القاهرةـ على عتبات الحرية، وقف 3 رجال أنهكتهم السنون، تحمل وجوههم تجاعيد لم تنسجها الشيخوخة وحدها، بل خطّتها قضبان السجون الإسرائيلية وضربات السجّان وبرد الجوع والخوف.
وبعد أكثر من عقدين خلف القضبان، نالوا حريتهم في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي ضمن الدفعة الرابعة من المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 19 من الشهر ذاته، لكن الاحتلال اشترط إبعادهم إلى مصر مع آخرين من أبناء الضفة الغربية.
حين خرجوا لم يجدوا العالم كما تركوه، ولم يعانقوا الوطن كما رسموه في أحلامهم خلف القضبان، تغيّرت الملامح، وتبدلت الوجوه، وتعثرت الخطى بين غربة جديدة فرضها الإبعاد، وحنينٍ يوجع القلب إلى أرض مازالت خلف الأسلاك والجدران.
إنها الحكاية ذاتها التي تتكرر مع الأسرى المحررين، منصور شريم “أبو صالح”، ورائد الشافعي “أبو فراس”، ومحمد نايفة “أبو ربيع”، الذين باتوا شهودا على جرح ممتد، جرح الأسر وجرح الوطن معا، جراح حاولوا إخفاءها خجلا من البوح بمعاناتهم أمام ما لا يزال يقاسيه شعبهم ورفاقهم خلف القضبان.
من رحم الجحيم
بابتسامة شاحبة تختلط بصلابة السنين، يتحدث منصور شريم، ابن مدينة طولكرم الذي أمضى 23 عاما خلف الجدران الرمادية “كنت محكوما بـ12 عاما، ثم زيد الحكم إلى 60 عاما إضافية، كنا ندرك أن الحرية لن تأتي إلا بمعجزة، وجاء طوفان الأقصى ليكون مخاض ولادة جديدة، حيث تحررت من الأسر، وكأنني وُلدت من جديد”.
لكن تلك الولادة لم تكن ميسّرة، فبعد أشهر قليلة على تحررهم، ما زالت الحرب مشتعلة، والدماء تنزف، والعالم يشيح بوجهه، فالحرية بالنسبة لشريم لا تعني فقط فتح أبواب السجن، بل هي عبء ومسؤولية تجاه من بقوا خلف القضبان، ليؤكد بالقول “تحريرنا ناقص ما لم يتحرر جميع الأسرى”.
حين يستعيد منصور تفاصيل الأشهر الأخيرة في الأسر، تتغير ملامحه، ويقول “كل ما عانيناه خلال 23 عاما كان جزءا يسيرا مقارنة بما حدث بعد الطوفان، فقد حُرمنا من أبسط مقومات الحياة، من انقطاع الماء والكهرباء، ومنع إدخال الملابس، والطعام بالكاد يكفي لإبقاء الجسد صامدا، وكان السجانون يكررون علينا دائما مقولتهم المؤلمة “عيشوا في القبر”.
يصف أبو صالح ما عايشه داخل سجون الاحتلال بأنه برنامج ممنهج للقتل البطيء، ويضيف “كان نظام التجويع قاتلا، فقد كنا نصوم من الفجر إلى المغرب لنقتصد في فتات الخبز، معظمنا فقد عشرات الكيلوغرامات في أقل من عام ونصف، أجسادنا انهارت ومرضانا بلا دواء”.
وصلوا #مصر تمهيدا لنقلهم إلى دول أخرى.. أسرى فلسطينيون محررون ضمن صفقة تبادل الأسرى يتحدثون للجزيرة مباشر pic.twitter.com/N26Gi50jhA
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) January 29, 2025
ويضيف “حتى النوم، تحول إلى رفاهية مستحيلة، فقد كانت ثلاثية الجوع والبرد والخوف هي الموت اليومي، ولك أن تتخيل أن تنام وأنت لا تدري متى يقتحم الجنود الزنزانة بالعشرات ليضربوك، علما أنك لست بحاجة لأن تُضرب كل يوم، يكفي أن ترى رفاقك تحت التعذيب لتعيش فزعا دائما لا يتوقف”.
ويتحدث شريم عن يوميات الأسر بالإشارة إلى أن الحياة في الأسر بلا حقوق، ولا قوانين، ولا إنسانية، ونحن لا نلتقي بالمحامين، ولا بالصليب الأحمر، ولا نافذة لنا على العالم الخارجي، وكل ما يصل إلى الأهل مجرد عبارة باردة ينقلها المحامي “ابنكم حي”.
ويرى شريم أن عملية طوفان الأقصى أعادت الأمل وأحيت في الوعي الفلسطيني فكرة أن تحرير الأسرى ممكن، لافتا إلى أن “هذا ما يجب أن يستمر ويُبنى عليه، فالمقاوم حين يدرك أن شعبه لن يتخلى عنه، يواصل المقاومة”.
فرحة منقوصة
إلى جوار منصور في مقر الإقامة المؤقتة بالقاهرة، يجلس رائد الشافعي (أبو فراس)، الذي أمضى 22 عاما في سجون الاحتلال محكوما بالمؤبد قبل أن يُخفف حكمه إلى 30 عاما، ورغم تحرره لم تكتمل فرحته، إذ يقول للجزيرة نت “نلنا الحرية، لكننا أُبعدنا عن وطننا، ووجدنا أنفسنا في مصر، نعم هي بلد شقيق، لكن الحرية تبقى ناقصة حين تُنتزع منك أرضك ويُسلب منك حضور أهلك”.
في مقر الإقامة الذي نُقلوا إليه في العاصمة الإدارية في مصر، شعروا بالاغتراب، كان المشهد فادح المفارقة، كما يصفه الأسير المحرر الشافعي، “أهلنا في غزة يموتون جوعا تحت القصف، بينما نحن آمنون، وهو أمر محرج ومؤلم، والمخجل أن نحكي عن معاناتنا السابقة والراهنة، بينما شعبنا ورفاقنا في الأراضي المحتلة وفي السجون معاناتهم مستمرة”.
ويضيف “لم يُسمح لعائلتي بالحضور خلال إجراءات الإفراج عني، تواصلت معهم عبر الهاتف فقط، متسائلا أي حرية هذه التي لا ترى فيها وجه أمك بعد 22 عاما؟”.
وحول يومياته في العاصمة المصرية القاهرة يتحدث المحرر الشافعي عن أن الحياة في مقر الإقامة بالقاهرة لم تكن حرية مطلقة، “كان خروجنا مشروطا بتصريح حتى منتصف الليل، حفاظا علينا، مع قيود أمنية في التحرك لحمايتنا من أي محاولة استهداف أو اختطاف”.

ذكريات الجحيم
يؤكد الشافعي أن السجون بعد طوفان الأقصى تحولت إلى ما يشبه “معسكرات إبادة”، وعن ذلك يقول “لم يعد الأمر مجرد اعتقال، بل مشروع متكامل لتحطيم الأسرى، من التجويع إلى الضرب اليومي، ثم التنكيل الممنهج، وصولا إلى سحب كل الإنجازات التي راكمتها الحركة الأسيرة عبر عقود”.
ويستعيد “أبو فراس” مآسيه الشخصية التي تجاوزت قدرة البشر على الاحتمال، بالقول “فقدت ابنتيّ في حادثي سير متتاليين وأنا في السجن، ثم رحل والدي، ومُنعت حتى من وداعهم أو حضور دفنهم، لا كلمات تصف هذا الألم، لكن رفاقي الأسرى كانوا لي السند، وكانت الكتابة عزاءنا الوحيد في مواجهة الكآبة”.
وفي شهادتيهما، يجمع الأسيران المحرران على أن الصمت الدولي كان شريكا مباشرا في الجريمة، “لا منظمات دولية، لا مؤسسات حقوقية، لا قانون دولي، وإسرائيل منعت الصليب الأحمر من التواصل معنا، حتى المحامي لم يكن سوى ناقل للسلامات، بينما تركنا العالم نموت ببطء”.
وهذا الغياب الإنساني، كما يقولان، لم يقف عند حدود المؤسسات الدولية، بل شمل أيضا تراجع التضامن العربي، “أصابتنا الصدمة حين علمنا أن دولا عربية رفضت استقبال الأسرى المحررين، فأين حق العروبة؟ وأين التضامن مع فلسطين؟”.

حرية بطعم المرارة
حين سألنا الأسيرين المحررين عن معنى الحرية اليوم، ترددا قبل الإجابة، فصالح يصفها بأنها “حرية ممزوجة بالوجع”، في حين يراها رائد “حرية ناقصة بلا وطن ولا أهل”.
ومع ذلك، يؤكدان أن تحررهما بحد ذاته معجزة، وأن الثمن الذي دفعه الشعب لم يكن لأجلهم وحدهم، بل من أجل مستقبل مقاومة لا تنكسر.
ويجمعان على أن ما جرى قدّم نموذجا استثنائيا للمقاومة، “نموذجًا سيُدرس في الكليات العسكرية”.
وعلى أطراف الجلسة، كان محمد نايفة “أبو ربيعة”، يرنو واجما وهو يتابع كلمات صاحبي السجن بأسى، وعيناه تكتمان ألما هائلا، رفض أن يضيف شيئا، “فلا أكثر مما قالاه إلا مزيدا من الوجع عن الحكاية نفسها”.
غير أن لأبي ربيع حكاية أخرى تزيد الجرح عمقا، فما إن تنسّم هواء الحرية حتى اعتقل الاحتلال ابنه، ذلك الابن الذي لم يره منذ كان طفلا، ولم يذق دفء عناقه منذ عقدين، وكأن الاحتلال أبى إلا أن ينغّص عليه فرحته الناقصة، فأودعوا الابن في المعتقل ذاته الذي غادره الأب، في رسالة قاسية مفادها “أخذنا منك أغلى ما تملك، وسنحتفظ به”.
لم يقترف الابن ذنبا سوى أنه ابن أسير أُجبرت إسرائيل على الإفراج عنه، لتكتمل دائرة الألم، فالأب في السجن يودّع صغيره، ثم ابنٌ في السجن يودّع أباه شيخا.
وهكذا يعيش الأسرى المحررون اليوم بين حرية منقوصة وجرح مفتوح، معلّقين بالأمل أن يأتي اليوم الذي يُغلق فيه الباب خلف آخر أسير، وتبيّض السجون حقا.