|

يواجه مجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة اليوم، أزمة قد تعيد صياغة صورته لعقود مقبلة. فالإدارة الأميركية الحالية تدفع باتجاه محاسبة قادة الاستخبارات على ما تعتبره حملة سياسية منسّقة لتضليل الكونغرس والشعب بشأن علاقة الرئيس دونالد ترامب بـروسيا، وفق مقال بمجلة ناشونال إنترست.

وكتب جوشوا يافي -كبير الباحثين في مركز ناشونال إنترست للدراسات بواشنطن- في المقال أنه حتى إذا بقيت الأدلة الكاملة سرية إلى حد كبير ولم تتجاوز المحاكمات مرحلة لوائح الاتهام أمام هيئة المحلفين الكبرى، وملّ الأميركيون من متابعة القصة، فإن التداعيات ستظل عميقة.

واعتبر أن هذا النوع من المحاولات يحدث مرة واحدة في كل جيل، على غرار لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، حيث سيُجبر مسؤولون كبار في الاستخبارات (سابقون وربما حاليون) على المثول أمام الرأي العام لمواجهة المساءلة.

رواية مصطنعة

يشير الكاتب إلى أن مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد رفعت السرية هذا الصيف عن كم هائل من الوثائق التي تكشف أن حملة مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون لانتخابات الرئاسة عام 2016، حاولت -بالتعاون مع مؤسسة جورج سوروس- صرف الأنظار عن فضائحها الخاصة من خلال تلفيق رواية زائفة عن تواطؤ روسيا مع مرشح الحزب الجمهوري آنذاك دونالد ترامب.

وبالمقابل، استعجل مدير الاستخبارات الوطنية السابق جيمس كلابر، بمساعدة مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي، إصدار تقييم استند إلى معلومات كانوا يعلمون أنها مشكوك فيها، رغم اعتراض عدد من زملائهم.

ويعتقد كاتب المقال أن هذه هي القراءة المباشرة والواضحة للتفاصيل التي كُشف عنها، ومن الصعب العثور على تفسير عقلاني آخر.

ينسف يافي في مقاله “خرافتين” أساسيتين يحرص مجتمع الاستخبارات على ترويجهما عن نفسه وهي أن هذا المجتمع موضوعي، وغير مسيّس

هل الاستخبارات مُسيَّسة؟

ينسف يافي في مقاله “خرافتين” أساسيتين يحرص مجتمع الاستخبارات على ترويجهما عن نفسه وهي أن هذا المجتمع موضوعي، وغير مسيّس.

يعتبر الكاتب أن هاتين الخرافتين تمثلان ركيزتين لأسلوب العمل التحليلي، وركنا من أركان مهنة التجسس التي تدعي أجهزة الاستخبارات الأميركية أنها تستند إلى “المنهج العلمي” الذي يضفي عليها الاحترام.

صحيح أن البيانات الأولية قد تكون حقائق قائمة بذاتها، لكن أي خطوة يتجاوز فيها المحلل مجرد إعادة سرد أحداث مؤكدة وموثّقة تعني بالضرورة انخراطه في الرأي والذاتية، على حد تعبير كاتب المقال.

وفي تقدير الباحث يافي أن هذا ليس بالضرورة أمرا سلبيا، بل مجرد واقع يجب الاعتراف به، تماما كما يجب الإقرار بأن صانعي القرار السياسيين يبحثون عن “سرديات” لفهم الأحداث، وأن جزءا من عمل المحللين هو صياغة تلك السرديات.

ويضيف أن صعود المسؤولين الاستخباراتيين إلى مناصب رفيعة يتطلب علاقات سياسية لا تقل أهمية عن الخبرة الأمنية، كما برز في طموحات مايك موريل النائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية، وعضو مجلس النواب السابق (السيناتور حاليا) آدم شيف الذي سمح بتسريبات انتقائية من لجنته عبر وسطاء، في محاولة منه لتعزيز فرصه للظفر بقيادة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه).

ثقافة السرية

ووفقا للمقال، فإن مهنة الاستخبارات تقوم على ثقافة من السرّية التي يمكن أن تولّد الغرور وانعدام المساءلة لدى كبار المسؤولين إذا تُركت بلا ضوابط.

لقد روّجت الاستخبارات الأميركية لفكرة أن الفشل الاستخباراتي يكمن في عجزها عن فصل “الإشارات” عن “الضوضاء”، أو عن توصيل البيانات الصحيحة في الوقت المناسب، أو عن معالجة الانحيازات المعرفية.

ومن وجهة نظر المقال أن كل هذه تبريرات توحي بأن زيادة الصرامة العلمية يمكن أن تحسّن المنتج وتنقذ أرواح الأميركيين.
ومع أن ذلك يكون صحيحا أحيانا، لكن التواطؤ الروسي المعروف إعلاميا بـ”روسيا غيت” يوحي “بأننا نعيش في عصر السرديات، وأن مجتمع الاستخبارات منشغل بها بقدر انشغال وسائل الإعلام أو مراكز الأبحاث أو حملات الضغط أو حتى المؤثرين على وسائل التواصل”.

ويقول يافي إنه في الوقت الذي تستمر فيه التحقيقات، وإجراءات رفع السرية، والتسريبات، وربما صدور لوائح اتهام، فإن على أجهزة الاستخبارات في واشنطن أن تدرك أنها ليست فوق الصراعات السياسية، ولا تعيش بمعزل عن المشهد الإعلامي والسياسي في العاصمة، وهي ليست صاحبة الحكم النهائي على ما هو حقيقة وصواب أو خطأ وزيف.

ويخلص إلى أن الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ادعاء “التفوق المعرفي” أو الاحتماء خلف السرية، وأن الرأي العام الأميركي الذي شاهد نشر كم هائل من الوثائق هذا الصيف سيطالب بالمزيد من الشفافية في الإدارات المقبلة.

شاركها.