غزة- قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كان أحمد الأطرش (47 عاما) يعيش مع زوجته شادية (45 عاما) وأطفالهما حياة بسيطة في القطاع، حيث لم يكن رزقهم وفيرا، لكنه كان كافيا للعيش بكرامة في بيت صغير لا يطرقه الجوع.

يقول الأطرش بصوت تخنقه الحسرة “قلبت الحرب على غزة حياتنا رأسا على عقب، سلبتنا سعادتنا البسيطة وأحلامنا المتواضعة، ودفعتنا نحو جوع لا يرحم، التهم أجسادنا حتى انهارت”.

وأضاف للجزيرة نت “كنت أتقاضى شيكا من برنامج الرعاية الاجتماعية بقيمة 1800 شيكل (530 دولارا) كل 3 أشهر، وأعمل في مهنة الدهان من الفجر حتى المغيب، بأجر يومي لا يتجاوز 40 شيكلا، كنت أنفقه على زوجتي وأطفالي السبعة، بالإضافة إلى والدتي المسنة”.

ويضيف “رغم ضيق الحال كنت راضيا، لم أملك الكثير من المال، لكننا كنا نشعر بالأمان وراحة البال، ومع اندلاع الحرب انهار كل شيء دفعة واحدة”.

ويسرد الأطرش ما حصل معه بعد ذلك بالقول “توقف صرف مخصصات الحماية الاجتماعية (يسمونها الشؤون الاجتماعية)، وتوقف عملي، وتلاشى كل ما كان يضمن لنا قوت يومنا، في وقت ارتفعت فيه الأسعار بشكل جنوني، واشتد الجوع حتى بات يؤلم الأمعاء، لم أعد أملك ما أشتري به دقيقا أو طعاما أسد به رمق أطفالي”.

الاطرش وابنته آلاء في منزلهما المقصوف والذي يشهد على جوعهما (الجزيرة)

وفي محاولة يائسة للتغلب على الجوع بدأ الأطرش يرسل ابنه الأكبر محمد (17 عاما) إلى ما تسمى مراكز توزيع المساعدات في منطقة نتساريم رغم خطورتها، مضيفا “أنتظر عودته بين خوف على حياته، وأمل في أن يحمل إلينا شيئا نأكله، فقد أصبح مصيرنا مرتبطا بخبز قد يعود به محمد، وقد لا يعود”.

أما محمد فتحولت حياته إلى سباق يومي مع الخطر، يركض خلف الصناديق التي تُسقطها طائرات المساعدات، ينافس الرجال والنساء للوصول إليها أولا، على أمل أن يحظى بطرد غذائي، فالعودة خالي اليدين ليست خيارا بالنسبة له حتى لو جازف بالوصول إلى “مصائد الموت” كما يسمي الأهالي مراكز توزيع المساعدات أو محطات إلقائها من الجو.

وبينما ينشغل الابن بالسباق الدامي ترسل والدته شقيقاته الثلاث يوميا إلى “تكية أبناء النصيرات” القريبة من المنزل، للحصول على قليل من حساء العدس أو الفاصولياء أو الأرز وعلى أي حصص قد لا تكفي لسد الجوع، لكنها تبقى على شريان الحياة الوحيد، كما تقول الأم شادية.

الاطرش وزوجته يتوسطون أبناءهم قي بيتهم الذي يفتقد لمقومات الحياة
الأطرش وزوجته يتوسطان أبناءهما قي بيتهم الذي يفتقر إلى مقومات الحياة (الجزيرة)

هُدم البيت

لم يكن الجوع وحده ما طرق باب أحمد الأطرش، بل جاءه الموت أيضا، فيذكر “في صبيحة 8 حزيران (يونيو) 2024 شنت إسرائيل هجوما جويا مباغتا على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تزامن مع تغطية نارية كثيفة لوحدات كوماندوز خاصة تسللت لتحرير 4 أسرى إسرائيليين”.

ويضيف “اشتعلت السماء بالقصف، كما امتلأت الأرض بالموت في المجزرة التي تُعرف بـ”مجزرة الرهائن”، حيث استشهد أكثر من 270 فلسطينيا، وأصيب ما يزيد على ألف -معظمهم من المدنيين- ليتهدم البيت فوق رؤوسنا، فاستشهدت والدتي تحت الركام، ونجونا بأعجوبة، لكننا خرجنا جميعا مصابين، نحمل على أجسادنا جراحا، وفي قلوبنا فاجعة لا تُنسى”.

أصيب أحمد بجروح في الرأس والظهر أثّرت على حركته، في حين تعاني زوجته من إصابات في الصدر والظهر وتحتاج إلى عمليات وعلاج طبيعي وأدوية وطعام خاص لا يمكن توفيره في ظل الحصار، أما أطفالهما فقد أصيبوا بجراح طفيفة.

ومنذ ذلك اليوم باتت العائلة تعيش على شفير الموت جوعا، بلا عمل وبلا معونة وبلا طحين ولا خبز، وتتساءل شادية بمرارة “من سيطعم أطفالي؟ من سيرحمهم من هذا الجوع؟ من سيوفر لي الدواء؟ فزوجي عاجز عن الوقوف، وأنا لا أملك شيئا”.

تنفجر الأم بالبكاء وهي تتحدث للجزيرة نت “أطفالي يتلوون جوعا أمامي، ولا أملك لهم شيئا، أرسلهم إلى التكايا، فيعودون ببقايا طعام لا تسمن ولا تغني من جوع”، مضيفة “أتمنى الموت تحت القصف ولا أرى أطفالي يتعذبون وأنا عاجزة تماما عن فعل شيء”.

لا أمان ولا طعام

ومن ركن مظلم في المنزل تتحدث الابنة آلاء (14 عاما) وهي تحاول إخفاء دموعها، وتقول “الحرب دمرت بيتنا وحرمتنا من أبسط حقوقنا الإنسانية كالأمان والطعام”.

وتضيف للجزيرة نت “تمر علينا أيام لا نأكل فيها شيئا على الإطلاق، نحن أطفال، لم نقترف ذنبا، حلمنا فقط أن نعيش مثل أطفال العالم، لكن الاحتلال لا يرى فينا إلا أهدافا للموت والتجويع”.

ومنذ توقف التهدئة في 18 مارس/آذار 2024 يعيش سكان غزة تحت حصار خانق بعد أن أغلقت إسرائيل المعابر ومنعت دخول المساعدات، ليتفاقم الجوع ويلقي بقسوته على أكثر من مليوني إنسان.

وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، دخل قطاع غزة المرحلة الثالثة من المجاعة، وفق تصنيف شبكة معلومات الأمن الغذائي العالمية (آي بي سي)، حيث تتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل خطير، وسط نقص حاد في الدواء وانعدام شبه تام للغذاء.

شاركها.