في طفولتي المبكرة، عندما كنا نصحو مع أول أضواء الفجر لنستعد للذهاب للمدرسة في تلك الأيام البسيطة الطيبة التي توارت تحت طبقات مدن التعقيدات والحداثة والتكنولوجيا، كان وجه أمي هو أول ما أفتح عينيّ عليه، وكان صوتها هو أول ما يقع في سمعي قبل أي صوت آخر، وكنت أظل بصحبتها لفترة تراوح بين ارتداء ثيابي وترتيب حقيبتي، وحركة لا تهدأ في تلك الغرفة الكبيرة الدافئة التي ننام فيها في تلك الشتاءات الصعبة التي يتركنا فيها أبي لأسفاره وتجارته، قبل التوجه للمطبخ لتناول الإفطار الذي كانت تجتهد جدتي، رحمها الله، في إعداده.
كان ذلك الزمن اليومي الذي كنا نقضيه معاً، والمستقطع من يوم طويل كنت أغادر فيه المنزل صباحاً حتى ما بعد الظهر، كانت تلك الدقائق تبدو لي زمناً لذيذاً جداً وحميمياً بيني وبين أمي، زمن لم يغادر ذاكرتي أبداً، كما لم أنس يوماً وصيتها: هاتي معك قصة لتقرئيها لي!
اليوم حين أسأل عمن علمني الكتابة؟ أقول كثرة القراءات وحبي للكتب، فإذا سئلت ومن جعلني أقرأ كثيراً وأحب الكتب؟ أقول: أمي. نعم أمي التي لم تجلس في صف دراسي يوماً، ولم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تمسك بكتاب قط سوى كتاب الله الكريم، أمي التي أحبت القصص التي كنت أقرؤها على مسامعها كل يوم عندما أعود من المدرسة وننتهي من طعام الغداء، ونجلس في العصر جميعاً، تتناول هي وجدتي الشاي، وآخذ أنا في قراءة القصة التي أحضرتها بلسان طفلة تتهجى الحروف كي تكوّن كلمات الحكاية، كنت كلما نظرت إلى وجهها أجده طافحاً بسعادة لم أكن أفهم سببها، ثم عرفت، لقد كانت سعيدة بي!
في يوم المرأة الإماراتية أنظر إلى أمي، إلى مسيرتها الطويلة التي قضت منها أكثر من ثلاثين عاماً وحيدة بلا رجل، بعد وفاة والدي، رعت أسرة كل أبنائها ناجحون ومتحققون ومنتمون بحق لإنسانيتهم ووطنهم وأهلهم وهويتهم، هذا اليوم لأمثال هذه الأم، ولكل امرأة تستحق قبلة على رأسها؛ لأنها أعطت بصمت وأثمر عطاؤها عالياً.