بعد أكثر من 30 عاماً، عادت أعمال التنقيب الأثرية في مطلع هذا العام إلى جزيرة صير بني ياس، لتكشف عن صفحات جديدة من تاريخ الإمارات الضارب في الزمن عبر مزيد من الاكتشافات التي تؤكد على مكانة الإمارات والمنطقة كحلقة وصل ومركز للتواصل في مسيرة الحضارات الإنسانية عبر قرون طويلة.

وانفردت «الإمارات اليوم» بمرافقة فريق التنقيب الأثري التابع دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، في أولى عملياته التنقيبية الرئيسة منذ أكثر من 30 عاماً في الجزيرة، وهي التنقيبات التي أسفرت عن أحدث اكتشافاتها الأثرية وهي عبارة عن صليب جصي كامل وُجد في فناء أحد المنازل التابعة لكنيسة جزيرة صير بني ياس؛ ما يُشكل دليلاً جديداً إضافياً على أنّ قيم التسامح والتعايش مُتجذرة في تاريخ دولة الإمارات منذ قرون. وترجع أهمية هذا الأثر كونه كاملاً وشكله واضحاً، وكان بمثابة أداة للتأمّل الروحي من قبل الرهبان. ويتشابه أسلوب تصميم هذا الاكتشاف مع أنماط أخرى من الموجودة في العراق والكويت، كما يرتبط بالكنيسة الشرقية التي تعود أصولها إلى العراق القديم.

شمال الدير

من جهتها، قالت منقبة الآثار هاجر المنهالي لـ«الإمارات اليوم»، إن المواقع الأثرية التي يجري التنقيب فيها تعرف بالمنازل ذات الفناء، وتم التنقيب في موقعين من المنازل التي تمتد شمال الكنيسة والدير المسيحي، وأهمية هذا الموقع أنه يوضح أن الكنيسة الموجودة في الجزيرة كانت محاطة بدير جماعي يمتد حولها، ويضم مجموعة من المنازل المخصصة لكبار الرهبان أو للرهبان الذين كانوا يعتكفون لفترات، وكانت فترات الاعتكاف ترتبط بأقدمية الراهب في الكنيسة.

وأشارت إلى أن التنقيبات التي بدأت في التسعينات وعادت من جديد هذا العام تساعد على فتح نافذة مهمة لفهم تاريخ الإمارات في فترات زمنية مختلفة، والمجتمعات السكانية التي عاشت فيها، وكيف كانت تعيش هذه المجتمعات وطريقة تعايشها مع المجتمعات المجاورة.

وأكدت الأثرية الإماراتية، التي شاركت في عمليات التنقيب بعدد من المواقع في أبوظبي، أن دولة الإمارات تولي اهتماماً كبيراً لمجال الآثار والتراث لحفظ تاريخها وصونه وهو ما يعد دافعاً لأبناء الوطن للمساهمة في هذا المجال والانخراط فيه. كما تقوم المتاحف والمشاريع الثقافية الضخمة التي تقيمها الدولة بدور كبير في تعريف العالم بتاريخ الإمارات الذي يمتد لآلاف السنين حسبما كشفته التنقيبات الأثرية.

من جانبه، أشار الخبير الأثري الدكتور تيم باور إلى أهمية الموقع الأثري الذي تجري فيه التنقيبات في جزيرة صير بني ياس، إذ تساهم مجموعة البيوت التي عثر عليها في فترة التسعينات في رسم تصور أوضح لشكل الجزيرة والحياة فيها قبل 1000 عام، وكيف عاش الرهبان في هذه البيوت التي تختلف في مساحتها وتقسيمها، وكانت تضم غرفاً ومنطقة لإعداد الطعام «مطبخ»، كما يمثل العثور على الصليب الجصي إضافة مهمة، نظراً لاكتماله ووضع تصميمه الفريد الذي يشير إلى التبادل الثقافي بين المجتمعات في المنطقة.

جهود مبكرة

الدراسة الأثرية ضمن برنامج المسح الأثري لجزيرة أبوظبي، والتي بدأت في عام 1992 بتوجيهات القيادة الرشيدة لدولة الإمارات، كانت قد أدّت إلى استكشافات وأبحاث في تاريخ الإمارة القديم، وآنذاك تم الإعلان عن اكتشاف كنيسة ودير صير بني ياس اللذين يعود تاريخهما إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين. كما كشفت أعمال التنقيب في ذلك الحين عن سلسلة من المنازل الصغيرة ذات الفناء القريبة من الدير والتي كانت مأهولة، ويتمّ تفسيرها حالياً على أنها كانت بمثابة منازل منفصلة مُخصصة للرهبان لقضاء خلوة خاصة في التأمل والعزلة. وحالياً تتواصل جهود خبراء الآثار للبحث والتنقيب في هذه المجموعة من المنازل.

وتؤكد دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي مواصلة أعمال التنقيب في المنازل ذات الفناء، على أن يتم إنشاء مسارٍ أوسع يربط بين المواقع الثقافية في الجزيرة، بما يتكامل مع جهود الترميم التي بذلتها الدائرة والتي أسفرت عن إعادة افتتاح موقع كنيسة ودير صير بني ياس في عام 2019 أمام الجمهور بعد تطوير المرافق والخدمات ووضع لوحات إرشادية وتعريفية بالموقع لإرشاد الزوار، بالإضافة لوجود مركزٍ للزوار في الموقع يستضيف معرضاً صغيراً للقطع الأثرية من الحفريات السابقة. وتشمل هذه القطع كؤوساً زجاجية وقطعاً من الجص على شكل صليب وختماً مطبوعاً بزخرفة عقرب. وبجوار مركز الزوار تمّ بناء كنيسة متعددة الأديان مستوحاة من الموقع القديم.

قيم متجذرة

من ناحيته، أكد رئيس دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، محمد خليفة المبارك، في تصريح له بهذه المناسبة، أهمية الاكتشافات الجديدة التي توضح أن قيم التسامح والتعايش ليست جديدة على مجتمع الإمارات. وقال: «يُجسد اكتشاف الصليب الجصي القديم في جزيرة صير بني ياس دليلاً جديداً قوياً على أن قِيم التعايش السلمي والانفتاح الثقافي مُتجذرة بعمق في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة منذ قرون، ما يُحفز لدينا الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء لدولتنا، ويذكّرنا بأنّ التسامح ليس مفهوماً حديثاً، بل مبدأ متأصّلاً في تاريخ منطقتنا».

وأضاف: «تؤكد الاكتشافات المستمرة في جزيرة صير بني ياس، حتى بعد 30 عاماً من عمليات البحث والتنقيب، على مدى غنى تراثنا الثقافي؛ ما يدفعنا إلى بذل المزيد من الجهود ضمن التزامنا المستمر بالحفاظ عليه لضمان استمراريته وتوعية الأجيال الحالية والمُستقبلية به. وبينما تواصل دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي الكشف عن هذه القصص القيمة، فإننا نؤكّد التزامنا بالحفاظ على تراث أبوظبي المتنوّع وتعزيزه وحمايته ومشاركته مع العالم ليتمكنوا من التعرف على إرث دولتنا. وتُعزز هذه الاكتشافات ارتباطنا بالماضي العريق وتُلهم الأجيال القادمة للتمسك بروح الوحدة والاحترام المتبادل التي لطالما ميزت مجتمعنا منذ القدم».


لمحة حية

تعد جزيرة صير بني ياس جزءاً من انتشار الكنائس والأديرة الذي شهدته المنطقة، حيث عثر على اكتشافات مماثلة في مواقع أخرى من ضمنها أم القيوين والكويت وإيران والمملكة العربية السعودية. وشهدت منطقة الخليج العربي انتشاراً واسعاً للدين المسيحي خلال أواخر العصر القديم وبداية العصر الإسلامي، تحديداً بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، قبل أن يبدأ في التراجع في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية. واليوم تقع الكنيسة والدير بين محميات جزيرة صير بني ياس الطبيعية حيث تجوب الغزلان والوبر البري، ما يقدّم لمحة حيّة عن تاريخ حياة الإمارة قديماً.

. 30 سنة عُمر التنقيبات الأولى في الجزيرة.

. الاكتشافات الجديدة توضح أن قيم التسامح ليست جديدة على مجتمع الإمارات.

شاركها.