لا يبدو العنوان باعثاً على السخرية، فالأمر -أو لنقل الشأن القططي- قد يُدخِل النّار، كما يروي الأثر النبوي عن امرأة دخلت النّار بسبب قطّة حبستها، ولم تترك لها خياراً غير الجوع حتى الموت. كما أنّ أشهر راوية للحديث النبوي الصحابي الجليل عبدالرحمن بن صخر الدوسي كُنّي بأبي هريرة “تصغير هرّة” لأنّه كان يحمل هرة معه دائماً، من هذا وغيره يبدو الشأن القططي شهيّ كنظيره “الشّأن الحماري”، ومثلي كتب عشرات الأدباء والمفكّرين عن الحمار، كان للقطّ مثل هذا القدر من الاهتمام، ويكفي أنّ الجاحظ أسهب وأطال في شؤون القطط، كما أنّ الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي له قطعة أدبية فاخرة عنوانها:

“حديث قِطّين”، أحدهما ممتلئ “دلخ” معتمداً على موائد الأثرياء وآخر نحيل “عصامي”، معتمداً على نفسه لا على غيره.

وعند أوّل زيارة لك إلى لندن ستتوقف كثيراً عند “حياة القطط”، وقد تتمنى لو أنّك قطّة تنعم بالعيش الرغيد والسكن السعيد.

ومثل هذا الأمر لابد وأن يبعث موازنة خضراء، تكون موزّعة بالتساوي على أحوال القطّ العربي والقطّ البريطاني، على اعتبار أنّ القطط هي المرآة العاكسة لثقافة الشعوب، ومحاكية لتصرّفاتها.

●أوّل الموازنات:

تبرز في “الهيئة والشكل”، فالقطّ البريطاني سليم الجسم، معافى البدن، كامل الأعضاء، في حين أنّ نظيره -أو لنقل أخوه غير الشقيق- وأعني العربي لابد وأن يكون مدهوس الذّيل، أو أعرج القدم أو مبتور اليد، “ومفضوخ العين” أو منتوف الشّارب، ناهيك عن التشوّهات الأخرى.

●ثاني الموازنات:

أنّ القط البريطاني “Friendly” يعايشه النّاس ويعيش معهم، ويجلس بينهم ويضاحكهم، ويستقبلهم بالتبسّم، ويتابع معهم البرامج التّلفزيونيّة -أو التّلفازيّة- ، ويبتسم مع اللقطات المضحكة حتى تبدو نواجذه ولسانه، في حين أنّ القطّ العربي يبدو مرعوباً مما حوله، لا تشاهده إلا مهرولاً، أو راكضاً، متوجّساً من رمية حجر، أو ملاحقة طفل، أو دهسة سيارة عابرة، إنه قطّ يشعر بالوحشة من الناس، معتبراً نفسه في حالة حرب دائمة لا تنتهي إلا بموته.

●ثالث الموازنات:

أنّ القط البريطاني مرتب النسل، لأنّ الهرة الحامل تشعر بالأمان وتجد الرِّعاية، علاوة على أن الحمل لا يتمخض إلا عن مولود أو اثنين، سليمي الجسم والبصر، في حين أنّ القطّ العربي فوضوي النّسل، ولا هم “للهرة الحامل” إلا البحث عن مكان آمن لتنفيذ عملية الولادة، وغالبًا ما تتمخض الولادة عن سبعة أو ثمانية أو عشرة قطط، ومع “الربشة” في الولادة غالباً ما يكون أولادها مكفوفي البصر، ورحم الله أهل مكّة المكرّمة عندما قالوا:(عليكم بالرّفق فإنّ البسّة من عجلتها جابت عيالها عُمي)!!!

●رابع الموازنات:

القطّ البريطاني يلتقي بحبيبته -ولنقل بهرته المصونة- بكل سلام وترتيب، بعيداً عن أعين الرُقباء، ويمارس حياته العاطفيّة في حالةٍ تكسوها العاطفة، وتغشاها الأشواق، ويجمّلها التّأني وطول الوقت، في حين أن القطّ العربي لا يرى حبيبته إلا بشقّ الأنفس، وعذاب الانتظار، ومتى يراها تكون السرعة هي إيقاع اللحظة، والتلفّت هو سيد الاهتمام، ناهيك عن مكان اللقاء الذي غالباً ما يكون سيارة مهجورة، أو خلف سلة زبالة، أو تحت سيارة كساها الظلام، ونظراً للعجلة التي تفرض نفسها على أجواء اللّقاء، فقد يصل القطّان العربيان إلى حالة من الزعل، حين يلحّ الذَكَر على الفعل، في الوقت الذي تلحّ فيه الأنثى على الكلام والحديث عن الشوق والأمل!

●خامس الموازنات:

تأتي من حيث الطعام، فالقطّ البريطاني يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة، ولا تخلو “البقالات” في بريطانيا من جناح يُعنى بشأن القطّ ويلبّي احتياجاته، وهذا الأمر بدوره أورث القطّ البريطاني شيئاً من “الإتكاليّة”، وعوّده على “سلوك التنبلة”، وكلما شاهدت قطّاً بريطانياً رابضاً ضحكتُ بوجهه قائلاً:

دَعِ “المَطَاعِمَ” لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها..

واقْعُدْ فإنّك أنت الطاعِمُ الكاسِي!

أي أنت “المُطعم والمَكسو” وهذه تنبلة ودلاخة.

وفي الجانب الآخر، نجد القط العربي “عصامي”، يتصيّد فأراً هارباً، أو “ينبش زبالة” هنا، أو يتحرّى جراداً هناك، إنّه “طوّاف” يشمّر عن ساعديه، وقد يهلك بسبب بحثه مع معيشته، إنّه يخرج في الصباح وهو يلعق المرارة مردّدًا مقولة أهل اليمن: (لقمة العيش مُرّة)!

●سادس الموازنات:

أنّ القطّ البريطاني يقبل الآخر، ويتعايش مع الكلب في منزل واحد، ولا يمتلك الحقيقة، إنّه قطّ ديمقراطي، أكثر من ذلك إنّه قطّ صامت، لا تسمع له همساً أو حساً. في حين أنّ القطّ العربي في صراع مع القطط التي تجاوره ولا تستغرب إذا سمعت أنّ مجموعة من القطط اجتاحت القطط المجاورة واستولت على “مدخراتها الغذائية والأنثوية”!

إضافة إلى ذلك إنّه لا يتمتع بفضيلة الصمت بل هو يملأ الشوارع “بنونوته” وصراخه.

●سابع الموازنات:

نجد القطّ البريطاني يحرص على الهويّة والانتماء والأصالة، لذا لا ترى القط البريطاني إلا وهو حامل تاريخه واسمه وعنوانه على رقبته، الأمر الذي جعله في مأمن من الضياع، وفي سلامة من الصراع، في حين أنّ القطّ العربي -رغم ولعه الشّديد بأمور الهويّة والانتماء- يبدو خالي الرّقبة، مجرّداً من الانتماء، لا يظهر على رقبته إلا شيء من خدش حجر، وأثر من دهسة كفر، وما زالت الفئران العربيّة تريد التآمر على القطط العربيّة، وتوصّلت الفئران إلى حلٍّ مفاده تعليق جرس ليكون بمثابة صفارة إنذار لهن من مغبة هجوم القطط المفاجئ، ولكن كان مصير الاقتراح الفشل إذ ما زالت الفئران تتساءل، والتاريخ يسأل: من يعلّق الجرس؟

●ثامن الموازنات:

أنّ القطّ العربي وشقيقه البريطاني يشتركان في امتلاك أسلحة البقاء الشامل المتمثّل في وجود سبع أرواح عند القطّ العربي، ووجود تسعة أرواح عند نظيره البريطاني، لذا يقولون في أمثالهم”a cat has nine lives” ، لكن الفرق أنّ القطّ العربي يستنفد فُرَصه السبع في الحياة، إذ هو يتعرّض كل يوم لمحاولة دهس، الأمر الذي يجعل “الحسّابة بتحسب”، حتى يصل إلى روحه السابعة التي تحمله إلى الموت، في حين أنّ القطّ البريطاني قد يعيش كلّ عمره دون أن يتجاوز روحه الأولى، وأتحدّى من يشاهد في بريطانيا قطّاً أو حتى قطّة قد ذهبت روحها نتيجة دهسة!

●تاسع الموازنات:

القطّ البريطاني إذا اشتكى منه عضو تداعت له كل الأسرة التي يسكن معها، وحملوه إلى الطبيب المختص، ووقفوا معه في مصابه الأليم، ولا زلت أتذكّر أنّ معلمتنا “كاثرين” غابت عنا ذات أسبوع، وعندما سألنا عنها قالوا إنّها في حالة حزن ألمّت بها نتيجة مرض قطّتها “المصونة”، وما غيابها إلا لكون القطّة تحتاج الرعاية والملاحظة وإعطائها جرعات الدواء في الصباح والمساء. في حين أنّ القطّ العربي يولد ويموت دون أن يشعر أنّه ذاق طعم الرعاية، أو أحسّ بمذاق الحنان، فهو يمرض ويموت من غير أن يردّد مع الفنان محمد عبده قوله: (أرفض إنّي أموت… ولا درى بموتي أحد)، بل هو يريد أن يموت دون أن يعلم به أحد، ولو علم به هذا “الأحد” سيكون من الشامِتين أو المتفرّجين.

●عاشر الموازنات:

تبدو في الأماكن المفضّلة لدى القطّ البريطاني، والتي تتنوّع ما بين النافذة لمراقبة الناس وإبداء الابتسامة لهم، أو صالة الطعام لتناول ما لذّ وطاب، أو جالس على الرصيف يراقب ويتأمّل، أو في غرفة التّلفزيون لمتابعة البرامج ذات الحسّ الفكاهي، ولا زلت أتذكّر أنّ سيدة بريطانيّة كان لديها قطّ وسيم، وكان يجلس معها ويشاهد الشاشة، وبدا مشدوداً في متابعة أحد البرامج، فلمّا قامت السيدة بتغيير القناة نظر إليها القطّ نظرة عتاب، فهمتها السيدة وأعادت القناة إلى سيرتها الأولى. في المقابل نرى أن الأماكن المفضّلة للقطّ العربي، هي الأماكن الآمنة، لأنّ المطلب الأمني هو غاية مناه وأقصى رجاه، لذا تجده دائما فوق أسوار المنازل، أو على أعالي السيّارات، أو في حاويات القمامة، أو في الخرائب المهجورة.

ومن الغريب أنّ القطّ العربي يمتاز بأنّه يسير في الشوارع ولا يحب المشي على الرصيف، لأنّ ذلك من مظاهر الأدب والتربية، في حين أن قطع الشارع في كل وقت من مظاهر الرجولة والفوضى.

●الموازنة الحادي عشر:

أنّ القط البريطاني لا يحب العبث اللفظي، ولا يهتمّ بالشّكليات المتمثّلة في كثرة الألقاب والأسماء، فهو لا يملك إلا اسماً واحد هو “cat”، في المقابل يبدو القطّ العربي مغرماً بالأسماء والألقاب، فهو “قط” و”سنور” و”بس” و”قطو” و”سعيدون” و”هرة”، وقد زعم أحد علماء اللغة أنّ للقطّ أكثر من عشرين اسمًا. واختلف أهل الصرف في جمعه؛ فقيل يجمع على قطاط وعلى قططة، وعلى قطط. وتذكر كتب التّراث أنّ أحدهم صاد قطّاً وهو لا يعرفه، فلمّا دخل إحدى القرى ليبيعه قالوا له “إنّ هذا قط” ولما وصل إلى القرية الثانية قالوا له إنّه “سنور” ولما وصل الثّالثة أعطوه اسما ثالثاً ففرح هذا الأعرابي بما صاده معتبراً أنّه حيوان غالي الثمن عطفاً على كثرة أسمائه، فلما حاول بيعه لم يساوِ ثمنه الطعام الذي كان يطعمه إياه، ولم يبلغ قيمة الجهد الذي بذله في صيده، فما كان منه إلا أن أفلت القط بعد أن أوجعه ضرباً قائلا له: تباً لك ما أكثر أسماءك وما أقلّ ثمنك!

●الموازنة الثانية عشرة:

تبدو متمثلة في أنّ القطط بشكل عام فُطِرت على النوم الكثير والنسيان الوفير، ومثل هذا ينطبق على القطّ البريطاني ودائماً ما كنت أرى القطط التي بجوارنا مسترخية متهدّلة، كسولة، وعندما قال أهل بريطانيا “إن الهمّ قتل الهرة” “care killed the cat” ، فهم يقصدون أنّ الهمّ أثّر في ذلك الحيوان، الذي لا يتأثّر بشيء جرّاء تبلّده وغفلته عن الناس، في المقابل نجد أنّ القطّ العربي مهموم مغموم طوال الوقت، بل ينطبق عليه المثل البريطاني القائل (الفضول قتل الهرة) “curiosity killed a cat”، والقطّ العربي يبدو فضوله خليطاً من البحث عن لقمة العيش إضافة إلى تدخّله فيما لا يعنيه، وكم رأيت من القطط في مدينتي بريدة من يلفّ على الحارة كلّها متفقداً أحوال الرعية القططيّة ومتدخّلاً في شؤونها، ولا غرابة في ذلك، فالقطّ العربي مشغول بإصلاح الكون، يتابع أحوال القطط الأخرى من الصين حتى كشمير.

●الموازنة الثالثة عشر:

القطّ البريطاني معتدل في مشيته وحبّه وألفاظه، ويبدو اعتدال المشي عنده ناجم عن توازن شاربه، بما يتيح له الفرصة على المشي مستقيماً وتلمّس طريقه واستشعار سبيله من خلال الشوارب المتوازنة، أكثر من ذلك هو معتدل في حبّه فلا يأكل أولاده خشية إملاق أو شهوة عداء مستطير، كما أنّه معتدل في عَدوِه، فلا هو راكض ولا هو بطئ، وإنما يتخذ بين ذلك قواماً، أما في الأمكنة فهو ينتبذ من المكان ما كان وسطا دون غلو أو شطط. وكل هذه الميزات القططية يبدو نظيره العربي خلواً منها؛ فهو متعرّج الخطو منحرف الاتجاه وما ذلك إلا لفقدانه صفة “التوازن الشّاربي” بفعل معركة هنا و”معط” من إنسان هناك، وأما جوره في مسألة الحب فناتج عن رغبته الملحة في قضم عياله حال شروقهم في الدنيا من فرط الإملاك، وربما -وهذا في حالات نادرة- يقوم بهذا الفعل الشنيع جرّاء دفقة من الأشواق تعدّت حدود النطاق، ولا غرو فـ(من الحب ما قتل)، كذلك يمارس القطّ العربي في مسألة الحب ضرباً من الخنوع والخضوع لمن هو أقوى منه، تحركها قناعة راسخة فيه وقودها “القط يحب خنّاقه”.

أما فيما يخص الأمكنة فالقطّ العربي صاحب الحظ الوفير في اختيار متطرّفها، فهو إما في أسفل السيارة أو في أعلاها في حين أن صاحبه البريطاني في وسطها -أي راكباً فيها- ومن الأمكنة أيضاً اختار القطّ العربي أقصى الغرف وأبعد الحجرات ناهيك عن أنه ينتبذ من الجدار أعلاه، مردّداً مقولة جده أبي فراس الحمداني:

ونحن (قطاط) لا توسّط بيننا..

لنا الصدر دون العالمين أو القبر!

وبُطء القط العربي في المشي ليس ناتجاً عن رغبة منه في اقتصاد الخطوات، أو تأمّل الحياة، وإنما يكون مبعث ذلك مرض من الأمراض أو خلل في وظائف الأعضاء أو شهوة في الانتحار، وسرعته وركضه غالباً ما تكون طلباً للنجاة في مضمار (توم وجيري)!

أما في مسألة الألفاظ فصاحبنا العربي يختار من الألفاظ أو “النونوة”، أو “المواء” ما يشير إلى الهمز واللمز والضرب تحت الحزام، لذا يُروى أنّ قطط الحواضر العربية عندما أبصرت قطط البوادي تسعى إلى محاولة تهذيب سلوكها وتعليم نفسها من خلال الانخراط في دورات تدريببية، شيّعتها بسخريتها المعهودة قائلة: (فتّحوا أولاد القطّة)، في محاولة لتحقير شأن قطط البوادي..!

حسناً ماذا بقي؟

بقي القول أنّ هذه موازنات لمشاهِدٍ عابر، وبالتأكيد هناك الكثير في قضايا القطط الشائكة، وممارساتها القوليّة والفعليّة، وهكذا تبدو القطط وسائر الحيوانات، وعلى هذا المفهوم يدور هذا القول وما سبقه من إشارات تُفهم في سياقها فقط وليست هناك أية فرصة لإسقاطات أو نيّة لهمزات أو غمزات تجنح نحو التأويل والقراءة خارج ما هو مقصود به من ترصّد لسيكولوجية القطط فقط.

وما تصرّفات قططنا إلا ردّات فعل لطريقة تعاملنا معها، وصدق من قال: (إذا أردت أن تعرف وعي شعب فانظر إلى حالة قططه)، ولا ينبئك عن تصرّفات الناس مثل القطط.

**ملاحظة:

هذا المقال نشرته قبل عشرين سنة، والآن أُعيد نشره بعد أن ضاع في بطن الشبكة العنكبوتية.

شاركها.