أن اللقطات الحقيقية تظهر رفع العلم الباكستاني إلى جانب علم المملكة المتحدة أمام مجلس مدينة برمنغهام، وبمشاركة رسمية من العمدة ذي الأصول الباكستانية، مما يدحض الادعاء بوجود “إزالة” أو استبدال للعلم الوطني.

@saimaharoonofficial1

Traditional 🇵🇰 flag hoisting ceremony outside Birmingham city council to mark the Independence Day celebrations, hosted by the Lord Mayor Cllr Zafar Iqbal and attended by the council general of Pakistan Fahad Amjad, Ayoub Khan MP, local councillors and members of community….. #Pakistan #PakistanZindabad #IndependenceDay #celebration #birmingham

♬ original sound – Saima Haroon

عمدة مدينة برمنغهام يشارك في مراسم رفع العلم الباكستاني أمام مجلس المدينة (عمدة برمنغهام/إكس).
عمدة مدينة برمنغهام يشارك في مراسم رفع العلم الباكستاني أمام مجلس المدينة (عمدة برمنغهام/إكس)

 

دوافع إضاءة مكتبة برمنغهام

لم يقتصر الهجوم على عمدة المدينة، بل امتد ليطول مجلس مدينة برمنغهام نفسه، بعدما استهدفته حسابات يمينية متطرفة وشخصيات غربية معروفة بعدائها للإسلام، وجاءت الحملة عقب إنزال نحو 200 لافتة وعلم من أعمدة الإنارة في المدينة، مما أثار موجة جديدة من الغضب الممزوج بخطاب معادٍ للمهاجرين.

وزاد الجدل بعد أن حصدت تغريدة نشرها الحساب الرسمي لمجلس برمنغهام على منصة “إكس” نحو 9 ملايين مشاهدة، أعلن فيها المجلس اعتزامه إضاءة مكتبة برمنغهام بألوان الأخضر والأبيض في عشية الذكرى الـ78 لاستقلال باكستان.

وسارعت بعض وسائل الإعلام البريطانية إلى الربط بين الواقعتين، عبر عناوين مثيرة للجدل من قبيل: “مجلس مدينة برمنغهام يضيء المكتبة احتفالا باستقلال باكستان لكنه يزيل العلم البريطاني”.

لكن هذه التغطية تجاهلت البيان الرسمي الصادر عن المجلس، الذي أوضح أن إنزال الأعلام جاء ضمن “أعمال الصيانة وتحديث مصابيح الشوارع”، محذرا من أن قيام أفراد بتركيب لافتات غير مصرح بها على أعمدة الإنارة قد يعرض حياتهم وحياة السائقين والمارة للخطر.

في 15 أغسطس/آب الجاري، وبعد يوم واحد فقط من الجدل المثار حول إضاءة مكتبة برمنغهام، رصد فريقنا تغريدة أخرى لمجلس المدينة أعلن فيها إضاءة المكتبة مجددا، لكن هذه المرة بألوان البرتقالي والأخضر والأبيض احتفاء بعشية الذكرى الـ79 لاستقلال الهند، في خطوة تؤكد أن الأمر يندرج ضمن تقليد رسمي متكرر، مما يثير تساؤلات حول دوافع الحملة السابقة وتوقيتها.

وتتبع الفريق حسابات سفارات ومؤسسات رسمية باكستانية في الخارج، ليتبين أن الاحتفال بيوم الاستقلال من خلال إضاءة معالم بارزة أو رفع العلم الوطني ليس أمرا استثنائيا في بريطانيا وحدها، بل ممارسة شائعة في دول عدة.

 

ففي قطر، تزين برج الشعلة في الدوحة بألوان العلم الباكستاني، في حين أضيئت جسور إسطنبول على مضيق البوسفور باللونين الأخضر والأبيض. أما في كندا، فقد احتشد ناشطون في قاعة مدينة برامبتون للاحتفال بالطريقة ذاتها، في مشهد مشابه لما يحدث سنويًا في معظم دول العالم.

 

ويحتفل الباكستانيون في 14 أغسطس/آب من كل عام بيوم استقلالهم عن شبه القارة الهندية، مؤسسين بذلك دولة مستقلة تأسست على إثرها عداوة دائمة مع الهند على عدة قضايا، أهمها قضية كشمير.

شاركها.