ما انفكت منطقة الشرق الأوسط بؤرةً للأزمات والصراعات المستمرة التي تلقي بظلالها الكثيفة على استقرارها وتنميتها، وتحول دون ازدهارها. وعبر التاريخ كانت هذه المنطقة مصابة بلعنة الحرب التي حكمت مصيرها وكبّلت مستقبل أجيالها لقرون. ورغم أنهار الدماء التي سالت إلا أن اللعنة ما زالت تفعل فعلها؛ فتضرب ذات اليمين وذات الشمال.
وفي خضم ذلك، وما أسفر عنه من آلام ومآسٍ وتحديات جسيمة، يبرز التعايش السلمي كضرورة قصوى لحل مستدام، وحتمية إستراتيجية للخروج من دوامة العنف والدمار. فقد أثبت التاريخ، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الحروب لا تجلب سوى الخراب المادي والبشري، وتدمير البنى التحتية، وتبديد الموارد، وتأجيج الكراهية والعداء بين الشعوب، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من المعاناة واليأس، نشهد فصولها كل يوم.
ومن المتعارف عليه في فقه العلاقات الدولية أنّ الجوار الجغرافي لا يعني بالضرورة الوفاق السياسي، بل كثيراً ما تسعى الدول إلى تعزيز مكانتها على حساب تراجع الآخر، لا سيما أنّ لكل دولة تاريخاً وثقافةً يغذيان رؤيتها لمكانتها، ويؤثران في سلوكها الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق، برز مفهوم «التعايش السلمي(Peaceful Coexistence)» بشكل واضح في العلاقات الدولية في مطلع القرن الماضي، وقد اعتمد لينين هذا المفهوم كوسيلة لحماية الدولة السوفيتية الفتية وتطبيع العلاقات مع الدول الرأسمالية. واستمر العمل بهذا المفهوم في مراحل لاحقة، من بينها النزاع السوفيتي- الصيني في أوائل سبعينات القرن الماضي.
والجدير بالذكر أنّ الصين تبنت مبدأ التعايش السلمي كمسار في سياستها الخارجية، وشددت على المبادئ الخمسة وهي الاحترام المتبادل للسلامة الإقليمية والسيادة، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضنا البعض، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. وقد حظيت هذه المبادئ باعتراف المجتمع الدولي في مؤتمر باندونغ عام 1955 في إندونيسيا، والذي شكل النواة لمنظمة عدم الانحياز التي تأسست عام 1961 في بلغراد.
هذا التوجه اعتمدته لاحقاً الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة والعشرين، ضمن إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، وقد شكل إطاراً يحكم العلاقات بين الدول منذ معاهدة وستفاليا لسيادة الدولة القومية. هذه المبادئ الخمسة للتعايش السلمي أصبحت نهجاً متبعاً للتفاهم بين الدول، لترسيخ السلام والأمن، وتحقيق الاستقرار والاحترام المتبادل.
وفي السياق ذاته، ظهر مصطلح «الوفاق(Détente)»، المشتق من اللغة الفرنسية، ويعني «تخفيف التوتر»، لوصف مرحلة من خفض التصعيد الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبّان الحرب الباردة، بدءاً من عام 1969. وقد تميزت تلك الفترة بجهود دبلوماسية كبيرة لم تنهِ الحرب الباردة تماماً، لكنها قللت من حدّتها، ومهدت الطريق لمعاهدات الحد من التسلح، وتقليص خطر المواجهة النووية.
وبالعودة إلى واقع الشرق الأوسط، فإنّ المشهد الجيوسياسي في المنطقة تحكمه أحداث دامية استقطبت أنظار العالم، وعلى رأسها مجازر الإبادة الوحشية في غزة، وحرب التجويع، والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للقانون الدولي والمواثيق الأممية، في ظل إصرار إسرائيل على مواصلة عملياتها العسكرية وتجاهلها التام للرأي العام الدولي.
وقد صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، علناً بعدم استعداده للتخلي عن السيطرة الأمنية على الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن، ما يؤكد استمرار العربدة السياسية والعسكرية من دون رادع فعلي من المجتمع الدولي. وجاء تصويت الكنيست الإسرائيلي (الأربعاء 23 الجاري)، بالموافقة على مشروع القانون المتعلق بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن، ليصبّ الوقود على نار التوتر، حيث يهدف المشروع، إلى بسط القانون الإسرائيلي على هذه المناطق وهيمنتها من خلال اتباع سياسات أحادية وتغليب القوة، وهو ما يلقى معارضة شديدة من المملكة والجامعة العربية والمجتمع الدولي الذي يعتبر الضفة الغربية أراضي محتلة ويدعو إلى حل الدولتين.
وفي ظل هذه الأوضاع المشتعلة، فإنّ تحقيق الاستقرار الإقليمي يتطلب جهوداً حقيقية لتعزيز التعاون والحوار بين دول المنطقة. فالمفاوضات الإقليمية هي الأداة المحورية لتجاوز التوترات التاريخية والانقسامات الراهنة، وينبغي أن تستند إلى مبادئ القانون الدولي، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة.
ويدرك المجتمع الدولي أنّ ازدهار أي دولة في المنطقة لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن استقرار جيرانها وازدهار البيئة المحيطة، مما يفرض تبني مقاربة جماعية تضع المصلحة الإقليمية فوق الحسابات الضيقة، وشهوة السيطرة والتوسع، والتوترات الأيديولوجية المثقلة بالوهم والصراعات.
لقد آن الأوان لتوجيه مسار الجهود بعيداً عن الحروب، وتبني نهج جديد في صياغة نظام إقليمي جديد يُعلي من شأن المصالح العربية، ويستند إلى مقررات الشرعية الدولية بشأن السلام، مع وضع القضية الفلسطينية في قلب هذا النظام. ويجب أن يكون حل الدولتين أساساً لهذا التوجه، إلى جانب كبح التهور الإسرائيلي الذي يهدد استقرار سائر دول المنطقة.
أخبار ذات صلة