Published On 4/9/2025
|
آخر تحديث: 13:22 (توقيت مكة)
غزة- بعد أن كان نابضا بالحياة، ومزدحما بالمارة وضجيج الباعة، بدا حي الشيخ رضوان (شمال مدينة غزة) مدينة أشباح: شوارعه خاوية وصوته خافت، ولا يبدد سكونه إلا دوي القذائف وأزيز الطائرات المسيّرة.
ومنذ نحو أسبوع، أخذت اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي على الحي تتصاعد بوتيرة متسارعة: قصف عشوائي يطال المنازل والأزقة، ومدرعات محشوة بأطنان من المتفجرات تم توجيهها عن بُعد لتسوية مربعات سكنية كاملة بالأرض، ومن جانبها راحت الطائرات المسيّرة الصغيرة تستهدف السكان مباشرة لبث الرعب في نفوسهم ودفعهم إلى النزوح.
وفجر أمس الأربعاء، امتد الهجوم ليطال عيادة الشيخ رضوان الرسمية ومحيطها، حيث أُلقيت القنابل الحارقة لتلتهم النيران سيارات إسعاف كانت متوقفة في المكان، إضافة إلى عشرات الخيام التي احتمى بها نازحون.

منطقة أشباح
وفي قلب الحي، بدا شارع الجلاء -أحد أهم شوارع مدينة غزة وأكثرها حيوية- صامتا على غير عادته: السيارات تجنبت المرور به خشية رصدها واستهدافها من الطائرات المسيّرة فتحولها إلى منطقة أشباح. وهو يُعد من أكثر أحياء غزة اكتظاظا بالسكان، فضلا عن كونه ملجأ استقبل آلاف النازحين من مناطق شمال القطاع المحاذية له.
ومع اشتداد الخطر، أخذت عائلات بأكملها قرار الرحيل، فشوهدت موجات نزوح جديدة تضاف إلى ما شهده الحي من قبل. ومن بينها أسرة منى جِلّو التي كانت تقيم في غرفة استصلحتها من منزلها المدمر بعد أن عادت من رحلة نزوح طويلة وسط قطاع غزة.
وفي الأيام الأخيرة، انقلبت حياة آل جلّو من جديد، فمع كل ليل يهبط يبدأ الرعب: قصف متواصل من المدافع، أزيز الطائرات، طلقات نارية عشوائية من المسيّرات. وأصوات الانفجارات والرصاص لا تنقطع، والأكثر رعبا كان المدرعات الصغيرة التي تتحرك بلا سائق، مملوءة بأطنان المتفجرات، تدفعها إسرائيل إلى قلب الأحياء ثم تفجرها عن بُعد.
وما أن تنفجر هذه المدرعات حتى تهتز الأرض، فتختفي العشرات من المنازل، ويتشقق الإسفلت، وتتناثر الحجارة، وتتهدم الجدران في محيط واسع. ومن على بعد كيلومترات، يمكن الإحساس بارتجاج الأرض تحت الأقدام.
وفي الليلة الأخيرة قبل النزوح الجديد، جلست منى وأسرتها في الغرفة المهدّمة ينتظرون الصباح، وكلهم يظنون أنهم لن يبقوا أحياء حتى يروا ضوء النهار. ومع أول خيط للفجر، لم يجدوا سبيلا سوى الهرب فخرجوا بلا متاع أو طعام أو أي شيء.

كابوس لا ينتهي
في خيمة صغيرة نُصبت على عجل، وضعت خلود أبو فارة بعض الأثاث الذي استطاعت إخراجه من بيتها قبل يومين. ولم يكن المنزل بعيدا عن القصف، وكانت الانفجارات في البداية تسمع من جهة “جباليا النزلة” المحاذية، لكنها اقتربت شيئا فشيئا من حي الشيخ رضوان.
ودخلت المسيّرات الأزقة كضيوف غير مرحب بهم، تقترب من الشبابيك وتوجه تهديدات وشتائم بذيئة عبر مكبرات صوت، ثم تطلق النار بشكل عشوائي.
ولم تهدأ القذائف طوال النهار والليل الذي كان أشبه بكابوس لا ينتهي. فالقصف يتواصل بلا توقف، والانفجارات تهز الأرض، وأصوات المدرعات المفخخة تعلن عن دمار قادم. وعندما تنفجر، تتمايل الجدران يمينا ويسارا وتتساقط الأبواب والشبابيك وتكاد الأسقف تنهار.

خلود رحلت بأسرتها المكونة من 5 أفراد، لكنها تركت خلفها جرحا مفتوحا، ابنها الشاب الذي فُقد منذ أسبوعين، لا خبر عنه، ولا أثر يدل عليه.
وفي بيت آخر، كانت أسرة عالقة بين عالمين، فالزوجة دينا محمد عاشت مع زوجها في الأردن، وعادت إلى غزة لزيارة أهلها قبل الحرب، لكنها لم تتمكن من المغادرة منذ عامين وبقيت عالقة وتقيم في بيت العائلة بالشيخ رضوان الذي شهد ولادتها.
ومنذ أن بدأ العدوان على الحي، حاولت الأسرة الصمود، لكن على مدار أسبوع كامل لم يتوقف شيء: روبوتات مفخخة تنفجر وتقتلع بيوتا بأكملها، وقناصة يترصدون، ومسيّرات تقصف وتبث الشتائم، وقذائف دبابات تدك المنازل. ومع كل انفجار، كانت الأبواب تتهاوى والنوافذ تتكسر والجدران تتشقق.

نزوح قسري
وفي الخارج جثث في الشوارع، وبعض الجيران الذين استشهدوا لم يجدوا من يدفنهم بكرامة، فقد مزقت الكلاب أجسادهم.
وأعدت دينا حقيبة صغيرة للطوارئ ووضعت فيها ما استطاعت. وعندما طلع الصباح، حملتها وخرجت مع أسرتها، لكنها أدركت لاحقا أن جواز سفر ابنها الصغير (أردني الجنسية) لم يكن في الحقيبة.
والآن، حتى لو فُتحت المعابر، فلن تتمكن دينا من مغادرة غزة، دون الجواز الذي ما زال في بيتها ولا تدري إن كان قد دُمّر أم لا.
وعلى أطراف الحي، كان عبد دلول وزوجته إكرام، مع 10 أطفال، يقيمون بعد أن فقدوا منزلهم الأول في حي الزيتون، فانتقلوا ليستضيفهم قريب بالشيخ رضوان، لكن النار لحقت بهم مجددا.

ومع كل ليلة، يقترب القصف أكثر والأطفال يزداد خوفهم، وأصوات الانفجارات تعلو والأرض تهتز والجدران تتصدع، وعيونهم لا تهدأ من الذعر، ولم يعد البقاء ممكنا.
ويقول الأب “لا نملك المال كي ننزح جنوبا، فلا دخل لنا، فأنا مقاول بناء، ومنذ بداية الحرب توقفت أعمالي كلها”. وتتدخل زوجته وتقول “القذائف تنهال على المنازل، والقصف عشوائي لا يستثني أحدا، حتى العائلة التي استضافتنا كانت تفكر بالرحيل، لكنها شعرت بالحرج من طرد النازحين الذين احتموا عندها”.
ورحلت الأسرة تحت القصف، ولم يجدوا مأوى سوى خيمة عند قريب في منطقة غرب غزة، بانتظار أن تُنصب لهم خيمة أخرى.